بين القمة العربية ونهاية عهد بوش: آفاق الصراع الإقليمي
نيويورك – راغدة درغام
تسعة شهور بين انعقاد القمة العربية المفترض في دمشق نهاية الشهر وبين انتهاء ولاية إدارة جورج دبليو بوش في أعقاب استكمال الانتخابات الرئاسية الخريف المقبل.
تسعة شهور تجد فيها الشراكة الإيرانية – السورية فرصة لها للتأثير ليس فقط في صنع السياسة الأميركية نحو الملف الذي يضمهما مع «حزب الله» في لبنان و «حماس» في فلسطين، وإنما أيضاً للتأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، حسب تصورهما. الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يتشوّق للدور التاريخي الذي لعبته الثورة الإيرانية عندما احتجزت الرهائن الأميركيين في عهد الرئيس جيمي كارتر لتفرج عنهم فقط يوم تسلم الرئيس رونالد ريغان السلطة.
والرئيس السوري بشار الأسد يحلم بأن يلعب دوراً تاريخياً عبر رئاسة سورية للقمة العربية، فهو يريد أن يحيك نظاماً عربياً جديداً خاضعاً لموازين القوى الاقليمية بهيمنة إيرانية أتت بها الحرب الأميركية في العراق، ومكبلاً بتطورات تمليها دمشق على الساحة اللبنانية، وضائعاً نتيجة افشال سوري وإسرائيلي مدروس للمبادرة العربية للسلام في الشرق الأوسط. والسؤال الذي يستولي على ذهن كثير من القيادات العربية هو: ما العمل لا سيما في مرحلة التسعة اشهر الانتقالية والحاملة بشتى الاحتمالات، من شرارة حرب مفتعلة أو وليدة خطأ غير مقصود، إلى حال من العجز التام الذي قد يقوّي حلف التطرف ويزرع بذوراً من الصعب اقتلاعها. وكي لا تستيقظ الولايات المتحدة إلى أمر واقع آخر لا يعجبها، عليها أن تطرح الآن السؤال ذاته قبل فوات الأوان. فما تحصده منطقة الشرق الأوسط زرعت السياسات الأميركية جزءاً مهماً منه عبر السنوات. الغطرسة الإسرائيلية واستمرار الاحتلال والاستيطان ورفض الانصياع لخريطة الطريق إلى السلام، هي حصيلة الدلع الذي أغدقته مختلف الإدارات الأميركية على إسرائيل عبر العقود الماضية، وقد حان وقت وقفه الآن.
والغطرسة الواضحة في أساليب الجمهورية الإسلامية في إيران هي، جزئياً، وليدة حرب الرئيس جورج دبليو بوش في العراق، وكذلك أفغانستان، وقد حان وقت الاعتراف بذلك والإقرار بالاخطاء والتحسب كما يلوح في الأفق. فالتسعة أشهر المقبلة ليست ملكاً قاطعاً لقرارات إيرانية أو سورية أو إسرائيلية بتغيب أميركي ودولي. بل العكس، ان البلدين والنظامين يقعان تحت رقابة دولية واجراءات عقوبات منها ما شق طريقه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما نحو إيران، ومنها ما يشق طريقه حتماً، كما نحو سورية.
هناك دلالة مهمة في التقرير الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عن موافقة الرئيس الأميركي رأي الحاكم الأميركي المدني السابق في العراق بول بريمر بحل الجيش العراقي منقلباً بذلك على الخطة الأصلية للإدارة الأميركية التي أقرت نزع سلاح الحرس الجمهوري وإبقاء بقية وحدات الجيش العراقي. بحسب التقرير، حظي بريمر بموافقة الرئيس بوش، مما فاجأ أعضاء المجلس القومي بمن فيهم مستشارة الأمن القومي حينذاك كوندوليزا رايس.
هذه الدلالة هي أن جورج دبليو بوش الذي قيل عنه إنه رئيس المقعد الخلفي لنائبه ديك تشيني قد لا يكون هكذا على الاطلاق. انه يتصرف، كما يبدو، حسبما يرتأيه شخصياً. وهذا ما سبق وأكده أحد أقرب الناس إليه، محتجاً على الافتراض الخاطئ بأن جورج دبليو بوش ضحية فكر وتفكير الآخرين في إدارته.
في الأشهر القليلة المتبقية من ولايته، أمام الرئيس الأميركي المثير للجدل فرصة توظيف ملامح من شخصيته لخدمة قناعات له يقول إنها في صلب المصلحة الوطنية الأميركية، ومن بينها انشاء الدولة الفلسطينية وضمان استقلال لبنان واستقراره، والحرص على عدم تدهور العراق.
فليغضب جورج دبليو بوش قليلاً من ممانعة إسرائيل احترام التعهدات التي قطعتها هي وتلك التي قطعها الرئيس الأميركي عندما وعد بالعمل الدؤوب وتفاءل بقيام دولة فلسطين عام 2008، أي قبل انتهاء ولايته. ليُسمّ الرئيس الأميركي الأمور بأسمائها ويقل لإسرائيل، كيفما شاء، إن الولايات المتحدة لن تتمكن بعد الآن من تقديم التغطية والتبرير للتجاوزات الإسرائيلية محتمية وراء قذائف تطلقها «حماس». ليقل علناً إن بناء المستوطنات الإسرائيلية يشكل انتهاكاً صارخاً للالتزامات بموجب «خريطة الطريق» إلى السلام، وان الولايات المتحدة لا تقبل بالعقاب الجماعي للفلسطينيين في غزة بذريعة الانتقام من «حماس».
إسرائيل شريك لـ «حماس» في العمل على تقويض السلطة الفلسطينية بمنهجية، لأن الطرفين في حاجة إلى استمرار النزاع، كلاهما يرفض استحقاقات السلام ومتطلباته، ولذلك يجد كل منهما ما يشتهيه في استدعاء الآخر إلى مواجهات ضحيتها المدنيون والطموحات بسلام على أساس حل الدولتين.
غريبة تلك الدعوات التي تنطلق من منظمات أميركية ودراسات ومقالات إلى احتضان «حماس» وجعلها شريكاً في المفاوضات. اما أن في الأمر سذاجة أو ان فيه عزماً متعمداً على اضعاف السلطة الفلسطينية المتمثلة بالرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض، في خضم المفاوضات على انشاء الدولة الفلسطينية.
فما جاء في تقرير أخير لمجموعة الازمات الدولية (كرايسز غروب) إنما يثير الشكوك والريبة. ففي أول فقرة من التقرير هناك كلام مُستهجن، إذ ينص أول سطورها على أن «سياسة عزل حماس ووضع غزة تحت العقوبات سياسة مفلسة أدت إلى نتائج عكسية. فالعنف يزداد بما يؤذي الغزاويين والإسرائيليين. والظروف الاقتصادية منهارة تخلف وراءها الغضب واليأس. صدقية الرئيس عباس والبراغماتيين الآخرين قد دُمرت».
في هذه الكلمات مؤشر واضح على انحياز هذه المجموعة ضد السلطة الفلسطينية، وهو امر مثير للفضول حقاً لا سيما عند التدقيق في من يعمل ضمن هذه المجموعة التي تتقدم بوصفاتها الاستعلائية. لماذا ضرب صدقية الرئيس عباس والاستهزاء بالبراغماتيين الآخرين تلميحاً إلى سلام فياض؟
إن العنف يزداد بسبب سياسات وممارسات كل من «حماس» وإسرائيل وليس ابداً نتيجة سياسات البراغماتيين في السلطة الفلسطينية. إن غزة تحت العقوبات والعقاب الجماعي نتيجة قرارات كل من «حماس» والحكومة الإسرائيلية وليس أبداً نتيجة قرار للسلطة الفلسطينية.
إذا كان الهدف من هذه الحملات انشاء قنوات بين «حماس» وإسرائيل، فلا داعي لهذه الحملات، لأن القنوات مفتوحة من خلال عرّابين، عرب وغير عرب. الكلام عن تفاهمات بين اسرائيل و «حماس» على مسائل مثل وقف النار والكف عن اغتيال القيادات الفلسطينية مقابل وقف اطلاق القذائف على إسرائيل شيء، أما أن يكون هدف العرابين وذوي الحملات التأهيلية اضعاف السلطة الفلسطينية التي تتفاوض مع إسرائيل فشيء آخر. فلتتعانق «حماس» وإسرائيل كما تشتهيان. إنما اذا كان هدفهما، ومن يدعمهما في عناقهما، تقويض السلطة الفلسطينية، فمعنى ذلك أن الهدف الحقيقي هو نسف المفاوضات على انشاء دولة فلسطين على أساس حل الدولتين.
وعليه، إذا كان الرئيس الأميركي جدياً في تعهده انجاح هدف انشاء الدولة الفلسطينية، فليغضب قليلاً من حليفه الإسرائيلي الذي يكرر هروبه بعيداً عن الحل السلمي، كما فعل في السابق تكراراً. فالمشكلة ليست في «حماس» فقط وانما هي في اسرائيل ايضاً. ثم ان «حماس» لا تتصرف باستقلالية من أجل الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، وانما تتصرف تلبية لأجندة اقليمية مهمتها التطرف، قوامها رفض حل الدولتين، وعنوانها دمشق وطهران.
حلقة الوصل الاساسية في حلف التطرف هي دمشق التي تستعد لترؤس القمة العربية وتوظيف ذلك لحسابها وحساب ايران. الخلاف العربي – العربي العميق ليس فقط بسبب لبنان وإصرار سورية على انه ورقة من أوراقها لن تضحي بها مهما كان. المعركة الحقيقية هي حول مصير العلاقة العربية – الايرانية على ضوء إصرار ايران على أنها في موقع قوي يمكنها، أخيراً، من تصدير نموذجها الى المنطقة.
وسائل تنفيذ هذا الهدف لا تقتصر على العراق والذي هو الأهم في الاستراتيجية الايرانية. فهي تشمل تحويل لبنان الى قاعدة اساسية لنموذج الجمهورية الاسلامية الايرانية، وتشمل سورية كونها حلقة الوصل مع «حزب الله» ومربط خيل المنظمات الفلسطينية المتطرفة.
القيادة السورية الحالية تحتضن حروب «المنطق» ذاته التي احتضنتها برئاسة حافظ الأسد، أي اللعب بين منطق المقاومة ومنطق التفاوض. العلاقة الاستراتيجية السورية – الايرانية في عهد الأسد الاب تحولت الى علاقة اتكالية للبقاء وللتخويف والانتقام في عهد الاسد الإبن الذي ابلغ أكثر من زائر انه لن يتخلى عن العلاقة التحالفية مع طهران أو عن «حزب الله» في لبنان تحت أي ظرف كان.
ما يتبادله القادة العرب من أفكار يشمل ما يمكن تسميته «منطق التأني» من دون إبداء الخوف من الانتقام أو التصعيد في المواجهة مع دمشق. قد يقال ان الرابح من التخويف بالانتقام هو الذي يهدد باستخدام أدوات يمتلكها للانتقام من الجيرة المباشرة العربية بالذات لأنه يكسب من شراء الوقت ولأن الجيران إما ضعفاء أو خائفون من الانتقام.
انما التأني يعني ايضاً المراقبة الدقيقة والترقب المتأهب للأخطاء التي لا بد سترتكبها طهران ودمشق في استنتاجهما ان التسعة أشهر المقبلة هي فرصتهما لإخضاع الآخرين في المنطقة العربية، دولاً ومجموعات وأفراداً. ذلك ان الايديولوجية التي يتبناها النظامان في ايران وسورية لا محال ستفشل في التفشي في المنطقة بدءاً بلبنان. فهي ايديولوجية منافية للطبيعة ولذلك، لا مناص ان تفشل مهما تخيل أصحابها أنها قابلة للتصدير أو للبقاء.
قد يستغرق الامر بعض الوقت الى حين انتصار منطق رفض الإذعان للتسلط والابتزاز والخوف من الانتقام. انما الطريق الى النصر ستكون وعرة ليس لأصحاب منطق التأني وانما لأصحاب منطق الغرور والإدعاء بأن لا خوف في قلوبهم، فيما الذعر يأكل صميمهم ويحرمهم النوم. فلقد أقلعت المحكمة الدولية وستتم محاكمة الذين تورطوا في الاغتيالات السياسية في لبنان. وسيضطر مجلس الأمن الدولي الى فرض عقوبات على سورية اذا لم تلب قراراته.
قد لا يغضب جورج بوش لدرجة انذار دمشق بأن ترفع يديها عن لبنان، وقد يغضب، انما الأرجح ان يرتكب النظام في دمشق ما يكفي من أخطاء في مرحلة التسعة أشهر المقبلة وما بعدها.
فالمرشحون للرئاسة الاميركية، وكذلك الرئيس الحالي، أوضحوا جميعاً ان لبنان لن يكون سلعة في الصفقات. قد يتحدث بعضهم مع سورية وايران وقد يتفاوض مع أحدهما أو كليهما، انما لن يقدم أي منهم لبنان قرباناً لاي تفاهم كان. والسبب هو ان الجميع فهم أخيراً معنى المعركة على لبنان.
ولأن هذه المعركة مصيرية للعالم العربي وللمصالح الدولية في المنطقة، من الضروري إجراء المراقبة الدقيقة ليس فقط لما سيحدث من الآن بل حتى القمة العربية آخر هذا الشهر. من الضروري أخذ الاجراءات الاحترازية والاجراءات العقابية أثناء الفترة التي تفترض طهران ودمشق انها فترة مواتية للتخريب والانتقام – فترة التسعة اشهر الآتية.
الحياة – 21/03/08