ماذا يجري في سهل نينوى؟
الياس خوري
لم يدر في خلد شاعر العراق الكبير سركون بولص، ان مدينة “اين”، التي صنعها في احد دواوينه، كي تكون استعارة للرحلة الشعرية الى المجهول، سوف تصير مدينة حقيقية، وسؤالاً يرفعه الوف العراقيين من الأشوريين والكلدان، المطرودين من الموصل، واللاجئين الى سهل نينوى، في انتظار الرحيل الكبير عن العراق. او ان السؤال “اين” سوف يلاحق الصابئة والايزيديين وغيرهما من الأقليات الدينية والعرقية، التي تعيش في وادي الرافدين منذ الوف السنين.
خيال الجريمة ينسخ خيال الشعراء، ويحوّل البلاد الى وحل ودم. هذا الذي يجري في العراقين عار على العرب والكرد. انه علامة الانهيار الشامل التي صنعها العصر الاميركي، بقيادة رجل غبي يدعى جورج بوش، استباح الدم والحرمات، وصارت حروبه نكتة دموية سمجة، لا تضارعها سوى سماجته التي تشبه ثقل دم كل الطغاة في العالم.
جورج بوش هذا سوف يذهب بعد اسابيع قليلة الى الذاكرة الاميركية والعالمية في وصفه نقطة سوداء في التاريخ، غير ان الثمن الذي دفعه العراقيون، وسوف يدفعونه، كبير، لأن وطنهم مهدد، ومستقبلهم بات غامضاً.
الغزو الاميركي للعراق لا يذكّر بسوى سابقة تاريخية هي الغزوة الافرنجية التي عُرفت باسم الحروب الصليبية، والتي اتت تحت شعار الاستيلاء على الاماكن المسيحية المقدسة في بيت المقدس، ورفعت الصليب شعارا لها. لكن اول اعمالها المشينة، كان الاستيلاء على كنائس المسيحيين الشرقيين، من سكان البلاد، وتحويلها الى اسطبلات. كما اعملت السيف في رقاب النصارى واليهود على اعتبار انهم كفرة، لا يتبعون المذهب الكاثوليكي الروماني، مما اجبر الكنيسة الشرقية على اللجوء الى القسطنطينية لمدة قرنين، وعندما عادت بعد طرد الغزاة، وجدت ان الدمار الذي خلّفه الصليبيون حطّم المسيحيين وجعلهم اقليات صغيرة. ثم جاء المماليك الذين قضوا على آخر المواقع الافرنجية في الشمال، ليستكملوا اضطهاد الاقليات.
جورج بوش الذي غزا العراق بكذبة اسلحة الدمار الشامل، لم يكتفِ بحلّ الجيش العراقي، وتفكيك الدولة، خدمة لاصدقائه الاسرائيليين، لكنه ادخل العراق في اتون حرب مذهبية، قادتها عصابات عراقية، محوِّلةً مدينة السلام الى مغارة للصوص الآثار، ورعاع السياسة. وكانت نتيجة رؤية هذا الرئيس المتدين، والمسيحي الصهيوني، انها على وشك ابادة الوجود المسيحي في العراق، وتحطيم احدى اعرق الكنائس في العالم. اذكر انني قرأت في جريدة “نيوويورك تايمس”، بعيد الغزو الاميركي للعراق، عن مبشرين اميركيين متجددين جاؤوا من اجل “هداية” المسيحيين والصابئة العراقيين، عبر تعميدهم. وكان المشهد مضحكاً: اجلاف اقصى الغرب الاميركي يأتون من اجل ان يبشروا الصابئة، اتباع يوحنا المعمدان، الذي اعتمد يسوع الناصري على يديه، بالمعمودية!
غادر المبشرون العراق، تاركين وراءهم الشركات الأمنية، التي تضم القتلة المحترفين. لكن نتائج الغزو كانت تدميرا شاملا للصابئة والنصارى، الذين غادر معظمهم العراق كلاجئين الى حيث يمكن اللجوء.
مسؤولية الغزاة الاميركيين في العراق كبيرة، وتقتضي من محكمة الجزاء الدولية احالة جورج بوش وبطانته على المحكمة، في وصفهم مجرمي حرب. غير ان هذا لا يعفي العراقيين من المسؤولية عن خراب بلادهم.
مَن أمر النصارى في مدينة الموصل بمكبّرات الصوت بترك منازلهم؟ مَن هم هؤلاء السفهاء الذين خيّروا الاشوريين والكلدان بين الاسلام والجزية، ثم طردوهم من بيوتهم بثياب النوم؟ من المسؤول عن مغادرة ثمانين في المئة من نصارى العراق، الذين يبلغ عددهم مليون نسمة، وتشردهم في العالم؟
من يتحمل وزر إفراغ العراق من اجمل طائفة دينية في الكون هي الصابئة، الذين يقيمون كل طقوسهم في الماء الجاري، ويشكلون احدى اقدم طوائف الموحّدين في العالم؟
من يقتل الايزيديين، جاعلا من حياتهم جحيماً؟
هذه الجريمة الكبرى لم تحصل حتى في الزمن المغولي. هل يريد قادة هذا النظام السياسي الأعرج في العراق، الذي صنعه الاحتلال الاميركي، ان يقولوا لنا وللتاريخ انهم اسوأ من المغول، واشد همجية من هولاكو؟
قد يأتي من يقول ان ما يجري في العراق اليوم ليس جديدا. انظروا الى تاريخ العراق الحديث، من مذابح الاشوريين في العشرينات والثلاثينات، الى مذابح التركمان في اواخر الخمسينات، الى مذبحة الكرد في حلبجة، الى المذابح الشيعية- السنية في الزمن الاميركي.
هذا ليس تبريرا، على رغم انه يشير الى ازمة المواطنة في الدول العربية، بل هو يزيد من مسؤولية المسؤولين عن الجرائم الحالية، لأنهم لم يتعلموا شيئا من دروس الماضي، ولأنهم يتصرفون كادوات صماء في خدمة زمن الانحطاط الزاحف.
قد نقول، ان المذبحة التي تدور الآن في العراق، هي اعلان افلاس النظام الطائفي الذي يتأسس في رعاية الاحتلال. الطوائف لا تصنع اوطانا، بل تحوّل الاوطان مرتعاً للخراب. الطوائف والمذاهب حين تصير قوى سياسية، تتصرف كقوى عمياء، وكأدوات للجريمة.
هذا صحيح، ويجب ان يقال. لكن العاجل اليوم هو موقف اخلاقي ومبادرة اخلاقية كبرى من العرب. يجب ان لا ننتظر كلام رئاسة الاتحاد الاوروبي الذي تأخر كثيرا، والحركة البطيئة للرأي العالمي المصاب بالعجز. التحرك هذه المرة يجب ان ينطلق من العالم العربي. فالنموذج الوحشي الذي يغطي سهل نينوى اليوم، يهدد بتفكيك المشرق العربي برمته. المبادرة يجب ان تأتي من النخب العربية، من العلمانيين والمتدينين، وان تتحول فعلا يتحدى عصابات الجريمة، التي حولت العراق الى ليل العرب.
السكوت اليوم يساوي الجريمة، وعلى الجميع ان يختاروا بين ان يكونوا في صف المجرمين، او ان يدافعوا عن الضحايا.
التنوع الديني والثقافي هو احدى صفات الثقافة العربية منذ الجاهلية، واحد عناوين هذا المشرق. وتحطيم هذا التنوع هو الحضيض.
ملحق النهار الثقافي