صفحات ثقافية

مذكرات غير منشورة للشاعرة الروسية الكبيرة مارينا تسيتاييا

null


استيقظت فشعرت أن سنواتي كلها والأشهر قد عددتها على أصابعي
تقديم وترجمة: كوليت مرشليان
صدرت بالروسية والفرنسية في آن مذكرات الشاعرة الروسية مارينا تسيتاييا التي ألهبت بقصائدها قلوب قرائها ومخيلاتها، وهي دوّنت ما بين 1913 و1939 ذكرياتها ويومياتها وأيضاً ملاحظاتها حول روسيا زمن الثورة. هذه الوثائق التي صدرت أخيراً في روسيا، تصدر اليوم في باريس بترجمة لإلين آمورسكي ونادين دوبوريو عن “منشورات دي سيرت”

وقد أشرف عليها ونسّقها لوبّا جورجنسن. كذلك تتزامن هذه المذكرات مع صدور الترجمة الفرنسية للسيرة التي وضعتها ابنتها آدريانا افرون وعنوانها “مارينا تسيتاييا، أمي”، نقلتها الى الفرنسية سيمون غوبلو لتصدر أيضاً عن “منشورات دي سيرت”. ما تفصح عنه هذه المذكرات لا يشبه على الإطلاق الصورة المعروفة التي ارتسمت لشخصية الشاعرة استناداً الى كتاباتها الشعرية المتألقة. فثمة ما سيفاجئ قراءها، لكن ثمة أيضاً ما سيؤثر في تفاصيل حياة هذه المرأة التي عانت بقسوة زمن الثورة البولشفية… والمعروف أنها عاشت وحيدة مع ابنتيها لكنها ستتخلى عن الثانية لتودعها مع ميتم على أمل أنها سوف تتلقى وجبة طعام يومية واحدة تنقذها من المجاعة، لكن ما سيحدث هو عكس ذلك وستموت ابنتها جوعاً في الميتم. نقتطف من مذكراتها بعض المقاطع:

مقاطع من النص غير المنشور

(…) والفقر يصير أسلوب حياة متواصل، يصير حلماً. في هذه اللحظة، أنا أعيش تماماً كما أحب: في غرفة واحدة ـ في عليّة المبنى! ـ والسماء قريبة جداً وأنا بالقرب من أولادي: هنا ألعاب ايرينا وكتب عليا ـ بالقرب من الفأس وإبريق الشاي وسلّة البطاطا ـ كلهم أبطال دراما حياتي الحالية! ـ كذلك كتبي ودفاتري وبقعة ماء على الأرض بسبب تصدّع صغير في السقف، وأيضاً شعاع شمس يدخل أحياناً ويغمر الغرفة، خارج الزمن، ويمكن أن يحدث هذا في أي وقت، وأجد هنا مشهداً أبدياً: الأم والأولاد والشاعرة والسقف. وأنا لست من النساء اللواتي يركضن وراء شيء أو من اللواتي نركض وراءهم، أو ربما أنتمي الى الفئة الأولى ـ ولكن ركضي مختلف ـ وهو يحصل في القصائد.

(وتصف مارينا حياتها اليومية الى جانب عليا (وهو تصغير اسمها الحقيقي آريدنا) التي ستكتب سيرة والدتها بعد حين).

والناس لا يعرفون ما قيمة الكلمات عندي (وبالطبع هي أفضل من المال لأن الكلمات تعبر بسهولة أكبر عن عرفانها بالجميل).

ويومي: استيقظ ـ حين تصير النافذة في السقف بيضاء اللون ـ برد ـ بقع ماء على الأرض ـ غبار ـ صحون ـ أباريق ـ قطع قماش ـ فساتين وثياب للأولاد في كل مكان. أقطع الخشب. أعيد إشعال النار. أغسل بالماء المثلج والبارد رؤوس البطاطا التي أضعها على النار في “السموار” (إبريق روسي للطهي). أشعل النار تحت الساموار بالجمر الملتهب الذي انتزعه من المدفأة، (أرتدي على الدوام ليلاً ونهاراً، ذاك الفستان البني الذي خاطته لي آسيا في ربيع العام 17 في الكسندرو، والذي، في أحد الأيام، أصبح ضيقاً، وهو محروق بفعل الجمر والسجائر التي تقع أحياناً عليه. أما أكمامه التي كانت ممسوكة سابقاً بقطعة مطاطة، فقد صارت مزمومة مثل البوق فوق ذراعيّ وأربطها بدبوس آمن).

ثم يأتي وقت التنظيف ـ “عليا، أخرجي الدلو الكبير!” وكان هذا الدلو يشكل الشخصية الرئيسية في حياتنا: لأنه كان يحتوي على الساموار الذي كان بدأ يجعل المياه تتسرّب منه حين تغلي فيه، كذلك كنّا نجمع فيه كل المياه التي نستعمل لأن المياه في القساطل كانت قد تجمّدت بفعل البرد. وكنتُ أنا أهتم بتفريغ الدلو كل ليلة تحت نافذتي. ومن دون هذا الدلو الضخم، لكنّا متنا.

لم أبحث يوماً عن أبياتي الشعرية. كانت هي التي تبحث عني. إضافة الى ذلك، كنت أحياناً أشعر برغبة في الكتابة من دون أن أعرف ماذا أكتب أو ماذا أترك. لذا كتبت نحو مليار بيت شعري غير مكتمل، أو غير مدوّن كلياً.

وكان يحصل أحياناً أن أكتب هكذا: أبياتاً شعرية على يمين الصفحة، أو على يسارها، أو في زاوية ثم في الزاوية المقابلة، وكأن يدي كانت تطير من مكان الى آخر فوق الصفحة حيث كنتُ أكتب هنا، ثم سرعان ما أجد يدي تغط في مكان آخر كي لا أنسى الفكرة! ألتقط! أحتفظ! لم يكن الوقت الذي ينفذ مني، بل يداي!…

(فقدت مارينا تسيتاييا ابنتها الثانية، ايرينا، حين كانت أودعتها في ميتم رهيب جعلها تموت جوعاً).

(…) إيرينا، لو كنتِ لا تزالين على قيد الحياة، لكنتُ أطعمتكِ من الصباح حتى الليل ـ مع أننا نأكل القليل القليل، عليا وأنا! ـ إيرينا، يجب أن تعلمي، أنني أرسلتكِ الى الميتم، لا لأتخلص منكِ، ولكن لأنهم وعدوني بأنهم سيطعمونكِ الرز والشوكولا. ولكنهم بدلاً من ذلك، قدموا لكِ الموت جوعاً.

أنا ذاهلة للمرة الألف بفعل هذا “الصمت” الذي تجري فيه الأمور وأيضاً “البساطة” التي تحصل فيها هذه الأحداث الهائلة.

فلا عواصف، ولا صواعق، ولا حتى كلمات مثل “لا بأس”!!! ولكن بكل بساطة هناك أقل ما يمكن أن يداوي، الى جانب منشفة صغيرة، ثم نتحدث عن المطر والثلج ـ نأكل، ندخن، وفجأة: ألفرد يتوقف عن التنفس! حتى من دون أن يطلب النجدة! لن أعرف “أبداً” كيف ماتت.

(…) وهكذا، ببساطة وبشكل طبيعي، أعود الى منزلي، الى ذاتي حيث لا أحد يتناقش معي، حيث لا أحد يرفضني، في بيتي حيث هناك من يحبني رغم كل شيء. وليست غلطتي، إذا كانت هذه الأمور تعطي شِعراً!!).

(أمضت مارينا بضعة أعوام في باريس قبل أن تقرر العودة الى الاتحاد السوفياتي).

أجل، أجل، أجل، باريس مدينة تعج بالنساء: الفرنسيات، والأميركيات، والسوداوات الصغيرات، إلخ… الشابات، الناعمات، الجميلات، الثريات، الأنيقات، الفرحات، الساحرات، إلخ… وأنا المرأة بشعري الرمادي وحذائي العتيق (ألبسه منذ أربعة أعوام) وقمصاني التي أشتريها بعشرة فرنكات (من متاجر الأونيبري!) كيف حلمت بأن أحتفظ ـ ولو لساعة واحدة ـ بشاب مفعم بالعافية والشباب، وبظروفه الجيدة التي تجعله في موقع “الفريسة” من كل الجهات حيث يشتهيه كل من يراه وفي أي مكان.

وفي المقابل:

هناك ربما ـ اليوم ـ ثلاثة شعراء كبار في العالم ـ وأنا أحدهم.

(1939: بعد عودتها من باريس، وصلت مارينا الى روسيا مع عائلتها وكتبت الصفحة الأخيرة من دفترها الخاص، لأنها ما أن وصلت حتى ألقي القبض على ابنتها آريدنا وزوجها ومنذ ذلك الحين لم يحصل أن رأتهما ثانية. بعد سنتين على الحادثة، شنقت مارينا نفسها في الشهر نفسه الذي اختفت فيه ابنتها وهو شهر آب. كتبت في الصفحة الأخيرة من مذكراتها:

(…) الإثنين 19 آب، في الصباح.

إنها التاسعة صباحاً ـ بعد قليل، نصل الى روسيا. وقفنا أمام التفتيش ساعات. وعمليات البحث في حقائبنا كانت تجعل الأغراض تعود محشورة الى مكانها بشكل رهيب لتصير مثل قنينة الشمبانيا الجاهزة للإنبلاج! 13 رزمة موضّبة من ضمنها سلّة ضخمة وكيسين وسلّة خاصة بالكتب! الرسوم الخاصة بكتاب “مور” حصدت نجاحاً كبيراً.

وضعوا يدهم عليها من دون سؤال ومن دون أي شرح (لحسن الحظ أن المخطوط لم يكن ليعجبهم أيضاً!) لم يطرحوا سؤالاً حول المخطوط. بل أسئلة عن “السيدة لافارغ”، و”مدام كوري” وكتاب “المنفية” أيضاً للكاتبة بيرل باك.

كان الموظف الجمركي المسؤول مقيتاً جداً: إنساناً بارداً، بعيداً عن روح الفكاهة، أما الآخرون، فكانوا أكثر طيبة منه. من جهتي، رحت أمازحهم قليلاً، وفي الوقت نفسه، كنت على عجلة من أمري: فلا أعود أتمكن من إعادة كل أغراضي وأمتعتي الى مكانها في الحقائب، وكان القطار ينتظر. فساعدني أحدهم، وموظف آخر ادعى أن كل الحقائب قد خضعت للتفتيش ليجعلني أمرّ مع أن الحقيبة السوداء الضخمة لم تكن قد مرّت على التدقيق الجمركي، والكل كان يعرف هذا (…).

وذاك الصباح، حين استيقظت، شعرت أن سنواتي كلها قد عددتها على أصابعي (وأيضاً الأشهر!).

الوداع، أيتها الحقول! الوداع، أيها المغيب! الوداع، أيتها الأرض، “أرضي أنا“!.

سيكون الأمر مؤسفاً! ليس فقط من أجلي. بل لأنه ما من أحد سيحب كل هذا، مثلي“.

المستقبل – الاثنين 17 آذار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى