كتابات مسرحية سورية شابة تكسر التابو الجنسي وتهشم اللغة
يارا بدر
تعرّف جمهور المهتمين بحركة المسرح في سورية إلى مجموعة أسماء شابة، تحاول على اختلاف توجهاتها تقديم رؤاها عن الواقع المعاش بصيغ المسرح وألعابه المتنوعة. يبرز من بين هذه النصوص التي تمت عبر ورشة ‘الورشة’ للكتابة المسرحية، كل من نص ‘تصريح زيارة’ لعبد الله الكفري، و’الفيروس’ لوائل قدور.
يمتاز النصان بخاصية مشتركة، ألا وهي مقاربة التابو الجنسي، بل ومحاولة تحطيمه بشكل فني جاد كما وأنه مدروس بحرفية أدبية مما يحيلنا إلى ما وسم به المسرح السوري في الستينات والسبعينات من مقاربة حميمة للتابو السياسي. عموماً ليس بوسعنا نفي التداخل بين هذين المستويين في الحديث عن أي واقع في أي مرحلة زمنية كانت. الفارق الذي نستطيع تلمسه أنّ الهم السياسي كان طاغياً في قوام النص المسرحي الفكري في المرحلة السابقة، مفرداً خلفيته الدرامية لتعقيدات تموج بها الإرباكات الجنسية أو العاطفية. أمّا الآن فإننا نجد بوضوح وبقوة صارخة أنّ الأزمة الجنسية التي تطرحها نصوص الكفري وقدور بسطوع جارح لتقاليدنا الرفيعة وأخلاقياتنا المرهفة، هي أزمة واقع إنساني، ومجتمع يتفكك وينهار، هي الاسم، هي الشكل، الذي تتجلى من خلاله أزمات الفرد الحياتية، وبالضرورة هي أزمات ترتبط بواقع سياسي واجتماعي مُعيّن، وإن لم يتم التطرّق لها صراحة كما في نصوص الماضي، وكأننا نحتفل بالـ ‘هم’، ونفتح ضمناً المجال للتساؤل عن خصوم اليوم، بل وحتى عن ماهية الحرب التي نحياها اليوم!
خارج دائرة هذه النقطة المشتركة، نجد أنّ نص وائل قدور ‘الفيروس’ يبدو أكثر قرباً من مفردات الحياة اليومية، وكأنه يتوجه إلى القارئ السوري أياً كانت ذهنيته المعرفية أو خلفيته الثقافية. يفسح المجال لنفسه، فيبوح بما كان مخفياً في الصفحات الأولى من حقيقة أبطاله، ماضيهم وأسباب مأساة حاضرهم، يحدد نفسياتهم كما يضبط شرطهم الزماني والمكاني بدقة من لا يخشى الاعتراف أنه يتحدث عن هذا الواقع، وهذه الشريحة من المجتمع.
يارا الفتاة التي رفضت التخلي عن جنينها، ولم تلبث أن انكسرت أمام قسوة الحياة فباعت صغيرتها وهي لم تزل وليدة أيام. الأخ الذي يبحث عن أخته الهاربة من هدر دم أهلها لها. يزن العاشق الحالم ابن الطبقة المتوسطة، المُنكسر في لحظة المواجهة مع والده يهرب إلى الخارج، يعود ليصاب بفيروس الإيدز. أخته التي حملت على يارا واعتبرتها من أسباب دمار سكينة عائلتها، لم تلبث أن وجدت نفسها في عيادة طبيب تلتقيه للمرة الأولى عله يُعيدها (إنسانة طبيعية)، لكنها في اللحظة الأخيرة ترفض إجراء عملية ترميم غشاء بكارتها.
يُعيد النص، وعلى طريقته الخاصة، إنتاج مقولة ‘الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون’، فأبطال النص الفعليون، هم نماذج بشرية شابة تدفع في هذه اللحظة حياتها وأحلامها ثمناً لرؤى آبائهم وقواعدهم في الحياة الكريمة، والبنت الشريفة والولد الصالح. كذلك هم نحن الشباب الذي يبحث عن التغيير، عن تحقيق ذاته، إلا أنه وفي مواجهته مع المحرّمات والممنوعات، يخشى اللحظة، فينسحب مخلفاً وراءه حقائق مشوهة وأحلاماً منقوصة.
يقول وائل لدى سؤاله: ‘ألسنا جميعاً كذلك، ندعي ما نرغب القيام بفعله، لكننا حقيقة نخشى هذا الفعل، وإن أقدمنا عليه، أياً كان، حباً، علاقة، فكراً.. نخفيه كسر عميق’. حتى يزن وهو الوحيد ربما الذي اتخذ قرارات ساهمت في دفع الأمور نحو الأسوأ، ليس بأكثر من نتاج لسنوات من التربية أحادية الأفق، لا تعترف سوى بصحيح واحد في الحياة يواجه الخطأ، وليس من ثالث بينهما. من جهة ثانية، في اللحظة الدرامية التي يختارها وائل قدور مؤلف النص، لا يبدو للأب من فاعلية حقيقة في مجرى الأحداث، لكنه كما الأم، الغائبة في متاهات الموت، ظلٌّ يقيد الأبناء من الماضي وحتى لحظة حاضرهم. على هذا المستوى يمكننا التوسع أكثر في قراءتنا للنص، كصدام وعيين، وعي الأهل الجمعي، وهو كذلك وعي أهل الحارة، وعي الأعراف والتقاليد المزروعة بدواخلنا والمفروضة علينا. ومن جهة ثانية الوعي الفردي لكل شخص، رغباته وأحلامه وأفعاله الخاصة به.
بداية لا تبوح اللغة النص بكافة التفاصيل، وكلما تقدم زمن الأحداث اختنقت مفردات هذه اللغة بالبوح عن الذي جرى، وأسبابه، كما يختنق الغضب واللوم، وتبرد حرارة الذنب والخطيئة في مواجهة ذلك القدر المحتوم على الإنسان بالاستمرار رغم كل هذه الآلام، رغم جميع الجماليات التي ضاعت بذنب أو بلا ذنب، وحتى رغم الموت، فينتهي النص مع أبطاله إلى حالة من السكينة والمصالحة مع كل هذا الغضب، وهذان أمران نفتقدهما في حياتنا وإن كنا نملك كل تلك المرارة سالفة الذكر.
بجرأة أكثر عنفاً، بدرامية ترتفع فنياً، يقدّم عبد الله الكفري نصه المسرحي الأول، مترفعاً عن ثقافة القارئ العادي، مطالباً بنخبوية فكرية صعبة التحقيق، مما يسحب القارئ إلى متاهات اللغة، والمفردات، يفكك الزمن، والمفاهيم العقلية، جاعلاً من قلمه لسان بطله ‘سيف’ الذي يدعي الجنون، أم أنه حقيقة فقد توازنه العقلي، كما تعرفه قواميسنا الشخصية والمجتمعية، إذ أننا وحتى السطر الأخير نجد إصراراً من الأطباء، كما يقول النص، على رفض الاعتراف بجنونه.
‘سيف’ الصحفي المُعتقل، و’جاد’ صديقه، عشيقه، شريكه في هذه العلاقة الجنسية المنبوذة من قبل العديدين وكذلك هو شريكه السابق في السكن. اثنان يلتقيان في زيارة، أحدهما قابع خلف القضبان، والآخر في مواجهته. بين اللقاء الأول والأخير تمر أربع سنوات، لكننا لا نعلم متى بدأت ولا متى انتهت. الزمن مطلق والمكان بلا معالم سوى كاميرا المراقبة وقضبان السجن.
الحديث عن نص ‘تصريح زيارة’ هو حديث عن اللغة، ليس عن الشخصيات، ليس عن الحكاية أو ارتباطها بواقع زمكاني محدد أو غير محدد، إذ يبدو من الصعوبة حقيقة لملمة تفاصيل الحكاية، أو نسج خلفيات اجتماعية واقعية للأبطال، باستثناء أنّ سيف قد هرب ذات يوم من قريته وشرطها الحياتي البائس إلى المدينة، أيّ مدينة، حيث الأحلام، حيث الآخر، وحيث يكمن ربما التحدي.
المفردات التي تخرج من سياقها الدلالي الأولي في ترجمته الذهنية، مفككة، متشظية، لغة نفسية تهذي يموج بها خطاب ‘سيف’ في مواجهة لغة ‘جاد’ المتكسرة في ارتطامها بالواقع، أحداثه وتفاصيله الماضية. ترسم بمجمل تكاملها مع بعضها في نسيج درامي واحد، كثافة ً عالية تضغط على القارئ مع كل سطر، تذكر بلعب الكاتب المسرحي الفرنسي ‘جان جنيه’ على المفردات القاسية التي ما تلبث أن تنشئ- وبدرجة أكثر حرفية مما نتلمسه في هذا النص- شعريتها الخاصة، وتحيل في إنشائها للبناء الدرامي إلى مستويات اللغة في علاقتها بالواقع كما رسمتها نصوص المسرح الفرنسي الجديد من أمثال ‘برنار ماري كولتيس’.
انفصال النص عن أي مرجعية زمانية ومكانية محددة، وسماته الفنية كما عبرت عنها اللغة، والمستمدة من روح المسرح الفرنسي، كل هذا ينشئ بين النص وقارئه العربي غربة ً ذهنية تركن إلى مستويات الشعور الباحث عمّا يربطه بهذا النص خارج أطر جمالياته الفنية. الباحث عن خصوصية تبني جمالياتها الفنية الخاصة، أكثر من إعادة إنتاج جماليات مطروحة سابقاً، وإن كان الكفري قد أجاد حقاً في الاستفادة من قراءاته المسرحية للنصوص الأخرى.
وهذا كان مطب نص ‘تصريح زيارة’ الأهم، وهو ابتعاده عن القارئ ومفرداته، كنص ٍ يحلق خارج السرب، بأدبية هي من حقه طبعاً، لكنها تعيدنا إلى السؤال عن جدوى أن يكون الفن للفن؟ وعن مدى فاعلية هذا النص في ردم الانفصال القائم ما بين الخطاب الفكري والواقع اليومي؟ وهو على العكس مما رأيناه في نص ‘الفيروس’ الذي يحدد جمهوره، وهدفه من اختيار آلية التواصل مع هذا الجمهور تحديداً، كقابلية ممكنة التحقق، هي قابلية إنشاء حوار مع أولئك الذين نتكلم باسمهم ونعرض أزماتهم.
بين هذا وذاك، نرى أمامنا محاولات جادة، تنجح في إعادة الضوء إلى الخشبة السورية التي اجترّت معظم نصوص أدب ‘الفارس’ الإيطالي أو النصوص العالمية الأخرى التي تتوافق ورغبة القائمين على هذه العروض المسرحية في تكرار ما يقال وإظلام ما هو محجوب والحديث عنه خطر أساساً. كتابات تنجح بتقديم صورة مسرحية عن إحباطات الجيل الشاب، عن طبيعة أحلامه وأزماته، وعن كيفية ارتباطه الفعلي بواقعه ومجتمعه بعيداً عن الإنشائية أو الخطابية، وإنما بلغة تشبه صور هذا الجيل في النماذج المختارة، غدت لغتنا مقطعة، كل غارق في همومه ومفرداته، نتواصل بطريقة هي بين بين، بين المعنى واللا معنى، بين المعروف والمخفي، لغة تخرج من الروح المتعبة ولكنها تحاول أن تبدو بصيغة عقلية قابلة للفهم، مما يضع مستمعها أمام تلاوين مختلفة من القراءات الممكنة.
صحافية من سورية
القدس العربي