صفحات ثقافية

بين «الغاوون» و «مقدمة»

null


عبده وازن

الشعراء العرب الشباب ما برحوا يبحثون عن مواقعهم في المشهد الشعري الراهن، طارحين على أنفسهم أولاً وعلى الآخرين أسئلة تحيرهم أو تقلقهم وهي غالباً أسئلة الشعر التي لا أجوبة شافية لها.

يصدر الشعراء الشباب حيناً تلو آخر مجلات وكراريس محمّلين إياها أصواتهم وبياناتهم وقصائدهم، بعضها يستمر قليلاً، بعضها يحتجب أو يصدر مزاجياً في شكل متقطع، وبعضها ينتهي لحظة الصدور عندما يدب الشقاق بين «الأهل». لكن هذه المجلات والكراريس تظل تفاجئ القارئ والمعترك الشعري خائضة مغامرة مجهولة «العواقب». إنها مجلات وكراريس هامشية، لا سلطة وراءها سوى سلطة النص نفسه ولا مال لديها. إنها مشاريع جميلة تسعى دوماً الى جعل الوهم حقيقة.

«الغاوون» جريدة شعرية جديدة صدر عددها الأول في بيروت و «مقدمة» مجلة أو كتاب غير دوري صدر في القاهرة عدده الأول. التزامن بين الإصدارين لا يعني أن المشروعين متشابهان وهنا ربما يكمن الاختلاف الذي لا بد منه. «الغاوون» تحمل ملامح مشروع جديد تماماً. إنها جريدة شعرية تجمع بين الطابع الإبداعي والطابع الصحافي. همها ان تنزل الشعر من برجه العاجي الى معركة الحياة كاشفة عن وجهه الآخر وارتباطه بهذه الحياة. مجلة «مقدمة» التي أعلنت غايتها مسبقاً وهي اقتصارها على قصيدة النثر تجمع بين النص الإبداعي والنص النقدي ذي الطابع الرصين. حددت «مقدمة» ملامحها مسبقاً وللفور ورسمت خطها ولا محاد عن هذا الخط: قصيدة النثر الجديدة.

«الغاوون» تصر على صفتها مشروعاً مفتوحاً تتعانق فيه قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة وربما الكلاسيكية. أفق واسع للشعر أياً تكن تجلياته وأشكاله. انها في هذا المنحى جريدة اختبارية همها أن تبحث باستمرار وليس ان تجد فقط. هكذا بدا بيانها التأسيسي بعيداً من لهجة البيانات الرسمية وقد انطلق من مقولة الشاعر الألماني بريخت: «لن يقولوا: كانت الأزمة رديئة، بل سيقولون: لماذا سكت الشعراء». ويعي مؤسسا الجريدة ورئيسا تحريرها زينب عساف وماهر شرف الدين معنى ان تصدر «الغاوون» في بيروت التي «طردت السياسة فيها كل ما عداها».

الوعي يدفع كاتبي البيان الى اعتبار الشعر «وهماً» ولكن «دعماً قيادياً». وفي رأيهما ان «الشعر لا ينتصر الا بالأوهام الكبيرة». هذا كلام طوباوي جميل ويحمل الكثير من الأمل لا سيما في هذه المرحلة التي تشهد حالاً من الاضطراب الشعري والتي ينحسر فيها قراء الشعر حتى ليغدوا أقلية قليلة. بل يصر البيان أن «لا قيامة للعرب من دون شعر، لأن لا حضارة كانت لهم من دونه».

اما مجلة «مقدمة» التي كانت تطمح أسرة تحريرها الى تسميتها «ما بعد الشعر» ثم عدلت عن هذا الاسم نتيجة «التعقل المقيت» فهي تربط «الشعرية العربية الجديدة» بجو قصيدة النثر، ولعل بيانها التأسيسي الذي جاهر بخروج المجلة عن أي بُعد ايديولوجي جعل من قصيدة النثر ما يشبه النزعة الايديولوجية ولو مضمرة. فماذا يعني حصر الشعرية الجديدة في فضاء قصيدة النثر بعدما تخطّى الشعر الراهن – عربياً وعالمياً – معايير النوع ومقاييس النص المغلق؟ الا أن البيان يشدد على قصيدة النثر «في طروحاتها المتعددة التي تجاورت – مرحليا – ما أسست له مفاهيم سوزان برنار في بيانات مدرستي «شعر» البيروتية وكركوك العراقية. وما يجدر الالتفات اليه في مثل هذا الكلام ان الناقدة الفرنسية سوزان برنار لم تؤسس مفاهيم قصيدة النثر بل هي استخلصتها من اعمال الشعراء الفرنسيين ثم حددتها وأدرجتها في مقاييس معينة باتت معروفة وقديمة ومستهلكة. اليوم اصبحت قصيدة النثر جزءاً من شعر النثر الذي لا يخضع لأي نموذج او شرط والذي استحال شعراً مفتوحاً على الحرية وعلى الانواع كافة واكتسب صفة التجريب في معناه الشاسع، لكن بعض اهداف المجلة لا يخلو من الجرأة البعيدة من الغوغاء والضوضاء ومنها على سبيل المثال: خروج النص الجديد على الوعي الرسولي ولغته المتفجعة، معارضة الخطاب الأبوي السلطوي، رفض القولبة والصراعات المجانية و «الخنادق» ونبذ الايديولوجيا. اما الاعتراف الذي تبحث عنه المجلة فهو «اعتراف لا يملكه سوى قارئ الشعر، هذا الكائن المغدور». وترسيخاً لانحيازها الى قصيدة النثر أعدت المجلة ملفاً عن الشاعر أنسي الحاج ضم مقالات عنه هي أشبه بالتحيات وبضع دراسات عميقة علاوة على مختارات من قصائده. وإنْ حضر شعر النثر بقوة في زاوية «نصوص» فإن قصيدة النثر احتلت كل الأبحاث التي نشرت في زاوية «نقد». لكن معظم الابحاث لم يأت بجديد وبدا استعادة لمقولات سابقة. إلا ان الملاحظة لا تشمل كل الابحاث طبعاً. وبدا مشروع المجلة عربياً وليس مصرياً فحسب اذ ضمّت هيئة التحرير اسماء مثل: سامر أبو هواش (فلسطين / لبنان)، محمد فؤاد (سورية) وعاطف عبدالعزيز وغادة نبيل ومحمود قري (مصر). وكان انسحب من الهئية ثلاثة شعراء مصريين لدى صدور العدد الاول هم: علي منصور، ابراهيم داود وفتحي عبدالله.

تختلف «الغاوون» عن «مقدمة» كل الاختلاف اذاً «الغاوون» جريدة شهرية شكلاً وروحاً، غايتها ان توازي بين النص وحياة صاحبه او ان تجاور بين الكتابة والحياة بصفة الحياة نصاً آخر. وليس من المستغرب ان تنتهج خطاً جديداً وغير مألوف كأن تجمع بين التحقيق الحي والريبورتاج والبورتريه والاستفتاء… اضافة الى النصوص الابداعية والترجمات والمتابعات. مجلة «مقدمة» اختارت الرصانة النقدية مصحوبة بحرية الإبداع ولو ضمن تخوم ما تسميه «قصيدة النثر» المتحررة من المفاهيم السابقة.

الأمل، كل الأمل ان تستمر الجريدة اللبنانية والمجلة المصرية في الصدور وأن تتخطيا العقبات التي غالباً ما تعترض مثل هذه المشاريع الجميلة والطوباوية.

الحياة – 17/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى