صفحات ثقافية

الفجر الكاذب في الأفق: مؤسسات الثقافة العربية!!

null


زياد منى

لن أعود إلى موضوعات تناولتُها في مقالتي التي نشرتْها الآداب (1/2-2007). ولن أتحدّثَ عن مسؤولي صفحات ثقافية لا يكلّفون أنفسَهم واجبَ الردّ على رسائل القراء والكتّاب بدعوى عدم وصول الرسالة دومًا، ناسين أنّ الإمبريالية اخترعتْ “كاشفَ كذبٍ” إلكترونيّاً يَكْشف وقتَ وصول الرسائل الإلكترونية وفتحها . . . من دون أن يدري المتسلِّمُ ذلك.

ولن أكتب عن مدراء ورؤساء ومسؤولي مؤسّسات علمية وثقافية يُهْملون الردَّ على الرسائل ما لم تبدأْ بـ: يشرّفنا أيُّها الصديقُ العزيز دعوتكَ إلى حضور مهرجان (أو حفل استقبال أو مؤتمر)، وما إلى ذلك من النشاطات . . . الثقافية جدّاً.

ولن أكتب عن المسؤولين الذين تُضطرُّ إلى الاستفسار منهم هاتفيّاً عن رسائلك إليهم، فيجيبون متعجِّبين: وهل أرسلتَ إلينا رسالة إلكترونية؟ اعذُرْنا، فنحن لا نقرأ البريدَ الإلكتروني!. فتنافسهم في التعجّب . . . ولكنْ بسبب مواقعَ وعناوينَ إلكترونيةٍ دائمةِ الخراب على أيّ حال.

ولن أكتبَ عن صفحات ثقافية دائمة العطل، وكثيرٌ منها لا يحدَّث إلا كلَّ بضعة أشهر أو أسابيع على أفضل حال. ولن أزعج القارئَ بالكتابة عن بريدها الإلكتروني المعطَّل.

ولن أشيرَ إلى مثقفين لا همّ لهم سوى مباركة هذا المسؤول “الثقافي”، ورفع كتاباته، مهما تدنّى مستواها، إلى مصاف الوحي الإلهي السرمدي. وهم في الوقت الذي يشكِّكون فيه بوجود الخالق، أو يلعنونه جهارًا نهارًا، بدعوى التحديث والحداثة والديمقراطية، ينفجرون بآيات التبريك والمديح والتكفير والشتم والقدح عندما تُنشر مقالةٌ تمتدح هذا الكاتب.

ولن أكتبَ عن ممارسة مسؤولي كثير من الصفحات الثقافية الذين يُشرعون صفحاتهم لنقد هذا أو ذاك من الكتب أو المقالات، لكنّهم لا يَمْنحون الرأيَ المخالفَ حقَّ الظهور في صفحاتهم. وسببُ هذا، طبعًا، أنّهم ديمقراطيون وحداثيون وضدّ القمع . . . إلاّ إذا جرى في الدول التي تموِّل صحفَهم الرديئةَ وتروِّج لكتاباتهم الأكثر رداءة؛ إنهم الليبراليون الجدد، أبناءُ المحافظين الجدد في واشنطن.

ولن أحدّثكم عن اللجان والمستشارين والمستشارات، والمدراء والمديرات، الذين واللاتي تقرأ أسماءهم وأسماءهنّ ضيوفًا على كلّ مؤتمر وكلّ لجنة وكلّ مهرجان. ولن أقول لكم إنّ الأسماء هي هي، وإنّ الوجوهَ هي نفسُها.

وسأتفادى الكتابةَ الآن عن مؤسّسات ثقافية عربية، قديمة ومستحدثة، كَثر الحديثُ عنها وعن إنجازاتها، التي ستُحِسُّ بها الأمةُ في القرون الآتية (وإنّ غدًا لناظره قريب)؛ وهي مؤسّساتٌ إنْ كتبتَ إليها، استجابةً لدعواتها المفتوحة، أجابتْكَ، بعد حوْل أو حوليْن، برسالةٍ، غالبًا ما تكون باللغة الإنكليزية: سوف نتصل بكم قريبًا!؛ ثم تمر السنينُ والعقودُ، وتنسى الموضوعَ أصلاً، فتأتيك الإجابةُ نفسُها: سنتّصل بك قريبًا؛ سلام من أيوب!.

ولن تَعْثروا في مقالي عن كلامٍ على صفحات ثقافية تروِّج لكتبٍ يَعلم القائمون عليها أنّ المؤلِّف دَفَعَ تكاليفَ إصدارها، لكنْ من دون إعلام القارئ بذلك.

ولن أحدِّثكم عن صفحات ثقافية تروّج لكتب صدرتْ من دون أن تكون دُورُ النشر قد حصلتْ على حقوق الترجمة من المؤسسة صاحبةِ الحقوق الفكرية.

ولن أكتبَ عن نقّاد يَحْملون عصا الأخلاق، لكنهم يتجاهلون قيامَ مؤسّسات حكومية عربية بالسطو على كتبِ دُورِ نشرٍ (على عينك يا تاجر!) بدعوى الخدمات التي تقدّمها إلى الثقافة العربية؛ وكأنّ قرصنةَ الكتب والسطوَ على إبداعات الغير يجب وضعُهما في خانة خدمة الثقافة!

ولن أكتبَ عن صفحات ثقافية تروِّج لصناعة سينمائية في بلدٍ لم ينتِجْ أيَّ فيلم، أو للحديث عن “تقليد عريق للإنتاج التلفزيوني” في بلدٍ يكاد لم يساهمْ ماليّاً في إنتاج مسلسل واحد، أو لمهرجان سينمائي عالمي في بلدٍ لم ينتجْ فيلمًا سينمائيّاً واحدًا بل استحضر “الهتّيفة” من الحسان لاستقبال النجوم والنجمات الهوليوودية.

لن أكتب عن هذا الكمّ من النفاق الذي يجعل الممدوحَ نفسَه يتقيّأ من المادح، لكنّه يكافئه من منطلق: “ادفع لهذا القـ . . .،” وسلامًا للمرحوم إسكندر الرياشي.

أما ما يجري في بعض معارض الكتب العربي، وخصوصًا تلك التي تقوم الدولةُ الداعيةُ إليه بابتياع نسخ من إصدارات بعض الدُّور والمؤسسات المشاركة فيه دون غيرها، فلن أتعرّض إليه هو أيضًا. طبعًا هناك من الملاعين “والموتَّرين الحاسدين” مَنْ يدّعي أنّ المؤسسات تلك تبتاع من دُورٍ نشر معينة لأنّ الأخيرة تعطي مسؤولَ الشراء فيها عمولةً. عمولة في الحياة الثقافية العربية؟ معقول؟! لكنْ، لأنّني كنتُ شاهدًا على ممارسة كهذه، فاسمحوا لي بأن أحدّثكم عن مسؤول شراء في إحدى الجامعات العربية زارني في معرض الكتاب في فرانكفورت عامَ 2004 وعَرَضَ عليّ شراءَ كلّ محتوى الجناح إذا دفعتُ له عمولةً محددة. فوجئ المسكينُ برفضي لأنّه اعتاد ذلك الأمرَ: اعتاد أخذَ العمولة طبعًا، لا رفضَ الناشر دفعهَا! لن أخبركم باسمه، ولا بالمؤسسة العلمية التي مثّلها وقتَها؛ فعلى كلّ مؤسّسةٍ مراقبةُ أعمالها وموظّفيها بنفسها. غير أنِّي، إضافةً إلى ذلك، على قناعةٍ بأنّه يقتسم العمولاتِ مع سيده الذي عيّنه في الموقع، ولذلك لا تتحسّن الأمور!

نَعرف أنّ بإمكان المؤسسات التي تبتاع الكتبَ من دُور نشر محدَّدة أن تَدْفع عن نفسها تلك التهمة بوضع قائمة بأسماء الكتب وأعدادها التي ابتاعتْها من كلّ دار نشر في وسائل الإعلام، درءًا للشبهات، بهدف “إخراس” الألسن المترصّدة بعظمة الإنجازات الثقافية العربية التي تتحدّث عن العمولات والمحسوبيات وغيرها. لكنْ موتوا بغيظكم؛ فتلك المؤسّسات لن تكترثَ بكم مادام ليس ثمة مِنْ حسيب، غير الخالق . . . وهو، كما نَعْلم، غفورٌ رحيم.

ولن أحدّثكم عن سبب تبوُّؤ دورُ نشرٍ محدّدة، عامًا بعد عام، أماكنَ الصدارة في قاعات المعارض، ولا عن سبب حجب هذه الأمكنة عن دُور نشرٍ تجد أجنحتَها، عامًا بعد عام، في المواقع الخلفية التي لا يدري المرءُ بوجودها.

كما أني قرّرتُ عدمَ الحديث عن تجارب دار قُدْمس مع “شخصيات” ومؤسسات ثقافية. فعندما حكيتُ لبعض الأصدقاء بعضَ ما مرّ بي من تجارب، اقترحوا عليّ دخولَ عالم الكتابة الأدبية: فقد ظنّوا أنّ خيالي واسع، وأنّ تلك الأحداث مختلقة لأنها تقع خارج دائرة التصديق.

ومع هذا، أقول: آه أيُّها الزمن اللعين الذي جعلتَ من “المثقفين الشيوعيين السابقين”، الذين عوّدونا القبضَ من اليمين والنشرَ عند “اليسار”، متسوّلي جوائز عند أحذية السلاطين والأمراء، وعند أقدام الإقطاع الأوروبي.

بعد كلّ هذا، سأحدِّثكم بالتفصيل عن أمر وَجَبَ في ظني أن يعرفه كلُّ الناس، ويتعلّق بتجربتنا مع إحدى المؤسّسات الثقافية العربية الخاصة التي أُنشئتْ أخيرًا بهدف دعم “النشاط الثقافي العربي”. هذه المؤسسة اسمُها “الصندوقُ العربي للثقافة والفنون”، وقد دعت المساهمين في المجال الثقافي العربي إلى الاستفادة من خطّتها للدعم. ومع حساسيتي الشديدة تجاه مؤسّساتٍ لا تبدو لي شفّافةً بالقدر الكافي، واستجابةً لدعوات زملاء كثر، قرّرتُ التقدّم منها بطلبيْ دعمٍ بعد أن تأكّدتُ منها أنهما يفيان بشروط المشاريع التي تدعمهما (رسالتا المؤسسة إلينا بتاريخ 10 و31/9/2007). وبالمناسبة، فإنّ المشروعين هما دعمُ ترجمة مجموعة قصصية من الفارسية إلى العربية، وتأسيسُ موقعٍ للدار على الإنترنت يَسْمح للمتصفّح بقراءة كل إصدارات الدار مجّانًا.

بعد تقدُّمنا بطلبَي الدعم وإرسال الأوراق المطلوبة الوارد ذكرها في موقع المؤسسة وأوراقها الرسمية، فاجأنا “الصندوقُ” بطلب تزويده بالتقرير المالي السنوي للدار شرطًا أساسًا. ولمّا لم يكن تقديمُ ذلك مذكورًا في موقعه وأوراقه الرسمية، فقد أبلغناه عدمَ استعدادنا للاستجابة لطلبه من منطلق أنّه لا يحقّ للمؤسسة إضافةُ طلبات غير مسجّلة في أوراق الطلب الرسمية، علمًا بأنه لو كان تسليمُ ذلك التقرير شرطًا للنظر في الطلب لما تقدَّمْنا به أصلاً لأننا نعدّه أمرًا خاصّاً بالدار ولا يحقّ لأيٍّ كان النظرُ فيه، عدا مصلحة الضرائب. وعندما يئستُ من تراجع الصندوق عن هذا التجاوز الخطير في أصول التعامل، لجأتُ إلى السيدة زينة عريضة، أمينةِ سر مجلس أمناء الصندوق، وهي مقيمةٌ في لبنان، طالبًا رأيَها. ورغم أنّ السيدة كانت تعالَج في المشفى في لبنان فقد أجابت مشكورةً على هاتفي (وآمل أن تكون قد استردّت عافيتَها الآن). وعندما طرحتُ عليها عدمَ جواز إضافة شروط على تقديم طلبات الدعم غير الواردة في الأوراق الرسمية، فاجأتْني بتأكيدها أنّ الشرط مسجَّل في أوراق الطلب. وقد حاولتُ عبثًا إقناعَها بعدم صحة ذلك، الأمرُ الذي يوضح ضمنًا قناعتَها بعدم شرعية إضافة ذلك الشرط. والحقّ أنّ تمسُّكها غير المنطقي بوجود ذلك الشرط في الموقع جعلني أشكّ في معلوماتي، فطرحتُ اعتراضي الأساس، وهو مساءلةُ مشروعية طلب التقرير المالي أصلاً. المفاجآت لم تتوقف لأنّ السيدة زينة عريضة أجابتني: كِلِّ العالم بيطلبوا التأْرير المالي!.

كِلِّ العالم؟!”

للوهلة الأولى شعرتُ بغبطة لا نظير لها تحيط بي من الجهات الأربع. فالسيدة، أمينةُ سرّ مجلس الأمناء، اطّلعتْ على شروط عشرات الآلاف من المؤسّسات الثقافية في “كِلِّ العالم”. لكنَّني راجعتُ ظنوني لأنّ دار قُدْمس تتعامل مع أكثر من 25 مؤسسة ثقافية حكومية وخاصة تدعم بعضَ إصداراتنا، ولم يسبقْ لأيّ منها أن طلبت تقريرًا ماليّاً نرفضه من الأساس. ومن المفترض أنّ السيدة زينة عريضة لو كانت مهتمةً بسمعة “الصندوق” وأدائه لألقت نظرةً على أوراقه، والتأكد من غلطها هي وصحّةِ معلوماتي، والمبادرة إلى الاعتذار.

الصندوق” هذا مصمِّم على السير في طريقه، هذه المرة بكيفية الإعلان عن “الفائزين” بالمنح. فمع أنّه أَبلَغَنَا أنّه سيعلن النتائج بتاريخ 5/1/2008، فقد فوجئتُ بتسلُّم رسالة إلكترونية عامة عنوانها (Grants Results) يوم 17/12/2007 تُعْلم المستلمَ برفض طلبه، حرفيّاً:

السادة الأعزّاء: تحيّاتنا لكم من عمان، نشكركم لاهتمامكم بالتقدّم بطلب الدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون. لقد قامت لجانُ التحكيم المكوّنة من مختصّين معروفين بتقييم جميع الطلبات. ويؤسفنا أن نعلمكم بأنّه لم يقع عليكم الاختيارُ للحصول على الدعم المالي من الصندوق العربي للثقافة والفنون هذا العام. . .”.

وأعقبتْ هذه الرسالةَ التعميميةَ رسالةٌ إلكترونيةٌ أخرى في اليوم ذاته تعتذر عن رسالة (grants results) لأنّها أُرسلتْ بالغلط!.

من الواضح أنّ “الصندوق” في حاجة إلى إضافة صفة “المفاجأة” إلى اسمه. ذلك أنّه فاجأنا بإعلان نتيجة المِنح في مؤتمر صحفي يوم 02/12/2007. ولأنّ “الصندوق” معنيّ بالثقافة، كما يُستدلّ على ذلك من اسمه؛ ولأنّ الشفافية من أصول العمل الثقافي الجدّي؛ فمن المتوقَّع قيامُه بإعلان حيثيات قراراته كي يُكسبها شرعيةً في أعين الجمهور. لكنّ غدًا لناظره لقريب! فالمسألة في نظري ليست قرارَ المَنْحِ أو حجبَه، وإنما كيفية اتخاذ القرار وأسبابه.

إنّ ممارسات “الصندوق العربي للثقافة والفنون” التي لا تخلو من غطرسة، وتعالٍ، وارتكاب تصرفات تقع خارج أصول أيّ عمل، أقنعتنا بعدم جدية هذه الجماعة في عملها إلى اليوم، وافتقادها إلى الحدّ الأدنى من الحِرَفية. وبالمناسبة، فإنّنا لم نستلم إلى اليوم أيَّ إعلام رسمي بالنتائج.

لن أخوضَ في تفاصيل إضافية، بل أُنهي حديثي إليكم باعترافي بذنوبي الماضية والمستقبلية، ومنها النظرُ بانفتاح وجدية إلى آفاق الثقافة العربية ومؤسّساتها، ناسيًا أنّ “الأفق” خطٌّ وهميّ يرسمه الرائي: كلما اقتربَ منه ابتعدَ عنه!

مجلة الآداب 1/2/3 – 2008. ص 96-98

* بيروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى