أطياف ممدوح عدوان دراسة وحوارات.. عصا السلطة وساطور المعارضة
انور محمد
لماذا يهزأ العقل من الحلِّ المعقول (التوافقي) الذي يفرضه القرار السياسي، والذي يجيء عادةً على شكل ضربةٍ قاصمة، لا تسمح للمفكِّر/ الأديب بالأخذ بما هو عقلاني. لا سيما أنَّ المعقول هذا قد يكون خرافةً من تلك الخرافات التي صارت على مدى الأيام عقيدةً ما؛
لشعبٍ ما؛ أو لأمَّةٍ ما، أو لحزبٍ ما؟! في (أطياف ممدوح عدوان ـ شهادة الحياة وشهادة الإبداع) الذي ضمَّ قراءةً نقديةً للدكتور محمد صابر عبيد؛ وسبعة حوارات مع ممدوح عدوان كان قد أجراها كل من: د. فيصل دراج، نديم الوزة، علي ديوب، سعيد البرغوثي، غالية قباني، أمينة عباس، د. عبد الله أبو هيف. يُطيح ممدوح عدوان بالمعقولِ الخرافة؛ لأنَّ الفعل الإبداعي هو فعلٌ عقلي إرادي فلا ممنوعات على العقل و لا محرَّماتٍ في الثقافة الإنسانية.
لكنَّها حوارات كانت ستضيع لو لم تجمعها إلهام عدوان في هذا الكتاب؛ فلا نعرفُ عن هذا المثقَّف كيف يرفع الكلفة مع الحياة، وهو يشلِّحُها ثيابها قطعةً قطعةً فلا تخجلُ منه ولا يخجل منها، وكأنَّهما عاشقان. فيقول لفيصل دراج؛ عشت في بيئةٍ شيعية، ومع أنَّني كنت ميالاً إلى التمرُّد والرفض، إلا أنَّ هذا الأمر أثَّر فيَّ كثيراً إلى جانب الدين والخرافة والتراث، فكان هناك ما يجعل العقل يشتغل دائماً، ففي ريفنا (عاش ممدوح طفولته وجزءاً من صباه ما بين قريتي دير ماما وقيرون، وهما في منطقة مصياف حماة السورية) لم يكن التعصُّب الديني يغلِّفُ الحياة، بل كان هناك تعاملٌ ميسور مع الدين، وصارت النكتة تتطاول حتى تمسَّ أقدس الرموز، والكلُّ يتعامل مع هذه النكتة بظُرف لكن ليس بجهلٍ بالقيمة الحقيقية لها، إنَّه نوع من التماس الخطر مع المقدَّس. وهذا التماس الذي لا يرتِّب ذنباً، شبيهٌ بالتعامل مع المتفجِّرات التي لا تنفجر، شبيهٌ بذاك الموت الذي كان يتمنَّاه ممدوح عدوان في حواره مع نديم الوزة لأبٍ؛ فلا يفقد كبرياءه فيكون الموت حلاً جميلاً، يكون موتاً إنَّما بعزٍّ. موتٌ كان ينتظره ممدوح عدوان ولا ينظر إليه بذاك الخوف الذي ينظر إليه اللصوص والقراصنة والملوك والرؤساء، الذين جاؤوا إلى الحكم عن طريق الاستقواء بالآخر. لأنَّه كان ينظر إليه على أنَّه معطِّلٌ معرقلٌ للمشاريع؛ وهو حسب ما يقول ممدوح مستعدٌّ له ـ للموت؛ كما استعداده للنهوض عن المائدة قبل أن يشبع.
هذه شجاعةُ محاربٍ لا يريد أن يضيع الزمن ولا يشعر بأهميته حتى يجزَّ رقبته بسيفه، فيتدحرجُ رأسه على أنَّه كأيِّ رأسِ محارب. فممدوح يريد يعيش الحياة هكذا في الواقع على أنَّه مثقَّف ناقدٌ يحمل فكرا عقلانياً وعلمانياً العقلُ إطاره المعرفي. ففي الحوارات هذه حكى عن طفولته وصباه وشبابه، وعن المؤثِّرات الفكرية والثقافية التي تشكَّلت منها شخصيته؛ التي ملأ بها رأسه، هذا الرأس الذي ليس كأيِّ رأسٍ فيستخدمه، يستخدم العقلَ الذي فيه، فلا يجاملُ أو يحابي أحداً، فيرى أنَّ المُعَارض اليساري كان بيده أسلحة قمعية أكثر من السلطة، وقد وضع هؤلاء المعارضون معايير لا تصلح إلا للمسلخ، وسلخوا تاريخاً من الحياة الثقافية. ولذلك يقول ممدوح: كانت معركتنا معهم أكثر ضراوةً، لأنَّ المُعارض يعتقد أنَّه يمتلك الحقيقة الكاملة، بمقدار ما يملكها رجل السلطة؛ بفارق أنَّ رجل السلطة ـ ولأنَّه يفعل فعلاً يومياً على الأرض ـ يرى أنَّ هناك مبرراً للحوار معه ولنقده، ولو نقداً خفيفاً. أمَّا الأوَّل ـ ولأنَّه مُعارض، لا يفعل شيئاً إلا التنظير ـ فإنَّه يعتقد أنَّ الحقيقة لديه كاملة، ولذلك تأتي أحكامه أكثر صرامةً، وأشدُّ قسوةً.
ممدوح عدوان في هذا الكتاب الذي هو من حواراتٍ منتخبة كانت قد أجريت معه، تراه متفاعلاً ومنفتحاً على الفكر الإنساني، ويتألَّم، ومن ثمَّ يضحك، ومن ثمَّ يكزُّ على أسنانه بغضب. فالنهضة لا تتحقَّق إلا عبر نقد العقل الذي يحكم، نقداً معرفياً يقوم على تفكيك وزحزحة/ إزاحة آليات إنتاجه للمعرفةِ المخاتلةِ التي لا يهمُّها سوى أن تحكمَ وتحكمَ؛ ولو بالحديد والنار.
[ صادر عن دار ممدوح عدوان/دمشق