صفحات ثقافية

السيد بول بولز وزوجته: تزوجا لكي يتخلص أحدهما من النساء والثانية من الرجال!

null
دانييل روندو
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
لم يكن الكاتب الأمريكي الشهير بول بولز يعرف حين وطـئـت قدماه أرض طنجة عام 1931 أنه سوف يعود إليها في عام 1947 بعد أن وقع تحت تأثير غوايتها القاتلة ليقيم فيها إلى حدود وفاته عام 1999.
شكل بولز على امتداد هاته العقود الخمسة التي اتسمت بحراك حياتي وثقافي متميز واحدا من أهم المعالم الثقافية في المغرب عموما وطنجة خصوصا. يتحدد الإسهام الرئيسي لهذا الرجل في العناية الكبيرة التي أولاها للموروث الثقافي المغربي بمختلف أبعاده. وكان في هذا السياق مبدع ما أصبح يعرف بحلقة رواة طنجة التي يعد محمد المرابط والعربي العياشي ومحمد شكري أبرز رموزها. يـُضاف إلى ذلك استثماره الدال لمتخيل طنجة في إبداعاته القصصية والروائية.
يسعى هذا النص الجميل الذي نقدم ترجمته العربية إلى الإحاطة بتاريخية حضور بولز في طنجة والسعي الذكي إلى التقاط تفاصيل المعيش اليومي بما يستلزمه ذلك من طقوس كتابة النصوص والجولات والزيارات اليومية. بيد أن أهم ما يضيفه هذا النص هو الاهتمام الذي خص به جـين بولز التي عاشت مكرهة رغم فرادة وثراء تجربتها الحياتية والإبداعية في ظل بول بولز.
ينزل بخفة عصفور أدراج البناية لينسل بخفة واستقامة من طابق إلى آخر. ينسل وهو يطير في الآن نفسه ذيل معطفه. ينتظره السائق والسيارة في الباب عند مدخل المرآب. يتخذ مجلسه في المقعد الخلفي. لقد لبثت الموستانغ لفترة طويلة تحت الشمس. تنبعث من داخلها رائحة الجلد والتبغ الأشقر. الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال. وشأن باقي الأيام، يطلب بولز من سائقه إيصاله إلى المدينة كي يستلم رسائله الموجودة في صندوق بريده. يعود بعدها عبر سوق افاسب الذي تنبعث منه رائحة اللحم الطازج والورود. إنه فصل الربيع، ولم تسقط قطرة مطر واحدة. وداخل المساجد، يبتهل المصلون إلى الله كي ينشر رحمته ويسقي بهيمته. وحيثما وليت وجهك، على امتداد الشوارع الكسولة وفي لمعان الأوراق في أعالي شجر الدلب، وأيضا داخل السيارة، ثمة نور قوي يعمي الأبصار. بقعـتان سوداوتان فوق وجهه الذي يشبه أبا الهول.
في شارع منحدر، كان ثمة رجل أشيب الشعر يمشي في ظل واجهة بناية. جذب بولز نفسا من سيجارته وهو يقول: انظر ذلك الرجل الذي يرتدي بذلة رمادية. إنه أحد أفراد الشرطة السرية لكنه لطيف رغم ذلك. لقد عرفته منذ ثلاثين سنة حين كان صاحب مقهى في شارع إسبانيا. ثم لم يلبث أن غير مهنته. هنا في طنجة، ثمة دائما كثرة من رجال الشرطة وعدد وفير من الجواسيس في المقاهي. غير أنني لم أعد أرتاد المقاهي وأضربت عن الشراب تماما. لكنني رأيت كثيرا منهم عام 1931. كان الجواسيس في كل مكان وكانوا يجوبون بسرعة كل القنصليات. كانت ثمة على أية حال تجارة تهريب مستشرية. لا يمكننا أن نتمثل طنجة دون تهريب أو مهربين. إنها تعتبر عملا. ليس للمغاربة كبير اعتبار لقوانين الحكومة؛ إذ يرددون بأنها قانون فرنسي ويزعمون أنهم لا يحترمون شيئا خلا الشريعة القرآنية.
تتوقف السيارة في زاوية زنقة صغيرة غير بعيد عن قاعة شـــاي مدام بورط المعروفة بحلوياتها وشراشفها الوردية ونادلاتها السمراوات ذوات الوزرات البيضاء. وبين الساعة الخامسة والساعة السابعة، تأتي الصبايا الطنجاويات بتنانيرهن الضيقة لكي يشربـن الميلك شاك دفعة واحدة وهن يسترقن النظرات إلى الرجال. يرسل بولز سائقه كي يحضر ظرفا من متجر واقع في نهاية الزنقة. ما يلبث أن يعود بعد خمس دقائق وهو يحمل رزمة أوراق لا تعدو كونها نصوصا كتبت قبل فترة قصيرة وعمد بولز إلى تسليمها بغرض رقنها على الآلة الكاتبة. يعيد السائق الباقي من النقود، ثم يعاود الانطلاق بالسيارة، ودون أن يلتفت خلفه، يسلم سيده الفاتورة: عشرون درهما.
حل بول بولز بطنجة قبل خمس وخمسين عاما. كان الكيف لا يفتأ بيعه مرخصا في متاجر الدخان. كان حكرا على الحكومة، ولم يكن في مقدور أحد أن يشتريه. كان معـلبا في ورق كرافت ذي الـســمـك الشديد. كان هذا الكيف والحالة هاته خشنا جدا وكان المغاربة يؤثرون إعداده بأنفسهم، ذلك أن الكيف سريع التبخر وينبغي تدخينه بأسرع وقت ممكن. خمسون سنة. نعم، انصرمت كل هاته السنين، ولنقل بأن الوقت مر بسرعة فائقة، وها أنا في طنجة. إن الأمر يدهشني. كانت طنجة حينها مدينة رائعة حقا. صغيرة ونظيفة جدا. وهي بالإضافة إلى ذلك متميزة، بحكم طابعها الدولي الكثيف. كان الصرف ممتازا والحياة من اليسر بمكان.
مسارات غريبة قادت الشاب الأمريكي إلى هذا الشطر من النعيم. كان قد غادر نيويورك قبل شهور وليس في حوزته سوى أمتعة زهيدة. كانت إحدى خالاته التي تدعى إيما قد جذبته إلى الشعر والشعراء. وكان يكتب لها عددا من السوناتات. وكان يتـرأس في الثانوية الجمعية الأدبية. وفي غمرة ذلك، كان يتعلم القراءة وليس التهجي في مجلة كانت في بداية الطريق لكنها معجزة، وهي ا النيويوركر ا. وسوف يكتشف بين حكايتين مصورتين وجود مجلة ا ترانسيسيون ا. يشعر حينها بأنه في أحسن حالاته، ويبعث بقصيدة إلى هيئة تحرير المجلة بشارع فابير في باريس. بعد ثلاثة أسابيع، يـحـصـل عـلـى نسخة من المجلة وكان اسمه موجودا في الفهرس مشفوعا بكلمة من أوجين جولاس يدعوه في سياقها إلى المثابرة. هذا النوع من التشجيع يـُعـبـّد الطريق لزمن طويل..
سوف يلتزم بما قيل له. وهو يعمل سحابة النهار في مكتبة ويستعيد عبر الكتابة في المساء وهو جالس في الشرفة ذكريات متخيلة إلى حد ما. ونيويورك تشعره بالملل، ويفكر بأنه في مسيس الحاجة إلى الهواء. يبدو أننا نتنفس جيدا فوق سطوح السفن. وما يفتأ أن يحزم حقيبته ويرحل. تبين صور تلك المرحلة شابا يشي مخبره بأناقة طبيعية، وأهم ما يسمها عينا المتفرج الصافيتان والحاجبان المقرونان. الجبين الواسع الذي تعلوه هامة من الشعر الغزير الأشقر. كان الوجه الصارم في مجمله يتوزع بقسطاس بين الحلم والعزيمة.
سوف يوسع في أوروبا دائرة أصدقائه ومشاهده الطبيعية. سوف يتعلم علاوة على ذلك قياس الأفق. لقد تعلم كيف يقف فوق أرضيات القصور الواقعة في الضواحي. وهو يسبح في دوفيل ويحضر حفلا موسيقيا في ميونيخ ويعبر برلين بالترام. ينهي العالم القديم تربيته. وهو يقفز من زهرة إلى أخرى دون أن يتبخر ودون أن يتخلى عن نسج حرير لقاءاته المتعددة.
ذات يوم جميل، أفلحت جروترود شتين وهي شخصية ذات سطوة حسب هيـمنغواي، لكنها تسدي أحيانا النصح الطيب الذي لا يقدر بثمن حين يتعلق الأمر بتحليل كل الأشياء، في أن تثنيه عن مقام قصير بسان جون دي لوز وأن تبعـثه إلى طنجة لقضاء بضعة أسابيع. وكان أن سافر صحبة موسيقي أمريكي يدعى آرون كوبلاند وليستقر في منزل كبير بمدينة الأحلام. أمضى الصيف وهو يعزف على البيانو سوناتات لموزار:
اكنت أعرف أنه سوف يأتي يوم في حياتي أدخل فيه إلى فضاء يمنحني في آن واحد الحكمة والإثارةب.
يحجب الليل المدينة بهدوء. وفوق ارض واسعة مجاورة لبناية بول بولز، كان رجل مغربي يرعى قطيع أغنامه. كان ينتعل حذاء طويلا من الجلد البالي، ويرتدي معطفا من الصوف. كان يتكـىء بجسده الهزيل إلى الجدار الإسمنتي لمرآب. كانت جماعات من الصبيان والصبايا تراوح الخطو بـبـطء بعد مغادرتها للثانوية القريبة بزمن طويل تحت سعفات النخل. كان البعض منهم جلوسا فوق الأرض وكراريسهم فوق ركبهم. فيما انهمك البعض الآخر في مراجعة الدروس. أما آخرون فقد تكأكؤوا حول مذياع صغير. كان بعض الأزواج من الصبيان والصبايا ينشدون شيئا من العزلة في سياق من العشق اللبق. وخلف حدائق القنصلية الأمريكية، وتحديدا بطريقة العشاق، كان صبي وصبية يتبادلان عبارات الغزل فيما يشبه الصراخ. تعبر بعض السيارات المتهالكة بوتيرة رتيبة هذا الحي الحديث والفسيح الذي تحده من جهة الجامع الكبير والذي ينحدر من الجانب الآخر بشكل متعرج إلى تخوم شارع الصنوبر. وابتداء من سنة 1957، تخلى بولز عن الإقامة في منازل كاب سبارطيل أو المدينة العتيقة لكي يختار شقة عادية وشبه معتمة في هذا الفضاء الحديث الذي ما يفتأ يتنامى في المدينة. الستائر مسدلة فيما يتدفق النور من السقف. لقد شرع بولز في الفرار من العالم عبر التطواف به في كل الأنحاء، وها هو يقيم معه مسافة ما تفتأ تكبر داخل جدران هذه الشقة المعتمة بجدرانها ذات البساطة الشديدة.
يمكن النظر إلى بولز باعتباره صنواً أمريكيا لآرثر رامبو هذا التاجر المزعوم الذي كان يفرق من الشتاء؛لأنه فصل الدعة والاستقرار. وها هو يبادر إلى الإنكار. حذار؛ إذ ثمة سوء تفاهم ينبغي رفعه. ليس رامبو بالشخص المهم؛ بل إنني سوف أفضي لكم بشيء مخجل نوعا ما. إنني أفضل كثيرا إيزيدور دوكاس رغم معرفتي بافتقاره إلى بعض الرقة. ربما بسبب ذلك أمحضه الحب. يقينا إن أسطورة رامبو جميلة، كما أنها كانت تثيرني عندما كنت في الخامسة عشرة. يستدعى بولز فورستر ويلوذ بأندري جيد عند الحاجة. وهو يستشعر انجذابا قويا نحو الكتاب الرحالة؛ لأنه بدأ مثلهم كتبه هنا أو هناك قبل أن ينهيها في مكان آخر. ولكي يكتب، فإنه ذهب إلى كل الأمكنة التي تصلها السفن. إن بولز كاتب مشاء.
اكنت فيما سبق أسافر كثيرا، وغالبا ما كنت أستقل الطائرة. غير أنني لم ألبث أن أحسست بأن حادثة على وشك الوقوع، فكان أن قررت الاكتفاء بالسفر على متن السفن. أعترف بأنني أجد العمل على متن البواخر جيدا. البادية أيضا مكان مناسب للعمل، وحين كنت بصدد كتابة ا شاي في الصحراءب من تـموز (يوليو) 1947 إلى آب ( أغـسـطـس ) 1948، كنت في رحلة عبر الصحراء. كنت أصف صحراء أخرى مغايرة لتلك التي كنت أعبرها، وهي تحديدا تلك التي عرفتها في عامي 1934 و 1935. وفي الحقيقة، أحتفظ في كل كتاب بنظام كتابة خاص. ولكي أمثل لذلك، فإنني اشتغلت كثيرا قبل أن أكتب ابعدك الطوفانب. كنت أعرف شخصياتي وما كانت تنتظره الواحدة من الأخرى. قمت وأنا على متن السفينة بصوغ خطة كاملة للعمل قبل أن أقفل عائدا إلى طنجة لكي أكتب النهاية. أما كتابي الثالث، فقد بدأته في طنجة وأنهيته في جزيرة سيلان. كنت في كل مساء، أملأ ثيرموساً من القهوة، وحين أستيقظ كل صباح في الساعة السادسة، أشرع في الكتابة دون أن أغادر سريري أو أستحم. كنت في حالة من الصفاء الخالص. وعندما شعرت بأنني تقدمت في الكتابة بما يكفي، ســافرت إلى جزيرتي في سيلان. وهناك، التزمت بالنظام نفسه. استأجرت في الكتاب الرابع منزلا يقع فوق حافة طنجة ويطل على البحر. كنت أكتب طوال الوقت، وكانت ثمة غابة مأهولة بأشجار كبيرة، وكان يحلو لي أن أتجول فيها وأنا أمسك بيدي دفترا. كنت أكتب وقوفا. وحين أحس بالموضوع وهو يتخلق، يلزمني حينها أن أشرع في العمل دون تأخير. لم يكن ثمة بد من ذلك، وكنت أحس بأن الكتاب ينكتب بطريقة آلية وبسرعة خارقة.
لا أكتب حين أكون على سفر في المدن الكبرى مثل مدراس أو بومباي. يلزمني فقط منزل صغير في البادية. لقد اشتغلت بطريقة رائعة في جزيرتي الصغيرة وفي سريلانكا وطنجة وفاس أو في الصحراء. قمت باقتباس عمل ا الحديقة ا في شمال تايلاند. أعترف بأنني في حاجة إلى الصمت والعزلة وليس فقط إلى الطاقة. يمكن أن أقول إنني بالأحرى في حاجة إلى الطاقة لكي أشد الستارة، ذلك أننا نحتاج إلى جهد كبير لكي ننغلق داخل الكون الصغير الخاص.
يهب السفر سمة المفارقة، كما أن لون السماء يتغير تلقائيا. يصقل تمايل السفن ـ طارسوس الذي استقله في اتجاه إسطمبول أو كانو مارو المتجه إلى باناما أو اليخت القديم الذي كان في ملك غيوم الثاني المندفع دون هوادة في اتجاه كوستاريكا ـ كتابة بولز. لا يفكر في شيء وهو جالس فوق لحافه. ويمسك قلمه بقوة كما لو أنه عقدة بحرية. وعندما ترسو السفينة في مرفأ ما يترك القلم جانبا لكي يمتلئ حتى الثمالة بالكون.
بول بولز مغامر مثل أندري مالرو. غير أن مغامراته ذات طابع تأملي. لم يكن إطلاقا مدمنا على البطولة واحتفظ ببعض المسافة مع السياسة.
عندما ندير كوكب الأرض في كل الأنحاء، فإننا ننتهي إلى مـعـرفـة العالم في كليته. يستطيع بولز ارتداء السارونغ كما يستطيع ارتداء السموكينغ. وفي مقدوره أن يلثم أيدي الكونتيسات وأن يتحدث مع الفيلة. وهو يحس بأنه في منزله وإن توزعته جهات العالم الأربع. شره وقنوع وصارم وغريب الأطوار شأن كل الحواة.
وذات يوم،أقدم فيما يشبه اللعب على الزواج من روائية شابة ساذجة بعض الشيء. قال البعض إنهما تزوجا لكي يتخلص هو من النساء وهي من الرجال. كانت ذات بنية ضئيلة وما يميزها شعرها الأسود المقصوص بطريقة غلامية وأنف صغير أخنس وعينان رماديتان كبيرتان وضاحكتان تلتهمان وجهها. كانت تعرج وهي تمشي، وذلك بتأثير داء السل الذي أصابها. كانت تسح بالذكاء والشيطنة ومن جسدها تفيض ملاحة تعز على الوصف. ماتت في عام 1973 وعمرها ست وخمسون عاما، لكن الجميع كانوا يتحدثون في هذا الخصوص كما لو أنها لبثت إلى النهابة ذلك الطفل المعجزة والوقح إلى حد ما والمعادل الأنثوي لرايمون راديكي الذي يرتدي التنورات والأحذية الرياضية. كتب ترومان كابوط الذي جمعته بها صداقة تربو على العشرين عاما: ا.. كانت الأكثر جاذبية من بين الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد، لكن مع شيء أكثر برودة يسري في عروقها، وروح هي نوع من الحكمة الشاذة والغريبة لم يشتمل عليها أي طفل بمن في ذلك الطفل المعجزةب.
كان ذكاؤها العجيب قد سحر أكثر من رجل ومن امرأة. يتذكر المعجبون بها أيضا أنها وقعت بدورها أسيرة؛ إذ لم تتمكن لأمد طويل من أن تتخلص من المشاعر التي تخلقت في داخلها حيال امرأة بدوية التقتها في السوق وهي تشتري الحبوب لببغائها. توقفت في جمود أمام امرأة متربعة فوق الأرض ولها أسنان ضخمة من الذهب. كان اسمها الشريفة وقد رفضت رفضا قاطعا أن تجيب عـلـى أسئلة جين. هيمنت هذه الرغبة التي لا أول لها ولا آخر على السنوات الأخيرة من حياة جين بولز . لم يبق أحد في طنجة إلا وتأسف لهذا الافتتان المميت والمشـؤوم.
لم ينس أحد جين الطفلة الأزلية والمقامرة العصية على الإمساك، وهي ما تفتأ تثير الحيرة والدهشة. والأحاديث التي تدور في موعد احتساء الشاي لا تنفك إطلاقا عن ذكرها. أسوق في هذا الصدد ودفعة واحدة مقاطع من بورتريه قمت برسمه في الطريق الممتدة بين الجبل الكبير وشارع باريس.
عائلة جيروفي: كانت تقيس في المتاجر كل الثياب. كانت تجسيدا صارخا للتردد. أتذكر أنها هاتفتني أربع أو خمس مرات بمناسبة المعرض الأول لماركريت ماكباي لتسألني إن كان عليها أن ترتدي فستانا أحمر أو أبيض. من المؤسف أنها عاشت مع هذه الشريفة. لقد كانت ساحرة ودميمة وعنيفة ومتوحشة.
وكانت جاني تخشاها كثيرا. ولم تكن في أيام مرضها تخطو خطـــــوة واحدة دون الشــــريفة. كان أي خصاص مادي يصيبها بالجنون. وبهذا الصنيع، وهبناها أول ملعقة من المربى: أليس كذلك يا عزيزتي؟ (…)
ماركريت ماكباي: اسألتها في أول لقاء لنا: هل أنت سعيدة هنا؟ نظرت إلي كما لو أنني شتمتها قبل أن تقول: سعيدة؟ من هي السعيدة؟ كانت السعادة بالنسبة إليها دون شك شيئا مقرفا. كانت لها ردود فعل غريبة، بل غريبة جدا.
محمد لمرابط: ا كانت عاشقة للحياة ذات قلب كبير وضاحكة باستمرار ومولعة بالموسيقىب.
كانت مقلة في الكتابة، وهي مبدعة رواية عنوانها اسيدتان رصينتان’، كما نشرت مجموعة قصصية بعنوان املذات هادئةب وكتبت مسرحية واحدة. كانت الحياة قد حالت بينها وبين تحقيق ما كانت تصبو إليه. شخصياتها شبيهة بما يمكن أن نعرفه عنها: أبطال كوميديا مسيرون بمنطق شخصي جدا ومنشغلون إلى حد ما بالجنس وموعودون بمقصلة مفاجأة.
كانت جين شأنها في ذلك شأن بول مصابة بداء الحركة. كانت لها ذات يوم وهي على متن سفينة مغامرة صغيرة مع سيلين. كانت مندسة في لحاف وساقاها مرفوعتان في الهواء وهي تقرأ ا سفر إلى تخوم الليلب في رحلة بين لوهافر ونيويورك، حين اقترب منها رجل وخاطبها قائلا:
ـ أوه! هل تقرئين سيلين؟
ـ بالطبع كما ترى.
ـ أنا سيلين.
وكان أن تبادلا الحديث على امتداد رحلة العبور.
كان بول وجين قد تحولا بسرعة فائقة إلى نجمين في الجمعية عبر الأطلسية. فهما ذكيان وغريبان ومثيران بشكل خارق. وسوف يحول بول جين إلى أغنيات. لا ننسى في هذا الصدد أنه كان إلى حدود عام 1945 موسيقيا قبل كل شيء. وهو يلحن ويسجل ويوثق باعتباره إثنولوجيا شأن بارطوك موسيقى البلدان التي يعبرها.
الكتابة والتلحين هما بطبيعة الحال فاعليتان مختلفتان بشكل كلي. ويلزمك كي تنتقل من الأولى إلى الثانية أن تعبر من غرفة في الدماغ إلى أخرى وأن لا تنسى إغلاق الباب جيدا. ما زلت ألحن وإن كان ذلك بوتيرة أقل. وقد طلب مني لوسي من جديد منذ سنوات قليلة موسيقى لأحد أفلامه. كنت قد التقيته في سنوات الثلاثينيات. كنت أكتب موسيقى الأعمال المسرحية. وكانت أعمالي تسجل باطراد. أما الأسطوانات التي قمت بتسجيلها في شركة كولومبيا، فقد نفدت تماما. إنه لأمر محبط بالنسبة لملحن أن يـحـاط علما بأنه ليس ثمة شخص يستطيع الاستماع إلى موسيقاه.
يتحدث وهو جالس فوق مخدة. يترك ركبتيه مضمومتين وهو يحركهما دون كلل على طرفي قدميه. يدخن سجائر من كل الألوان وذات أعقاب زاهية. وهو يوظف السخرية في نهايات الجمل بواسطة خفض صوته كي يستشرف زوغانا زاهيا. هذا الأمريكي ذو الهيئة الأكسفوردية يشبه تان تان لو أتيح لهيرجي أن يعيش ألف سنة. يستيقظ في الصباح وحيويته على حالها وسرعان ما يستغرق في العمل في صمت تام. وفي بداية فترة الزوال، يكون النزول إلى المدينة ثم العودة إلى المنزل في الخامسة مساء واستقبال بعض الزوار. يمضي بولز حياته كراهب يستمتع بالاستماع إلى العالم الذي يأتي إليه. وهو يدخن أثناء أداء صلوات المساء. وبحذق عالم يمزج التبغ بالكيف. يزوي عينيه الصافيتين وهو يفكر في أشياء قديمة ثم يتنهد دون شجن وهو يردد: الماضي هو الماضي.
لم ير بولز نيويورك منذ عشرين عاما. ولم تعد حقائبه تغادر الشقة بعد أن راكم داخلها مخطوطاته. أين يذهب ولماذا وكيف إذا كانت وحدها العبارات وسفن الشحن من تحرك الماء في أرصفة الميناء؟ ما الذي كان يشغل بولز حين كان يطوف العالم في كل الأنحاء؟ أن يتخلص من البلدان والشعوب البليدة والآفاق الكئيبة؟ أن يتجدد أو يتخلص من ذاته؟ أن يتأمل حيوات أخرى؟ كان ثمة شيء من لورنس العرب في هذا الرجل المتحذلق الذي يظهر في صورة قديمة وهو يضحك متكـئـاً بركبتيه على الرمل. لورنس الحكيم الذي كتب في اأعمدة الحكمة السبعب: ا.. كان نداء الصحراء بالنسبة لمفكري المدينة باستمرار عصيا على المقاومة. لا أعتقد أنهم يعثرون داخلها على الله، ولكنهم يصغـون فيها وفي إطار العزلة بوضوح شديد إلى الكلمة الحية التي يجلبونها معهمب. لم يفتح بولز أية بلاد عربية، ولكنه استمع إلى الكلمة الحية وظفر باللمعان البكر للانكشاف: ا ليس ثمة من تعريف للبساطة إلا أنها ياقوتةب.
هذا الناسك أو الأمير الزاهد يحب السيارات كحبه للسفن. كان يسافر محاطا بحرسه الخاص في تلك القلاع السيارة من قبيل الرولز رويس او الجاكوار المكشوفتين بمقاعدهمـا المصنوعة من الجلد الأحمر المغربي الأصيل. وعندما وصل وهو المناضل السابق وبشكل عابر في الحزب الشيوعي الأمريكي إلى حدود إسبانيا ورأسه مكشوفة للريح في سيارته الرياضية المكشوفة التي يقودها سائق مغربي بحذاء طويل وسروال فضفاض، خـَصـَّـتـْـه ُ شرطة فرانكو التي وقعت تحت تأثير جلال الوفد المرافق له باستقبال رسمي. كانت تحيي دون أن تدري رجلا من عصر النهضة وصديقا للتسامح وعاشقا للجمال: الم نعد نعير أي اهتمام للأسف الشديد إلا لما هو جديد، ويبدو أن فكرة الجمال أصبحت قديمةب.
لم يكن يسع هذا الرجل إلا أن يكون مشجعا للفنون. وقد سبق له أن درس بمدرسة الفنون البصرية. كان بعض الشعراء الرديئين يجوبون أمريكا طولا وعرضا بعد أن أغواهم ظهور إعلان سنوي في مجلة نيويورك. كان نورمان مايلر مصدر هوسهم، وقد قرؤوه بالكاد، لكنهم كانوا يتحدثون بإسهاب عن رصيده في البنك. كانوا يرغبون في أن يدبجوا بسرعة روايات صغيرة. لم يكن فقرهم ليحول بينهم وبين اعتناق مبادئ وول ستريت. لم يكونوا يفقهون شيئا من النحو أما الموهبة فلا داعي أصلا للحديث عنها. لقد أمل بولز في أن يصبح أستاذا للحكمة والإلهام، لكنه ألفى نفسه وهو يرتدي وزرة رمادية ويداه مغمورتان بغبار الطباشير وهو يلقن بعض الصبية طريقة الكتابة.
يبقى هذا الرجل رغم كل شيء ساحر طنجة. لقد ألقى هذا الأرستقراطي وصديق الشعب بشباكه في الأزقة الواطئة لطنجة العتيقة ليخرج منها رسامين وشعراء. لقد أخرج للرسامين من قبعته ألوانا وأشكالا ومراسم وقاعات عرض إضافة إلى بيكي غوغينهايم. أما بالنسبة للكتاب، فقد أعارهم قلمه وناشريه. وقد تكفل بطريقة نزيهة ودقيقة جدا بخدمة ما بعد البيع بما يستلزمه ذلك من إغاثة ا اكتشافاته ا في المواقف الحرجة. وهو بذلك يبدو ناشطا متحمسا في سبيل نصرة الآداب.
لقد أنجب بولز سلالة من الرواة الطنجاويين، ويبقى أفضل أبنائه ذوي الانجذاب الضعيف إلى زنا المحارم والمتسمين بمستواهم البخس والضعيف أحيانا محمد شكري ومحمد المرابط. كتب الأول االخبز الحافيب كما أنجز بورتريهات لصديقيه جان جيني وتينسي وليامز.
التقى محمد المرابط مكتشفه في عقد الخمسينيات من القرن الفارط. وهو صياد وابن رئيس الحلوانيين في فندق المنزه. كـان المرابط طنجاويا قحـّـاً وشبيها إلى حد ما بهيدالغـو عربي بعينيه ذاتي السواد الفحمي وكلامه الناري. وكان الكيف يزيد من تأجيج هذه الشعلة النارية ذات العشرين ربيعا. وكان أن شغل بولز جهاز تسجيله وشرع في تدوين كل ما كان يرويه. لقد تعب المرابط الآن من الكتابة أي من أن يروي لبولز الحكايات والقصص المرتبطة بالمدينة العتيقة وأفاقيها المعممين وبناتها المعروضات للبيع ورجالها ذوي الدماء الساخنة والعقول الفارغة. وهو على الرغم من كل ذلك أكثر أصدقاء بولز حذرا وشبيها بأرطانيون حلقة المريدين المغاربة. وهو يحمي معلمه من الفضوليين وأيضا من مخاوفه الخاصة. لم يكره بولز أبدا فكرة أن يخيف نفسه وهو في الظلام.
يستقبل بولز شأن كل الوحدانيين كثيرا من الزوار. ولم يكن على امتداد سنوات الورد بمنأى عن موجة الهيبيزم التي غزت سطيحات مقاهي ساحة السوق الداخلي، غير أنه لا يحتفظ في هذا الخصوص بذكرى ذات شأن. كانت طنجة العاصمة الشمسية لجيل الروك ومحطة بين المكسيك ونيبال. وسوف نحلم كثيرا بأولـئـك الذين طرقوا باب منزله. ميك جاغـر وفرقة الرولينغ ستونـز الذين قضوا ليلة بكاملها تحت منزله في الشقة الواقعة في الطابق الرابع. كانت هاته الرحلات ذهابا وإيابا قد انتهت بأن نسجت ما يشبه الأسطورة، ويعد كينغ كريمسون وستينغ، بطلا ا شاي في الصحراء’، مـُعـَـبـِّـرَيـْن عنها.
يبقى بولز رغم الجهد الذي يبذله كي يتحدث عنهم بحياد رمزا مقدسا لجيل من الشباب الحزين اكتشف الكآبة في أواسط عقد الخمسينيات. وكان صوت أحد المذيعين يحدثهم عن إلفيس من راديو بعيد: والآن راديو طنجة راديو النجوم. وقد ساروا بتوجيه هذه النجوم إلى أن عثروا على بولز الذي علمهم السكينة والهدوء. لا يحب بولز الأحاسيس التي تنبعث منها رائحة الزيت الزنخ. وكان قد عثر في هذه المدينة التي لا تعرف حقيقتها على حقيقته الخاصة. لا يقبل الساحر الكتوم لهاته الهضاب غير المبالية بأي ضعف، ويسبغ شكلا على كونه الخاص. وهو يتميز بطريقة متفردة في الاحتفاظ بمسافة بينه وبين العالم. الشمس نفسها لا تستطيع الدخول إلى المنزل دون موافقته.
ما تفتأ آخر السفن عرضة للصدأ في المقابر البحرية هناك في كوريا. أما في ميناء طنجة، فإن اللوحة المعدنية التي تشير إلى وجود البريد البحري الفرنسي لم تعد سوى ذكرى. غير أن بولز بحنينه إلى كل البلدان ظل واقفا فوق الجسر، والمعجزة أنه لم يغرق. لقد تمكن مبدع ا شاي في الصحراءب من أن يصنع لنفسه درعا من الرمل يـقيه كل المخاطر.
والسعادة؟ ما الذي تعنيه السعادة؟ يمكنني أن أقول وأنا في سني هذه أنني سعيد إذا لم أتألم. إنني أمضي حياة هادئة، وأعتقد أنه من السهل على الإنسان أن يكون سعيدا إذا قنع بالقليل.
سوف يمر السائق غـداً في الساعة الثالثة بعد الزوال، وسوف تكون لائحة المشتريات جاهزة في جيب بولز. عليه أن لا ينسى شراء الشاي والزبد والبرتقال. سوف يمشي بخطى هادئة في ظل السقوف القذرة للمتاجر وهو يصغي إلى الأغاني الرتيبة المنبعثة من أجهزة الراديو المدسوسة بين الرفوف. يعود بعدها إلى منزله عبر البريد الكبير. سوف يتلقى عند نهاية فترة الزوال بعض الزيارات يتحدث خلالها دون عجلة إلى أستاذة شابة في المدرسة الأمريكية. يستقبل بعدها مترجمته كلود القادمة من الجبل الكبير. وسوف يطلب من المرابط إن كان الجو باردا أن يشعل النار في المدفأة.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى