‘فاتيكان اقتصاد السوق’
صبحي حديدي
قالت أسبوعية ‘ماريان’ الفرنسية إنّ مآزق المصارف في النظام الرأسمالي المعاصر لم تعد تقتصر على سوء سياسات الإقراض وحدها، أو طيشها واستهتارها وجشعها، بل صارت تنجم أيضاً عن رداءة كبار مسؤولي تلك المصارف في حقل اقتصادي ابتدائي اسمه… علم الحساب! وكان التعليق اللاذع يتناول تعرّض مجموعة مصارف ‘صندوق التوفير’ الفرنسية إلى خسارة مقدارها 600 مليون يورو (810 ملايين دولار أمريكي)، جرّاء قيام بعض موظفيها بمضاربات لصالح المجموعة، اتضح أنها جاهلة وخرقاء تماماً.
وقبل ثماني سنوات، في نهار واحد ولكن ضمن فترة زمنية تقلّ عن 24 ساعة، حقّقت شركة الهاتف الفرنسية France Telecom زيادة صافية في قِيَم أسهمها، بلغت 295 مليار فرنك فرنسي (نحو 43.4 مليار دولار أمريكي، آنذاك). وهذه الزيادة المفاجئة، التي هبطت من السماء كما يُقال، لم تكن نتيجة صفقات أو إنجازات أو استثمارات أو أعمال مباشرة، بل تمّت بين ليلة وضحاها في سوق البورصة، ‘على الورق’ كما يقول التعبير غير الفنّي، وضمن نطاق الـ Virtual كما يقول قاموس المعلوماتية.
والحكاية، في بساطتها المذهلة، أنّ المدير العام للشركة أطلق تصريحاً وجيزاً خلال اجتماع إداري، ثم أعاد التأكيد عليه في مؤتمر صحفي، يقول إنّ خدمات الشركة في ميدان الإنترنت يمكن أن تُطرح في البورصة. وقال الرجل إنّ الإدارة ‘تفكّر’ فقط، ولم يقل انها قرّرت نهائياً. ولكنّ مجرّد التفكير هذا كان كافياً لكي تشتعل النار في البورصة. وهكذا، وفي ‘نهار مجنون’ واحد كما قالت الصحافة الفرنسية، ارتفعت أسهم الشركة بنسبة 25′ دفعة واحدة، وعلى نحو قياسي لم يسبق لبورصة باريس أن شهدته على امتداد تاريخها.
ولأنّ الدولة تملك 63′ من أسهم الشركة، فإنّ حكومة ليونيل جوسبان الإشتراكية وجدت نفسها أمام أعطية سخيّة تبلغ 200 مليار فرنك فرنسي، وهو رقم لم يكن يقلّ كثيراً عن إجمالي ميزانية الحكومة للعام الجاري. والرسم الكاريكاتوري، الذي تصدّر الصفحة الأولى من يومية ‘لوموند’ الفرنسية ذلك اليوم، تناول الخبر في مشهدين: الأوّل يُظهر جوسبان وهو يُرشق بالحجارة لأنه نطق بكلمة ‘إرهاب’ في وصف أعمال المقاومة اللبنانية، والثاني يظهره وهو يُرشق بأكياس النقود لأنه نطق بكلمة… ‘إنترنت’!
والبورصة هذه هي ‘فاتيكان اقتصاد السوق’ حسب تعبير الإقتصادي الأمريكي المعروف كنيث غالبرايث، وهي أيضاً متحف الذاكرة الرأسمالية، ومستقرّ الأفراح والأتراح، الأرباح والخسائر، والدموع التي تفيض حزناً أو تفيض غبطة. ومنذ قرابة عقد، وليس في أيام التأزّم الحالية، أتيح للعالم بأسره أن يتابع ذلك المشهد الدراماتيكي اللائق بمأساة شكسبيرية: المدير التنفيذي للشركة اليابانية ‘يامايشي’ وهو يظهر على شاشات التلفزة، وينخرط في بكاء متقطع مرير، ثم ينحني على النحو الشعائري الياباني، معلناً الإفلاس الوشيك للشركة. وتلك كانت مؤسسة تحتل المرتبة الرابعة في لائحة كبريات بيوتات السندات والأسهم والمضاربات، وعراقتها تعود إلى عام 1897، ولها فروع في 31 عاصمة رأسمالية، بكادر من المستخدمين يتجاوز سبعة آلاف موظف.
أول الدروس وراء الحكايتين (النجاح لشركة الهاتف الفرنسية، والإخفاق المذهل لشركة السندات اليابانية) هو أنّ عمالقة الـ ‘بزنس’ قد ينامون الليل على حال، ويصحون النهار على حال أخرى مختلفة تماماً، خيراً أو شرّاً، ونعمة أو وبالاً. ولكنّ الذين قفزوا عالياً، مثل الذين خُسفوا أرضاً، لن يذوقوا طعم الإستقرار الطويل لأنهم ـ في الصعود أو في الهبوط، سواء بسواء ـ لا يغادرون عوالم العراء الموحش الخاضع لقوانين السوق، الذي يركد تارة أو يهتزّ طوراً، ويطالب في الحالتين بأضحيات دسمة لا مناص من تقديمها على قربان رأس المال.
والمرء، في هذا الصدد، يسجّل للإقتصادي والمفكر الفرنسي جاك أتالي أنه، منذ عقد ونيف، كان قد ساجل بأنّ الحضارة الغربية موشكة على الإنهيار وليس الإستقرار؛ و’بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأنّ اقتصاد السوق والديمقراطية قد اتحدا لتشكيل آلة جبارة تساند وتطوّر التقدم الإنساني’، فإنّ هاتين القيمتين ‘عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف’. وفي مقال حمل العنوان الصارخ ‘انهيار الحضارة الغربية: حدود السوق والديمقراطية’، اعتبر أتالي أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم في الإقتصادات الغربية هي ‘انهيار’ Crash الحضارة الغربية وليس ‘صراع’ Clash الحضارة الغربية مع سواها من الحضارات، في انتقاد واضح لنظرية صمويل هنتنغتون الشهيرة.
والحال أنّ أتالي ليس بالمراقب العادي لمشهد الحضارة الغربية، فهو كان مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، وعرف الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الإشتراكي وحرب الخليج الثانية. وهو، ثانياً، إقتصادي بارز شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد أنشأه الإتحاد الأوروبي. وأتالي، كما يتوجّب التذكير ثالثاً، يهودي يراقب العالم بذلك النوع ‘الحصيف’ الحساس من ذكرى، وذاكرة، الكارثة.
وكم مرّة سوف تذكّرنا أتراح البورصة، مثل أفراحها، بنبوءة ماركس الشهيرة، عن رأسمال لا يملك إلا أنّ يخلق حفّار قبره… بيديه؟
خاص – صفحات سورية –