صفحات سورية

سوريا لا تتورط .. فماذا عن أميركا؟

null
سمير كرم
تسلك الولايات المتحدة، خاصة في الآونة الأخيرة، طريقة تماثل سلوك »كلب بافلوف« في سلسلة التجارب الفيزيولوجية التي أجراها العالم الروسي بافلوف في أوائل القرن العشرين…
فلكي يبرهن بافلوف على صحة نظريته عن الارتباط الشرطي، عمد الى تجويع كلب التجارب ثم تقديم الطعام له، فكان لعاب الكلب يسيل بمجرد أن يرى الطعام، ولكن بافلوف عمد بعد ذلك الى تقديم الطعام للكلب مصحوبا بصوت مميز لجرس يسمعه الكلب جيدا. وبعد ذلك دق الجرس دون أن يقدم طعاما للكلب وكانت النتيجة ان لعاب الكلب صار يسيل إزاء صوت الجرس وحده. وهذا ما أطلق عليه بافلوف »رد الفعل المنعكس الشرطي«.
أميركا تسلك الآن كما كان يسلك كلب بافلوف في هذه التجربة … لسبب بسيط أنه تكوّن في جهازها العصبي ـ اذا جاز التعبير ـ نوع من الارتباط الشرطي بين سوريا وإيران، بين سوريا وحزب الله، بين سوريا والمقاومة الفلسطينية المسلحة. كذلك بين سوريا والممانعة العربية لخط الاعتدال المستسلم للسياسات الاميركية حيثما كانت، وبالاخص في ما يتعلق بالقضايا والمصالح العربية.
وفي وقت يتضح فيه بجلاء أن إدارة بوش تجد نفسها مضطرة لابتلاع كل تهديداتها العسكرية التي ظلت تطلقها ضد إيران لسنوات، فإن لعابها يسيل أمام فرصة أو رغبة في تنفيذ عملية عسكرية محدودة ضد موقع سوري قريب من الحدود العراقية، على سبيل رد الفعل المنعكس الشرطي لغياب أي فعل ضد ايران.
وفي وقت تقف فيه اسرائيل حتى الآن عاجزة عن عمل أي شيء ضد ايران أو ضد حزب الله، يفعل قانون رد الفعل الشرطي فعله ويسيل لعاب أميركا لعدوان على سوريا دون أن تكون سوريا قد أقدمت على عمل يثير مثل هذا الفعل المنعكس.
وفي وقت تبدو فيه نظم الحكم »المعتدلة« الموالية للولايات المتحدة نفسها عاجزة عن التأثير، بل مهددة بأن تطيحها رياح الازمة المالية الصاعقة التي تهب من الولايات المتحدة … فإن النخبة الحاكمة الاميركية يسيل لعابها للعدوان على الطرف العربي الذي يؤدي دور الممانعة في أكثر الظروف الدولية وعورة وخطورة.
وأخيرا وليس آخرا فإن الرفض العراقي لشروط الاستسلام للهيمنة الاميركية العسكرية والسياسية والاقتصادية يسيل اللعاب الاميركي، لان سوريا تحدث تأثيرها الشرطي باعتبارها الطرف الفاعل العربي القريب من الميدان العراقي.
إذاً فالعوامل الشرطية التي تجعل الأجهزة العصبية في الدماغ الاميركي تتحرك بهذا الاتجاه الذي اتضح في الغارة الاميركية على المنطقة الحدودية السورية تشكل أسبابا مباشرة لكي يسيل لعاب الاجهزة الاميركية للقيام بعمل ضد سوريا. ولكن هل استطاعت الولايات المتحدة ان تحقق »إشباعا«حقيقيا من أي جوع لديها؟
ربما لا يكون هذا هو السؤال الجوهري، وان كان من المؤكد أن إجابته هي بالنفي، انما السؤال الجوهري حقا يتعلق بتوقيت هذا العدوان على الموقع السوري النائي. ونعني بالتوقيت عدة نقاط فاصلة: (١) وقوعه قبل أسبوعين اثنين من موعد الانتخابات العامة الأميركية، (٢) في وقت يأتي بعد المحادثات غير المباشرة بوساطة تركية بين سوريا واسرائيل، (٣) في وقت تريد فيه الولايات المتحدة بإلحاح يصل الى حد التهديد فرض المعاهدة الامنية على العراق، (٤) في وقت اقتراب سوري ـ روسي … الامر الذي لم تقابله واشنطن بأي ارتياح وكأن الحرب الباردة لا تزال قائمة والصراع بين الكتلتين يضع العالم على حافة الهاوية، (٥) في وقت ورطت الولايات المتحدة فيه نفسها في حرب جانبية داخل باكستان على نحو لم يفلح في تخفيف الضغط من المقاومة على القوات الاميركية والاطلسية والحكومية، بل عمق وزاد من حدة العداء لأميركا في المنطقة بأسرها.
الأسئلة كثيرة حول التوقيت والإجابات ـ إن وجدت ـ قليلة وغير شافية، بل تأتي معها بمشكلات أعقد.
وعلى سبيل المثال فإن إحدى الاجابات التي ظهرت بشأن هذه العملية تذهب الى انها تمت دون أمر ودون علم من الرئاسة الاميركية، وانها تمت بأوامر من وزارة الدفاع أو ـ وهذا أكدته مصادر أكثر أهمية ـ بأوامر من وكالة المخابرات المركزية (سي.اي . اي). ومن المشروع قراءة هذه المعلومات على أنها تعني ان أطرافا وثيقة الصلة بإسرائيل هي صاحبة قرار الاغارة على الموقع السوري. وهذا يفسر ايضا امتناع الخارجية الاميركية عن الادلاء بأية تفصيلات بما في ذلك تفصيلات الاتهامات ضد سوريا التي استوجبت في رأي واشنطن شن هذه الغارة.
في كل الاحوال فإن الحافز الدائم لدى الولايات المتحدة واسرائيل للصدام مع سوريا ـ اذا اتخذ شكلا عسكريا أو أمنيا أو غير هذا أو ذاك ـ هو خلق ظروف تلائم توريط سوريا في حرب أوسع … بما في ذلك الظروف العربية العامة، وان الصدام بسوريا هو محاولة مستمرة لالتقاط فرصة تفقد فيها سوريا أعصابها وتشرع في القيام بردود فعل عصبية تأخذها الى قرار تمليه واشنطن ولا تفرضه مصالح سورية مباشرة أو غير مباشرة. ان أقصى ما تتمناه واشنطن وتل أبيب ـ كما عبرت الباحثة الاميركية البارزة هيلينا كوبان ـ هو أن ترد سوريا بعنف فوري على النحو الذي يعطي لهما أو لأي منهما فرصة شن حرب شاملة على سوريا.
واذا صح أن القرار اتخذته جهة تربطها علاقة خاصة بإسرائيل (حتى داخل العلاقات الخاصة الاميركية الاسرائيلية)، فإن معنى هذا أن إسرائيل لعبت دورا في تحديد موقع الهجوم وتحديد مبرراته. أي ان المخابرات الاميركية كانت ألعوبة بيد المخابرات الاسرائيلية، وهذا وضع له سوابق كثيرة. لكن الفترة التي انقضت على الواقعة كافية لتؤكد أن سوريا قادرة على ضبط النفس والتزام الحذر وتفويت الفرصة على الاميركيين والاسرائيليين مرة اخرى. وهذا ما وصفته الباحثة كوبان بأنه الاعصاب الفولاذية التي تملكها دمشق والتي أحبطت محاولات الاستفزاز السابقة كلها، والتي كان أقصاها أثناء حرب صيف عام ٢٠٠٦ بين اسرائيل والمقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله.
أما لماذا تعتقد القوى المعادية لسوريا داخل الاجهزة الاميركية أن الوقت مناسب لهذه المحاولة لاستفزاز سوريا أو جرها الى حرب أوسع نطاقا لم توجهها واشنطن أو تل أبيب الى ايران، فهو أمر يتصل بالوضع العربي العام.
ان بالامكان الجزم بأن الوضع العربي العام الراهن ـ حيث يغيب التنسيق حتى في حده الادنى بين الدول العربية خاصة ذات الدور الاقليمي ـ مسؤول بالدرجة الاولى عما أقدم عليه الاميركيون بقرار شن هذا العدوان على موقع سوري على سبيل الاستفزاز ومحاولة جر سوريا الى حرب تختار واشنطن وتل أبيب توقيتها وطبيعتها ومداها. بمعنى أن وجود قوى عربية رئيسية، هي مصر والسعودية والاردن ومعظم المجموعة الخليجية في جبهة واحدة خاضعة وبالتالي مؤيدة للسياسات الاميركية حتى في أقصى انحيازها لإسرائيل، يشكل حافزا للاميركيين والاسرائيليين لممارسة الضغط على سوريا دون توقع رد فعل معاكس من هذه الجبهة »المعتدلة«. وحسب قوانين الارتباط الشرطي فإن الضغط على سوريا هو في الوقت نفسه ضغط على ايران وحزب الله (ومن خلاله على لبنان ككل) والمقاومة المسلحة الفلسطينية.
قد لا نستطيع في غياب دليل محدد ويقيني أن نقول إن ثمة تنسيقا مسبقا بين الاجهزة الاميركية صاحبة القرار والنظم العربية التي تصدع لخطط واشنطن وقراراتها. فأحرى أن واشنطن لا تحتاج لأخذ رأي أي من العواصم المعتدلة. انها تملك »كارت بلانش« منها وتعرف مسبقا ان أحدا من هؤلاء لن يعترض … ناهيك عن رد الفعل الايجابي أو الصامت إزاء هذا العدوان ما دامت سوريا هي الهدف.
بتعبير أوضح فإن الوضع »الاستراتيجي« العربي أتاح وقوع هذا العدوان … وما كان له أن يقع لو أن واشنطن كانت تخشى على مصالحها على الجانب العربي.
أما ان هذا العدوان قد وقع قبل أيام من الانتخابات العامة الاميركية فإن هذا التوقيت يشير الى رغبة في الزج بالادارة التالية التي تأتي بها الانتخابات في مسار سياسة أكثر تصادما مع سوريا. … وبالتالي عرقلة أي جهد يؤدي اليه مجيء ادارة جديدة لتأسيس فرصة لتوجه ايجابي للعلاقات الاميركية السورية مراعاة لأهمية دور سوريا الاقليمي على اقل تقدير.
ولكن ماذا عن وجهة النظر الاسرائيلية في هذه العملية؟
على النقيض من حالة أشبه بالصمت حلت على الادارة الاميركية وأجهزتها، فإن المسؤولين العسكريين والمخابراتيين الاسرائيليين أطلقوا لأنفسهم حرية الى حد يمكن وصفه بأنهم عينوا أنفسهم متحدثين باسم الاجهزة الاميركية في ما يتعلق بهذه الغارة. لقد اعتبروها فرصة مواتية لإطلاق الاتهامات ضد سوريا، وحرصوا على أن يجعلوها الاتهامات الاوسع والاكثر حدة منذ حرب صيف ٢٠٠٦ على لبنان. ويمكن تحديد هذه الاتهامات الاسرائيلية المبررة للهجوم الاميركي في النقاط التالية (١) ان السوريين قد أزالوا كل الكوابح عن نشاط حزب الله. (٢) ان مخازن الاسلحة السورية مفتوحة الآن أكثر من أي وقت مضى أمام حزب الله. (٣) ان فعاليات حزب الله تمارس الآن نشاطها من داخل سوريا.. حسب تصريحات رئيس المخابرات العسكرية الاسرائيلية. (٤) ان سوريا وايران »تشتريان النظام الحاكم في لبنان، في محاولة مشتركة للسيطرة عليه (حسب نشرة »المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي« في واشنطن، وهو المعهد الذي يؤدي دور اللوبي العسكري لإسرائيل في اميركا). (٥) ان سوريا نشطت أكثر من أي وقت مضى في مجال التزود بقدرات نووية. (٦) ان واشنطن غير راضية عن المحادثات غير المباشرة التي تتوسط فيها سوريا من أجل إحياء مفاوضات السلام السورية ـ الاسرائيلية.
[[[
لم تعط الغارة الاميركية أي نتيجة »مشبعة« للجانب الاميركي. لم تهتز سوريا واحتفظت لنفسها بحق الرد وفقا لقاعدة »العين بالعين« وأخفقت العملية الاميركية بدفع دمشق الى التورط في حرب أشمل لم تختر توقيتها ولا طبيعتها … وقد تتكرر العملية الاميركية، ولكن أعصاب سوريا الفولاذية تعطي الضمان بأن لا تتورط …
ولكن ليس هناك من ضمان ابدا بأن لا تجد أميركا نفسها متورطة في حرب أشمل دفاعا عن اسرائيل أو عن »المصالح الاميركية« في المنطقة. لا ضمان بأن أميركا تعرف كيف لا تتورط. تجاربها السابقة تؤكد أن لديها استعدادا للتورط في ما لا تحسب له حسابا.
([) كاتب سياسي عربي من مصر
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى