إعلان دمشق: آلة القمع دائرة ومطحنة المصطلح قاصرة!
صبحي حديدي
الأرجح أنّ انعقاد المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق”، مطلع هذا الشهر، كان الحدث السياسي الأبرز في سورية خلال العام 2007، سيما وأنّ تداعيات الحدث (سواء موجة الاعتقالات الأولى التي نفّذتها أجهزة الأمن وشملت العشرات من كوادر المجلس، ثمّ الموجة الثانية التي طالت المستوى القيادي للمجلس وأمانته؛
أو السجال السياسي والنظري الذي اندلع في صفوف أعضاء المجلس أو أصدقائه، أحزاباً أو أفراداً) انطوت على أسباب إضافية ترجّح أهمية الحدث في السياقات الراهنة، وفي الآفاق المستقبلية لمسارات عمل الإعلان ذاته، وتيّارت المعارضة السورية إجمالاً. وليس إزجاء المزيد من الإطراء للإعلان وأهله هو الغرض من التشديد على هذه الأهمية، بل هو التذكير مجدداً بأنّ الحدث كان نوعياً وفاصلاً، ولسنا نشهد اليوم إلا تداعياته الأولى والأبكر.
ففي صفّ السلطة، بادىء ذي بدء، كانت معطيات كثيرة تشير إلى أنّ أذكى التقديرات الأمنية ـ السياسية (وهي نادرة تماماً) كانت تذهب إلى الخلاصة التالية: إذا واصل “إعلان دمشق” حضوره الهلامي، سياسياً واجتماعياً وإيديولوجياً وثقافياً، عدداً وعدّة وأنشطة، كما بدأ في 16/10/2005؛ ثمّ إذا انقلب، أكثر فأكثر، إلى مظلة عريضة (أي: منفلشة، مفلطحة، غامضة، شائهة التكوين…) تدلف تحتها، وتحتمي بها، وتتعطّل معهامختلف تيّارات المعارضة السورية (بما في ذلك مكوّن المعارضة الأمّ والأقدم، “التجمّع الوطني الديمقراطي” الذي تأسس أواخر 1979)، وكفى الله المعارضين شرّ المجابهة… فلا ضرر على السلطة، ولا ضرار!
في عبارة أخرى، كان المأمول ـ أو على نحو أدقّ: المطلوب ـ من “إعلان دمشق” أن يفاقم عطالة المعارضة السورية، لا أن يرفدها هلى نحو جدّي وملموس، لكي ينشّطها وينتقل بها ومعها إلى طور أرقى في العمل السياسي والمجتمعي والمدني المعارض. وكانت تقديرات السلطة، الأمنية ـ السياسية ذاتها، تذهب إلى أنّ الوقت لن يطول قبل أن يغرق أهل الإعلان في سفسطة نظرية طاحنة بين مكوّنات الإعلان القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، فتنشب حروب داحس والغبراء حول أولوية مسمّى الأجندة الوطنية (التي لا مناص من أن تخدم “نظام الممانعة والتصدّي” في آخر النهار) مقابل مسمّى الأجندة الديمقراطية (التي تزعج النظام بالضرورة لأنها تضع الإستبداد في رأس المخاطر التي تتهدّد استقلال البلد ووحدته الوطنية)؛ وحول الفارق بين “الديمقراطية الليبرالية” و”الليبرالية الديمقراطية” (نعم، هكذا!)، أو حتى بين “الليبرالية الوحشية” و”الليبرالية الإنسانوية“!
والحال أنّ مقداراً كبيراً من ضجيج مطحنة المصطلحات، التي يمسك بعضها بتلابيب البعض الآخر على نحو مدرسي تارة واعتباطي طوراً وتعسّفي كاريكاتوري في كلّ حال، تعالى وتصاعد واحتدم بالفعل، ولكن… ليس داخل اجتماع المجلس الوطني ذاته، وليس طيّ بياناته الختامية، أو في مدوالات المؤتمرين ومداخلاتهم، كما اشتهت السلطة وخططت واشتغلت؛ بل في أعقاب انتهاء أعمال المجلس وخارج إطاره التنظيمي إجمالاً، وتلك كانت مفاجأة السلطة غير السارّة البتة! هذه، في جانب النوايا الحسنة من السجال، ظواهر صحية نافعة، لكي لا يقول المرء إنها طبيعية في منظورات ما آلت إليه أعمال المجلس؛ وهي، في جانب النوايا السيئة والألعاب الدونكيشوتية المألوفة، ظواهر ليست أقلّ فائدة في تظهير المواقف الخبيئة وحسم الاتفاق حول أخلاقيات التعايش وسط الاختلاف والتفاعل ضمن التعدّد.
وكان مقدار لا بأس به من محفزات اشتغال تلك الطواحين قد نجم ـ وهنا المفارقة الصارخة ـ ليس بوحي من روحية مختلف الوثائق التي صدرت عن مؤتمر المجلس ذاتها (إذْ، في إجراءات القياس المنطقية، ينبغي أن تكون هذه هي الفيصل في تشخيص ليبرالية أو ديمقراطية أو وطنية المؤتمر والمؤتمرين)، بل عن واقعة واحدة مؤسفة هي فشل ثلاثة من كبار قيادي حزب “الإتحاد الإشتراكي الديمقراطي”، أحد أبرز قوى المعارضة و”التجمّع” و”الإعلان”، في الفوز بعضوية المجلس الوطني. ورغم أنّ أحداً لم يشكك أبداً في سيرورة الانتخابات ذاتها من حيث ديمقراطية إجراءاتها ونزاهتها، فقد مالت بعض الأصوات القليلة إلى الحديث عن “تطبيق” مسبق استهدف إفشال وصول الثلاثة إلى المجلس، قبل أن يدفع الحياء الأصوات ذاتها إلى سحب نظرية المؤامرة هذه من التداول، واستبدالها بما هو أكثر جاذبية ربما: انتصار التيار الليبرالي!
والأكيد أنّ غياب رجل مثل حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب “الإتحاد الإشتراكي الديمقراطي” والناطق الرسمي باسم “التجمع الوطني الديمقراطي” وأحد أبرز مؤسسّي “إعلان دمشق”، عن قيادة الإعلان يعدّ أمراً مؤسفاً، أياً كانت نقاط اختلاف المرء مع الرجل شخصياً أو مع التيّار الذي يمثّله داخل حزبه. غير أنّ الأمر، في جانب آخر جدلي، جدير بمناقشة نقدية مستفيضة ومعمقة داخل صفوف الحزب أوّلاً، وقبل أيّ صفّ آخر، خصوصاً وأنّ السيدة ندى الخشّ (العضو في الحزب) كانت قد فازت في الانتخابات ذاتها. وهذا، في جانب جدلي ثالث هو الأكثر مغزى ربما، مؤشّر إلى أنّ روحية الخيارات التي استقرّت عليها مداولات المؤتمر قد لا تكون انسجمت بما يكفي مع طروحات عبد العظيم السياسية، وربما التنظيمة والفكرية أيضاً، أو لعلّها بلغت من التناقض أو التناحر درجة كانت كافية لكي تدفع غالبية المؤتمرين إلى الإمتناع عن انتخابه.
صحيح أنّ مفردة “الإقصاء”، التي راجت على الألسن قبل أن تسيل مدرارة من الأقلام، قد تكون واحدة من صفات ما جرى أثناء وبعد سيرورة الانتخاب (وكانت سليمة تماماً، بإقرار الجميع)، ولكن… أليست هذه هي كبرى ألعاب الديمقراطية: ننتخب ونُنتخب، لكي نقصي أو نُقصى؟ صحيح أنّ المرء (وكاتب هذه السطور، شخصياً) لم يكن يتمنى خسران عبد العظيم تحديداً في هذه الإنتخابات، لأنّ وجوده في قيادة المجلس كان سيشكّل قطباً ضرورياً لتفعيل الاختلاف وجلاء التعدّد؛ ولكن من غير المقبول للمرء ذاته أن يطعن في صدقية الإنتخابات ذاتها من منطلق انها أقصت هذا الرجل بالذات. فكيف إذا جرى تجريد فعل الإقصاء من مشروعيته كإجراء ديمقراطي، ثمّ تلى التجريدَ فعلٌ آخر هو إلصاق تهمة “الليبرالية” ـ على نحو قدحي، بالطبع ـ بإجراء لا تتيحه أبسط الديمقراطيات فحسب، بل لا تستقيم أيّ انتخابات ديمقراطية دونه؟
وليس هنا ميدان النقاش الجادّ حول ما إذا كانت “ليبرالية” من أيّ طراز قد هيمنت على أعمال المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق” إلى حدّ تهديد رجال من أمثال عبد العظيم، وترقية أمثال النائب السابق رياض سيف بوصفه شيخ الليبراليين السوريين، كما يوحي ثقاة التنقيب عن ليبرالية العباد (في أغوار ضمائرهم، كما يلوح، وليس استناداً إلى أيّ سلوك سياسي صريح أو يقين نظري معلَن). الثابت، مع ذلك، أنّ الأدبيات التي صدرت عن المجلس لم تكن ليبرالية بأيّ تعريف متوفّر مقبول، في حدَّيْه الأعلى أو الأدنى؛ وبهذا لم تكن “ليبرالية ديمقراطية”، ولا “ديمقراطية ليبرالية” ولا “ليبرالية وحشية”، ولا “ليبرالية إنسانويّة” ولا “ليبرالية عدمية”؛ وحسناً فعلت حين لم تتبدّ يسراوية أو قومجية أو إسلامولوجية. كانت، ببساطة لعلّها أدهشت مدمني مضغ المصطلحات، بيانات ضدّ الإستبداد في المقام الأوّل، ومن أجل تطوير معنى المعارضة وأشكالها وأساليبها وطرائقها (وهذه ليست سلسلة مترادفات لفظية، إذْ لكلّ منها حياة فعلية جديرة بالتأمل والتطوير)، فضلاً عن السعي الجدّي إلى تعديل الكثير من البؤس السياسي والنظري واللغوي الذي شاب نصّ التأسيس ونصّ “التوضيحات”، سواء بسواء؛ وهذا ما أغضب أجهزة السلطة في المقام الأوّل!
والحال أنّ الفقرة الأولى من البيان الختامي تبدو وكأنها تتوجه إلى الذين اتهموا أهل الإعلان بما يشبه قلّة الوطنية، ولكن أيضاً دون أن تتنازل الفقرة عن تلك الرابطة الحاسمة بين الإستبداد والديمقراطية والمسألة الوطنية، إذْ رأى المجلس أنّ: “الأخطار الداخلية والخارجية باتت تهدد السلامة الوطنية ومستقبل البلاد أكثر من أيّ وقت مضى، وأنّ سياسات النظام ما زالت مصدراً رئيسياً لتفاقم هذه الأخطار، من خلال استمرار احتكار السلطة، ومصادرة إرادة الشعب، ومنعه من ممارسة حقه في التعبير عن نفسه في مؤسسات سياسية واجتماعية، والاستمرار في التسلّط الأمني والاعتداء على حرية المواطنين وحقوقهم في ظل حالة الطوارىء والأحكام العرفية والإجراءات والمحاكم الإستثنائية والقوانين الظالمة بما فيها القانون 49 لعام 1980 والإحصاء الاستثنائي لعام 1962، ومن خلال الأزمة المعيشية الخانقة والمرشحة للتفاقم والتدهور، التي تكمن أسبابها الأولى في الفساد وسوء الإدارة وتخريب مؤسسات الدولة، وذلك كله نتيجة طبيعية لحالة الإستبداد المستمرة لعقود طويلة“.
هذه نصوص ثمينة تماماً، وتشرّف أدبيات أية معارضة وطنية ديمقراطية، لا تنتهج برنامجاً سياسياً ـ اجتماعياً من باب الترف والزخرفة الشكلية، وإنما لأنّ نظام الإستبداد الذي تناضل ضدّه يقوم على ركائز مافيوزية تحيل البلاد إلى مزرعة عائلية، وتجعل طرائق النهب والفساد أداة أولى في إنتاج وإعادة إنتاج آلة القمع؛ ولهذا، استطراداً، فإنه أبعد ما يكون عن الليبرالية. ولهذا تسير النصوص اللاحقة على هذه الشاكلة: “هدف عملية التغيير هو إقامة نظام وطني ديموقراطي عبر النضال السلمي، يكون كفيلاً بالحفاظ على السيادة الوطنية، وحماية البلاد وسلامتها، واستعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي”. وأخيراً، في هذا الباب الوطني ـ الديمقراطي: “سورية جزء من الوطن العربي، ارتبط به في الماضي وفي الحاضر، وسوف يرتبط مستقبلاً، بأشكال حديثة وعملية تستفيد من تجارب الإتحاد والتعاون المعاصرة. وعلى أساس ذلك، نحن نرى أن مسار الاستقلال الوطني والتقدم والديمقراطية المعقد حولنا، مرتبط بمسارنا نفسه وبشكل متبادل، وسوف يكون له تأثير هام في مستقبلنا الخاص والمشترك“.
إلى هذا، في المبدأ الأوّل من المبادىء السبعة التي يشدّد عليها البيان الختامي، ثمة وضوح كافٍ في التأكيد على أنّ التغيير الوطني “عملية سلمية ومتدرّجة، تساعد في سياقها ونتائجها على تعزيز اللحمة الوطنية، وتنبذ العنف وسياسات الاستئصال، وتشكّل شبكة أمان سياسية واجتماعية تساعد على تجنيب البلاد المرور بآلام مرّت وتمرّ بها بلدان شقيقة مجاورة لنا كالعراق ولبنان وفلسطين، وتؤدي إلى التوصّل إلى صيغ مدنية حديثة توفّر الضمانات الكفيلة بتبديد الهواجس التي يعمل النظام على تغذيتها وتضخيمها وتحويلها إلى أدوات تفرقة بين فئات الشعب، ومبرّراً لاستمرار استئثاره بالسلطة”. وإذْ يعلن المجلس أن “الإعلان دعوة مفتوحة لجميع القوى والأفراد، مهما اختلفت مشاربهم وآراؤهم السياسية وانتماءاتهم القومية أو عقائدهم أو وضعهم الاجتماعي، للالتقاء والحوار والعمل معاً من أجل الهدف الجامع الموحّد، الذي يتمثّل بالانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى نظام وطني ديمقراطي”، فإنّ مساره الاجتماعي ليس أقلّ وضوحاً (من حيث تميّزه عن أية فلسفة ليبرالية، في المقدّمة والنتيجة والحصيلة): “تتعلّق قضية الديمقراطية بشكل وثيق بقضية التنمية، ويؤثّر تقدّم إحداهما مباشرة في تقدّم الأخرى. إن التنمية الإنسانية هي شكل التنمية ومفهومها الأكثر عمقاً ومعاصرةً، من حيث أن مركزها وغايتها هو الإنسان وتنميته من كلّ النواحي: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والفكرية“…
إذا كانت هذه هي الليبرالية، فإنّ الإنسانية لم تنتج في فلسفات الحقّ والعدل الاجتماعي والحرّية إلا الليبرالية، وحدها لا شريك لها، وبالتالي يحقّ لماضغي المصطلحات أن يجعجعوا ليل نهار داخل المطحنة البليدة القاصرة، غير بعيد عن آلة القمع الجهنمية الدائرة!