صفحات العالمما يحدث في لبنان

رجــل الدولــة

سليمان تقي الدين
لدينا الكثير من الزعماء والقليل النادر من رجال الدولة. ليس شرطاً على رجل الدولة أن يتخلى عن زعامته الشعبية، بل عليه فقط أن يدرك حدود هذه وتلك والفارق بينهما. الزعماء اللبنانيون مدارس في كسب الشعبية لكنهم يتقاطعون عند استدرار عطف جمهورهم الطائفي ولو اختلفت الوسائل. بعض القيادات التاريخية في الماضي اشتغلوا على مشروع وطني فكان هاجسهم اختراق التشكيلة الطائفية وقد نجحوا إلى حد بعيد. أما اليوم فالمنافسة قائمة على الاستغراق في بناء الموقع الطائفي باعتباره أقصر الطرق للحصول على الشرعية السياسية ودورها في السلطة.
لعبة التحالفات لا تكفي وحدها لتجاوز الإطار الطائفي، بل هي في معظم الأحيان التكريس العملي له. نحن الآن في عمق هذا المشهد. عندما ينتقل الزعيم إلى السلطة لديه الفرصة المفتوحة لكي يصير «رجل دولة». التعامل مع قضايا الناس جميعاً وبالضرورة مع جميع القوى والاتجاهات هو المحك. هو من يقرر لأي رصيد يريد أن يضيف.
رئيس حكومة لبنان المكلّف استنفد زعامته الطائفية حتى الثمالة. لم يعد لديه من مزيد. التحدي الأكبر الذي يواجهه أن يدير الدولة بما يؤمن رضى أكثرية اللبنانيين وتأييدهم. هناك شرطان لا بد من توافرهما: الأول هو الإحاطة السياسية بما يشكل المناخ الوطني العام والثاني هو العدالة في تأدية الوظائف العامة للدولة، في الأمن والاقتصاد والخدمات والإدارة. ليس سهلاً طبعاً الانتقال من المشروع السياسي الفئوي إلى المشروع اللبناني الجامع. لكن المحاولة ممكنة وتستحق السعي. هناك افتراق سياسي واضح، لكن جزءاً كبيراً منه تلاشى بفعل انحسار الضغوط الإقليمية والدولية لفرض خيار واحد واتجاه واحد على لبنان. دلّت تجربة السنوات الأربع الماضية على أن لبنان محكوم بسقوف سياسية لا يستطيع تجاوزها. كما هو محكوم بجملة قواعد لتوازن السلطة أيضاً لا يمكن تجاوزها. إذا صح هذا الأمر، وقد أكدته الوقائع، فإنه لا أفق ولا مستقبل لأي من المشاريع الجذرية التي تبدّل أشياء أساسية في «الصيغة». الشيء الوحيد الممكن هو تعديل التوازنات وتصحيح الاتجاهات المغالية والحد من الطموحات التي تلامس الأوهام.
كل الهياج السياسي الذي شهدناه، وكل الخطاب العالي السقف والانقلابي في مرتجاه لم يصمد إلى لحظة استحقاق إعادة بناء السلطة سواء من خلال اتفاق «الدوحة» أو من خلال نتائج الانتخابات. إذا تمّ فهم هذه الخلاصات، فإن الرئيس المكلف يمكنه، لو شاء، تأليف الحكومة في يوم واحد لفعل. قد يكون لشيطان التفاصيل حصته من تأخير التأليف، لكن الأصل هو احترام القواعد الأساسية التي تلغي احتمالات الأزمة في الحكم.
الانشقاق السياسي الذي يتخذ صفة الأكثرية والأقلية أو الموالاة والمعارضة لا يمكن تحويله إلى ظاهرة صحية وديموقراطية طالما أنه انشقاق طائفي في العمق وبين قوى النظام نفسها. هذا هو واقع الحال وهذا ما أنتجته الطبقة السياسية في عجزها عن إخراج الصراع من الدائرة الطائفية والمذهبية بتكوينها وشعاراتها وبرامجها وإجراءاتها، ومنها قانون الانتخاب. فإذا كنا بحاجة إلى سلطة تدير البلاد من دون تعطيل ومن ودون أزمات إضافية سياسية أو أمنية فإننا محكومون بالعمل على إنتاج التسويات وليس المغالبة. إن رجل الدولة بهذا المعنى له مهمة حاسمة في بلورة التسوية والعمل على تجاوزها دائماً بكل ما لديه من إمكانات لكي يحسن شروطها ولكي يحفظ المصالح العليا ويوسع المجال العام بين اللبنانيين ويعزز انخراطهم فيه.
في الواقع اللبناني ليست السلطة نهاية المطاف. ثمة سلطات واقعية لها اليد الطولى على المسار السياسي وعلى المؤسسات. بين الدولة والشارع علاقة صراع تتجلى كل يوم في ضعف سلطة الدولة وهشاشتها. ولعل المحزن أن يشارك الجميع في إضعاف هيبة الدولة من خلال سلوك القوى السياسية.
فهل كانت رئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة تحتاج إلى شرعية السلاح ليعطيها الدعم طالما نحن على مسافة أيام من الانتخابات النيابية التي حدّدت أحجام القوى ولو شابها ما شابها من تأثير غير الضمير الانتخابي والسياسي؟! فإذا كانت ممارسة الحكم وإدارة الدولة ستكون امتداداً للعبة الشارع، فعبثاً نتوقع سلطة ضامنة لأي شيء، لا سياسات حاضنة للمقاومة ولا سياسات فيها رؤية وطنية تتطلع إلى جميع المناطق والمواطنين بعين واحدة، ولا طبعاً تفعيل المؤسسات واستقامة عملها.
إذا تشكلت الحكومة، وكيف ستشكل، نعرف بالضبط أي مؤهلات لدى الفريق السياسي الحاكم، وهل تصنع التحديات والظروف الصعبة المحيطة بنا رجال دولة يحفظون على الأقل وحدتها ريثما يحين وقت التغيير والإصلاح.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى