صفحات ثقافية

، رقـــصـــــة الــنـــهــــديــن الجنس ــ الملهاة والصدور الممتلئة: أميركا روس ماير

null
هوفيك حبشيان
انه أمير الكيتش بلا منازع، وسيد السوقية والذوق الرديء الذي لا يولد مثيل له في كل قرن. وهو للسلسلة باء، ما كانه ايد وود لسينما السلسلة Z، مع فرق مهم هو أن الأول لم يكن يحب ارتداء التنانير النسائية وجوارب الحرير كما كانت الحال مع الثاني. كل ما كان يريده ماير هو النساء والنساء ثم المزيد من النساء ليروي من خلال صدورهن الهوس الأميركي والتراجيديا اليانكية. الغربيون يشيرون الى بعض الفنانين وعوالمهم الفانتازماغورية بكلمة جميلة قد تكون تفتقد مثلها اللغة العربية: culte. روس ماير من هؤلاء الـ”كولتيين”. يصنَّف دوماً بمهووس جنسي يضع ما يليق من أفكاره المنحرفة على الشاشة، لكنه لا يستطيع الا أن يكون ابن بيئة أميركية ترزح تحت وطأة السياسة والدين والرأسمالية. وغالباً ما تختصر سينماه ببضعة كليشيهات لنساء، سلاحهن الوحيد صدورهن العارمة والسخية. هذا المخرج الأميركي، الذي باتت اعماله اليوم، بعد أربعة أعوام على رحيله، تحتاج الى اضاءة من زوايا جديدة، صحيحٌ أن همه الاول تمحور على تعميم حالة المرأة السيئة الخلق، وصحيح أيضاً انه مولع بالنساء ذوات الصدور الضخمة، أكن شقراوات، سمراوات، صهباوات أم سوداوات، بيد أنه استطاع حمل هذه النماذج الى أماكن أرقى من مجرد اللهو واغراء المشاهد ومداعبته. كيف؟ هذا سرّه! وفي هذا المجال، قلائل استطاعوا بلوغ درجة السخرية والطرافة والازدراء التي بلغها، ليس لأنه لم يكن في مقدورهم القيام بذلك، انما لأنهم لم يحاولوا قط.
لم يكن ماير يخفي هاجسه الأكبر بتقديس النهدين الكبيرين. لكن مع سلسلة “إمرأة سيئة الخلق” ثبتت عليه التهمة. مذذاك، لم يعد في حاجة حتى لاختلاق الحجج سعياً وراء تصوير حلمات الصدور العظيمة للنساء من كلّ الزوايا.
يستهلّ فيلم “امرأة سيئة الخلق” فصوله السوريالية بالتقاط مشهد مستقلّ عن المشاهد الأخرى، حيث يظهر رجل عجوز ألماني أشعث اللحية في حالٍ من الرعشة الجنسية وهو مستلقٍ داخل نعش مغطّى وقد حلّقت فوقه الهة من نسج خيال مخرجنا الفذ. كلّ عناصر الإثارة الجنسية متوافرة في الفيلم، بدءاً من رقصة الالهة التي صُوِّرت من الأسفل إلى الأعلى بغية إظهار مفاتن جسدها ووصولاً إلى الجلبة المصطنعة (شبيهة بتلك التي يحدثها البهلوان في السيرك) التي تثبت رجولة هذا الرجل العجوز. يلي هذا المشهد وصف لبلدة سمولفيل الأميركية، مكان يبدو أن الجنس الجماعي فيه مباح بين السكان. ما إن تنتهي هذه المقدّمات حتى يتطرّق ماير إلى صلب الموضوع، فيواجه بطل الفيلم المضاد مشكلة شائكة كونه لا يشعر باللذة الجنسية إلا لدى ممارسته الجنس في الأماكن المعتمة، مما يثير امتعاض صديقته لافونيا، التي كانت تؤاسي نفسها كيفما اتفق أكان ذلك برفقة جارها عامل التنظيفات أم من خلال تبادل الغمزات واللمزات مع مراهقين يفضلون ممارسة الجنس من خلال المهبل. يواجه رجلنا أيضاً مشكلات نفسية جمّة، فينصحه طبيبه النفسي بممارسة ما اعتادت صديقته لافونيا على القيام به يومياً، أي ممارسة الجنس من خلال المهبل. ينشب اثر ذلك صراع بين الطبيب ومريضه، وتعمد لافونيا وسكرتيرتها إلى زيادة حدة هذا الصراع. وعندما لا يوفر له الطبيب حلاً ناجعاً، يلجأ رجلنا إلى صاحبة مكبّ للخردة ليُمنى بالفشل مرة أخرى. حينها تصاب لافونيا باليأس، فتحاول التخفيف عن ذاتها بالرقص في العلب الليلية الحافلة بالمتعرّيات اللواتي يتبارين للفوز بلقب العانة الأجمل لدى النساء. وأخيراً، يتمكن البطل الفاشل والمثير للشفقة من تسوية معضلته باللجوء إلى المبشّرة بالانجيل في محطة “راديو ديو” (محطة إذاعية دينية كائنة في الجوار)، فتحقّق له ملذاته، وتؤدي الممثلة الشقراء أوفالا روب صاحبة الصدر الكبير هذا الدور، فتطيح الفتيات المثيرات، وتحصل كل الشخصيات على مبتغاها في نهاية المطاف، فتعود إلى أحبائها “بشوق وحنين”، ويظهر المخرج روس ماير بشخصه في الختام، محاولاً ممارسة الجنس مع زوجته كي لا يوكل الى إبنه هذه المهمة؟!
هذا نموذج لما قد يكون ينتظركم في فيلم لروس ماير. الجنس في الصميم، لكنه ملهاة. انه جنس للهو وليس للخوف. الطابع الهزلي الذي يطغى دائماً على الحوادث هو الذي يثبت ذلك، فلا تحمل أي من الشخصيات مشكلاتها على محمل الجد، وإذ رأى بعض النقاد من أصحاب الذوق التقليدي أن هذا الفيلم متدني المستوى، فعليهم الأخذ في الاعتبار ظاهرة “التحرّر الجنسي”، التي كانت بدأت تنتشر في أواخر الستينات من القرن الماضي، كذلك لا ينبغي أن يغفلوا أن ماير بالغ في التعبير عن هاجس الجنس قصداً وعمداً، لأنه كان يراهن على هذا الجانب، وكان هذا أمله الوحيد، ليجذب المشاهدين. علماً انه لم يشأ التطرق إلى الجنس على أنه من الممارسات اليومية المفروضة فرضاً على الكائنات الأدمية. وكانت عملية مونتاج هذا الفيلم، مثل باقي أفلام ماير، ملأى بالفوضى العارمة، بحيث أن المَشاهد تعاقبت واحدا تلو الآخر من دون أن تمتّ بصلة إلى التسلسل المنطقي للحوادث، وصُوّر مضمونها كيفما تيسر، وأثارت المؤثرات السمعية جنون المتفرج، وكأن المخرج أراد تسلية مشاهدي الفيلم، تماماً مثلما تسلّى هو خلال صنعه.
لكن ماذا عن حياة روس ماير الشخصية؟ عدا انه ولد في ولاية كاليفورنيا عام 1922، كان والده رجل شرطة، أما أمه ليديا الألمانية الأصل فكانت تعمل ممرّضة، وتربّى روس في كنفها. في مناسبة بلوغه الرابعة عشرة من العمر، أهدت اليه أمه كاميرا قياس 8 ملم، فراح يصوّر بضعة أفلام في سن مبكرة كهاوٍ ليس إلا. في سن المراهقة، بدا خجولاً في تعامله مع الجنس الآخر، ربما لأنه لم يكن مارس الجنس بعد ولم يكتشف قط ملذات الجسد. كل ما كان يفعله هو مطالعة القصص المصورة للعم آبنر. وبإمعان. لدى اقترابه من سن البلوغ، صار يشاهد العروض الفنية الكوميدية مراراً وتكراراً، مما خلّف أثراً بالغاً في نفسه، وأيقظت هذه العروض الفنية غرائزه الجنسية.
خلال الحرب العالمية الثانية، التحق ماير بصفوف الجيش الأميركي، فانضمّ إلى الوحدة المكلّفة تصوير المستجدات الأسبوعية، وصار يخدم تحت قيادة الجنرال باتون الشهير، الذي خلّده على الشاشة الممثل القدير جورج س. سكوت في فيلم فرانكلين شافنر. شاءت الظروف أن يكون من الذين رست سفينتهم على شواطئ مدينة نورماندي الفرنسية. وقد مكّنته تجربته العسكرية من أن يصوّر الفرقة الثالثة للجيش الأميركي وهي تحطّ على شاطئ أوماها بيتش، في آب 1944، اذ كان مكلّفاً تصوير ويلات الحرب، ثم جال في كلّ أنحاء أوروبا، وساهم هذا المحيط الخارجي القاسي الملامح في تكوين شخصيته الفذّة المتّسمة بطابعين أساسيين، الصمود في وجه العنف والقدرة على الاحتكاك بالأجساد الحية.
مارس الجنس للمرة الاولى بتشجيع من آرنست همنغواي الذي مهّد له الطريق الى شيء كان يدور حوله وجوده برمته. اصطحبه انذاك إلى بيت دعارة في رامبويه. كان في الثانية والعشرين، وهذه كانت المرة الأولى يضاجع امرأة. وليست أي أمرأة: عاهرة محترفة صاحبة صدر ممتلئ. اذاً، عرف الجنس في عمر كبير نسبياً، مما يفسر تعلقه به ربما. في الحرب، التقط صوراً لأشياء كثيرة، منها معسكرات التعذيب النازية.
مع عودة السلام، عاد ماير الى أوكلاند، فسعى جاهداً كي يتبوأ منصب مدير التصوير في استوديوات هوليوودية، لكن مساعيه لا تنجح لأنه لم يكلّف إلا تصوير الفتيات المثيرات الماثلات في الصور المعلّقة على الجدران. انضم ماير ايضاً إلى شركة إنتاج أفلام صناعية. لكنه ابدى اهتماماً بـالـburlesque، فعمق معرفته بعالم الاستعراض والفن والكوميديا. في هذا السياق، تعرف الى فتاة تدعى ايف ترنر، والتقط صوراً فوتوغرافية لها، بعضها كانت خلاعية ونشرت في أحد الأعداد الاولى من مجلة “بلاي بوي” الصادرة حديثاً حيث كان واحداً من أبرز المصورين العاملين فيها. رويداً رويداً، اصبحت مادته التصويرية المفضلة، الى أن أفضت العلاقة بينهما الى الزواج في منتصف الخمسينات من القرن الفائت، وعاشا معاً حتى مفارقتها الحياة في حادث طائرة مأسوي عام 1977.
شق ماير طريقه سينمائياً مستقلاً، يعمل على هامش أنظمة التمويل والدعم، وظل كذلك حتى تاريخ وفاته عام 2004. من أوائل اعماله، فيلم وثائقي قصير عنوانه “العرض الخلاعي الفرنسي”، لكن نجمه بدأ يسطع ما إن تولى إخراج فيلمه الروائي “السيد تيز العديم الأخلاق” (63 دقيقة). القصة بسيطة. انها عن عامل مكلّف تسليم البضائع إلى المشترين يتراءى له بين الحين والآخر أن النساء تجرّدن من ثيابهن. هذا الشريط الصامت المصوّر بالألوان، قد يمكن اعتباره محاكاة لـ”عطلة السيد هولو”، لجاك تاتي. مع هذه الافلام، ابتكر ماير شيئاً يسمى “أفلام العراة”. نجح الفيلم في شباك التذاكر، وشكلت ايراداته 40 ضعفاً من موازنته. فكرّت سبحة أفلام تنضوي تحت اللواء ذاته، أي أفلام عراة، التي اصبحت في وقت قصير علامة سينماه المسجلة.
الارباح الهائلة التي جناها من “السيد تيز”، أفسحت له المجال أن ينجز “ماد هاني” (1965) و”أسرعي أسرعي أيتها القطة، اقتليها، اقتليها”، معتمداً نهجاً فريداً يتمثل في الاطلاع على عالم الجنس في المناطق الريفية من خلال معالم غير راقية، لكن متسمة بالعنف، وتؤدي الممثلات صاحبات الصدور الكبيرة دائماً الدور الأهم. بيد أن هذا العمل ذا الطابع الاجرامي المسيطر على حسناوات يرقصن في الملاهي الليلية ويمتلئن بالمشاعر الفضفاضة، ألهم أكثر من جيل من السينمائيين، ولعل أهم من تأثر به هو عاشق أفلام السلسلة باء، كوانتن تارانتينو (راجع “محصن ضد الموت”، 2007). تختطف هؤلاء الفتيات الأطفال ويدخلن في صراع مع قرويين حول مبلغ من المال. لكن اللافت أن المخرج لا يرغب في الدلالة على الجمال الأنثوي فحسب، انما يتناول ظاهرة جديدة هي الخطر الكامن في المرأة، لأن بطلاته لا يرضين بالخضوع للجنس الآخر، وهن عنيفات ومثيرات للغرائز الجنسية، ويدخلن في معارك مع الآخرين باللجوء إلى شتى الفنون القتالية، ويودين بحياة خصومهن. ودائماً نغمات للروك آند رول تعلو في الخلفية.
مع نهاية الستينات، وجد ماير نفسه أمام مفترق طريق. من جهة، باتت الأفلام الإباحية تُباع في متاجر الجنس في سان فرنسيسكو، ومن جهة أخرى، اعتاد المشاهدون رؤية الأجساد العارية في الأفلام الكلاسيكية. أمام هذه المعطيات الجديدة، رفض ماير الدخول في البورنو، على رغم انه كان عاجزاً عن الاستعانة بالنجوم نظراً الى الموازنات المتواضعة المخصّصة لأفلامه. فجاء “امرأة سيئة الخلق” (أو “فايكسن”) كرد خاص له على البورنو. وسرعان ما أصبحت كلمة “فايكسن” (أي فتاة سيئة الخلق بالإنكليزية) علامة تجارية. وأدت إيريكا غافين في الفيلم دور البطلة التي ترتكب جرائم الزنى والسفاح، إضافة إلى إقامتها علاقات جنسية عشوائية مع رجال من العرق الأسود، وكان التطرّق إلى هذا الموضوع من المحرّمات في تلك الحقبة. لم يمر الفيلم من دون أن يتسبب لصاحبه ببعض المشكلات وجعله يمثل أمام القضاء، لكنه درّ عليه أرباحاً بقيمة 15 مليون دولار أميركي، على رغم أن كلفة انتاجه لم تتعدَّ الـ 72 ألفا، لكن الأهم من ذلك كله أنه شرّع أبواب الأمل في نفسه، إذ أُفسح له المجال للتعامل مع واحد من أكبر استوديوات هوليوود، وما لبث أن أخرج “وادي الملذات” لحساب فوكس عام 1970، الذي لاقى رواجاً واسعاً. من تلك المرحلة أيضاً، نجد فيلم “بسيكولوجيا راكبي الدراجات النارية” الذي يصور تفاصيل نزاع قائم بين ثنائيّ وثلاثة ركاب دراجات نارية يهوون اغتصاب النساء.
تعاون ماير مع مغنية الروك الشهيرة ماريان فايثفول وفرقة ساكس بيستولز، بغية كتابة سيناريو فيلم “من قتل بامبي؟”. وبعدما صيغت ثمانية سيناريوات مختلفة للفيلم، بدأت عملية التقاط المشاهد، ولكن ما إن مرّت 3 أيام حتى توقفت، لأسباب غير واضحة. في الثمانينات، تخلّى ماير عن السينما لمصلحة الأدب، فألّف كتاباً عنوانه “سيرة حياة روس ماير وعلاقاته الغرامية”، وعام 1999، تطرّق إلى حياته الشخصية رافعاً شكوى قضائية ضد عشيقته ديبرا آنجيلا ماسون بتهمة ممارسة العنف المنزلي.
في سجل ماير بعض الأفلام الأكثر “تقليدية” مثل “لورنا” (1964)، الدراما الاجتماعية المصوّرة بالأسود والأبيض ذات السيناريو الرائع والتي تروي قصة امرأة هجرها حبيبها، فتصمّم على العيش في كنف رجل فارّ من السجن بعد صدور حكم بالأشغال الشاقة في حقه. طوال مساره، لم ينحرف ماير عن ثوابته الجمالية والسينمائية والاخلاقية، ومنها أن العجز الجنسي يؤدي دائماً الى تفجر العنف. مع وصفه السلبي للمناطق الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية والصدامات العنيفة مع النظام القائم، وعشقه للنهدين اللذين احتلا مساحة شاعرية كبيرة من كادراته، روى أميركا كما لم تروَ من قبل.
هوفيك حبشيان
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى