صفحات ثقافية

“مسّاحو أوروبا” لرينيه أسمر هيربوز عن منشورات آكت سود: هذه هي مصادر الأمل

null
الكتاب: “مسّاحو أوروبا”. 280 صفحة. منشورات “آكت سود”. تنسيق رينيه أسمر هيربوز. تقديم إدغار موران. تصدير جاك لوغوف. بمساهمة 21 من أعلام الفكر، الثقافة، الفن التشكيلي والموسيقي، الهندسة، المسرح، السينما، والتاريخ…
يحيل فعل arpenter في اللغة الفرنسية، والذي يمكن ترجمته بأفعال من مثل مسح الأرض، ذرعها، جاب وجال في رحابها، على ميدان الهندسة، مثلما يرمز إلى التجوال، قياس المسافات، مسح الأراضي لترسيم حدودها. الكتاب الصادر حديثا عن منشورات “آكت سود”، في عنوان les arpenteurs de l’Europe، والذي يحتمل ترجمته بـ” جوالو أو مسّاحو أوروبا”، يفي بغرض مسح أراضي أوروبا لتقديمها في كثافتها الجغرافية، من خلال ترسبات التاريخ في عمقها بما هي كيان، بل كيانات متباينة ومكتملة، متحاربة ومتحابة. ولترسيم معالم هده الورشة التي اسمها أوروبا، جنّدت، في إشراف رينيه أسمر هيربوز، أقلام 21 شخصية سليلة تخصصات متباينة، لكنها متكاملة: فلسفة، تاريخ، سينما، هندسة، إعلاميات، إعمار، مسرح… الخ. من بين الأسماء المساهمة: إدغار موران، تزفيتان تودوروف، جاك لوغوف، ميشال دوغي، بيار نورا، بيتر بروك، بيار سولاج، فيم فيندرز وسواهم.
ينقسم الكتاب ثلاثة أقسام رئيسية: يركز القسم الأول على إشكالية “بوتقة أوروبا ومعابرها”. يعالج القسم الثاني إشكالية “الآفاق”، أما القسم الثالث فيدرس “الأصول والتألقات”. لا يلبث القارئ أن يلاحظ أن مسألة التخصص تمّحي لمصلحة الرغبة في تقديم رؤية شمولية للموضوع قيد الدرس، إذ يتحول أحيانا الشاعر إلى مؤرخ، والمهندس إلى فيلسوف، ونلمس الرغبة في إحياء الروح الأنسيكلوبيدية، التي كانت إحدى ركائز النهضة الأوروبية.
في التقديم الذي كتبه إدغار موران في عنوان “أوروبا، ذاكرة ومشروع”، يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع إلى أن تاريخ أوروبا، هو تاريخ الأمم التي تشكلت بتناقضاتها وصراعاتها الدامية، والتي مثلت الحرب الكونية الأولى ثم الثانية ذروتها الدامية. لولا تدخل أميركا ومقاومة الاتحاد السوفياتي، لكانت أوروبا قد قضت. هذا الوضع الانتحاري هو الذي مكّن أوروبا من ابتكار إرادة للبقاء. وعليه تقوم أوروبا من جهة على هذا الإخفاق السياسي ومن جهة ثانية على التفوق الاقتصادي الذي يحجب هذا الفشل. نجاح الوحدة الأوروبية، بانطلاقة وحدة الفحم والحديد إلى العملة الموحدة، أظهر من جهة أخرى الفراغ السياسي لأوروبا. في إطار هذا الوضع ما هي مصادر الأمل؟ أول مصدر هو تطوير التبادل (الثقافي-الاقتصادي-السياحي). العلاقات اليوم بين فرنسا وألمانيا، الخصمين اللدودين في الأمس، توفر نموذجا مرجعيا لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين باقي الدول الأوروبية. عامل ثان يمكنه أن يساهم في تعزيز الوحدة السياسية الأوروبية ألا وهو العامل البيئوي، وذلك بتوفير أسلوب للعيش يقوم على الكيف لا على الكم. عامل ثالث يمكن أن تتضافر من حوله جهود أوروبا ألا وهو التصدي لما سمّي “صراع الحضارات” وحرب الأديان. على أوروبا في هذه الحال أن تتحول إلى واحة سلم، أي أن يحل السلم في الأذهان والتعايش على أرض الواقع. يعتبر إدغار موران أن الإرادة السياسية لإدراك هذا الرهان لم تتوافر بعد. يبقى الأمل كبيرا ومعقودا على “أوروبا الثقافات”. بعد الحرب الكونية الثانية، نهضت أوروبا من رمادها ونهضت معها هويات جهوية ومطالبات محلية وذلك في المجال اللغوي، والموسيقي، وفي ميدان الطبخ. برزت ثروات ثقافية كانت قيد الخفاء نتيجة الرقابة والقمع. تعبر هذه الثقافات اليوم عن نبضها المستمر من دون أن تهدد الثقافات الوطنية. ويبقى شكسبير، دوستويفسكي، ثرفانتس الموروث المشترك للجميع.
السؤال أو ما يسمى التساؤل هو الذي مكّن الثقافة الأوروبية من إنتاج العلم والتكنولوجيا. على النقيض من المستنفذ أو المثقف الصيني le mandarin، الذي كان يتلو الأوامر، نزل ليوناردو دافنشي إلى حلبة الأرض مستعملاً يديه كأنه حرفي، لابتكار السمو وإعادة رسم الخليقة على قبة السيكستين. La chapelle sextine. رغبتنا اليوم، يتمنى إدغار موران، هي أن تنعش أوروبا المستقبلية هذه الحيوية الخلاقة، وتجددها، وذلك بمزاوجة الإنساني بالعالمي. يبقى الأمل معقودا على إصلاح العقل والفكر. وينهي إدغار موران تقديمه بالإشارة إلى أن أوروبا الحديثة هي ما بعد مسيحية، لأنها في طور تحاور مستمر، أي أنها ضمن علاقة صراع، مجابهة بين العقل والنقل، الشك والإيمان. يغذي هذا التحاور طرح السؤال والعكس بالعكس، إذ يبقى التحاور منهلا حيا للفكر الأوروبي.
بعد تقديم إدغار موران لأوروبا الحديثة بوصفها ابنة الحرب، يرسم المؤرخ جاك لوغوف في جردة مركزة أهم الحقب التاريخية لأوروبا منذ ما قبل التاريخ إلى عام 1989، غداة انهيار جدار برلين. تاريخ أوروبا المشوب بالاستمرارية تارة وبالنكوص في غالب الأحيان، حظي بمميزات أهمها ولادة مؤسسة سياسية، أصبحت لاحقا لازمة ديموقراطية لمسارها التاريخي. في العصر الوسيط، انبثقت الإرهاصات الأولى للوحدة الأوروبية تحت حكم شارلمان (768-814 )، الذي بسط نفوذه على قسم مهم من أوروبا مقترحا ثقافة موحدة، لعبت فيها اللغة اللاتينية دور المتكأ الرئيسي. لكن الفشل كان مآل هذه المحاولة. بعد شارلمان، تعاقبت الأنظمة الأوروبية على النحو الآتي: أوروبا الأنسيكلوبيدية (القرن السابع)، أوروبا الصليبية (نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر)، الإصلاح الغريغوري، تحت سيادة البابا غريغوار السابع (1073 – 1085)، التي تجسد حكمه بردّة المؤسسات السياسية لمصلحة المؤسسات الدينية مع انبثاق تيوقراطية دينية. أوروبا المطبعية. إذ أن اكتشاف المطبعة على يد غوتنبرغ (ما بين 1450 و1455)، كان إيذانا بولادة أوروبا الكتاب. بدأت أوروبا الحديثة مع شارل الخامس، الإمبراطور الألماني، لتنتهي بانهيار جدار برلين. في العرض الذي قدمه جاك لوغوف، نستخلص فكرة مركزية ألا وهي أن أوروبا ليست كيانا موحدا وأحاديا، على الرغم من الوازع الديني أو الإثني، بل هي كليات متباينة ومتشظية الطموحات والإنجازات. لكنها تبقى بوتقة للابتكار، للإبداع وللمبادرة الفنية والثقافية.
إلى وقت قريب، ساد الاعتقاد أن الفرنسيين جان مونيه وروبير شومان هما مهندسا الوحدة الأوروبية الحديثة. يخفف الكاتب الإسباني خورخي سيمبرون، الذي شغل سابقا منصب وزير الثقافة في حكومة فيليبي غونزاليس، من هذا اليقين السائد، لينسب هذه الولادة إلى الفيلسوف الألماني إدموند هوسيرل الذي ألقى عام 1935 غب فيينا محاضرة عن “أزمة النزعة الإنسانية الأوروبية والفلسفة” والتي طرح فيها للمرة الأولى وبشكل رؤيوي الوجه الفكري لأوروبا واضعا مبدأ قيام العقل ما وراء الانتماء الى الوطن، كشرط للإفلات من البربرية. أدلى هوسيرل بهذه الحقيقة في عز تنامي النازية. الفيلسوف التشيكي يان باتوكا، الذي كان أحد الفلاسفة المؤسسين للوحدة الأوروبية، والذي توفى تحت الاستنطاق البوليسي، دعا إلى سكب المعارف الرئيسية في “عالم ينشد الحياة”.
أوروبا مسار تاريخي، سياسي، معرفي، لكنها أيضا جغرافيا متميزة يقربنا من مجالها الرحب العالِم الجغرافي ميشال فوشي، مستندا الى الخرائط والصور، وكشوفات الأقمار الاصطناعية، حيث نلمس التجسدات والتجسمات لدقائق المدن: شوارع، نقط إنارة، مرافق حيوية. ونقف عند درجة رقي أوروبا من طريق الإنارة والاخضرار. اوروبا مضاءة ليلا وخضراء نهارا.
تعرف أوروبا كذلك بشخصياتها وأعلامها في مجالات العلوم، السياسة، الثقافة، الاقتصاد، الدين… الخ. من هذه الشخصيات مَن تحول إلى أسطورة، ومنها من جر بلاده ومعها أوروبا إلى الهاوية. شخصيات شبيهة بوجوه مسرحية، ذات أدوار ملحمية أو تراجيكوميدية. في مقال “شخصيات من التاريخ الأوروبي”، يقف دومينيك بورن وبيار مونيه عند عشرة وجوه كان لها وقع حاسم في مجالها الخاص. شخصيات مرتحلة وفي ترحالها نقلت المعارف، اللغات، الأنظمة السياسية والثقافية. وكانت النتيجة تلاقح المناهل الإغريقية، الرومانية، البربرية، المسيحية، اليهودية، الإسلامية. يخلص الباحثان إلى أن السياسي يدعو دائما إلى التفرقة فيما ينشد الثقافي الوحدة. والشخصيات التي بصمت مصير أوروبا هي:
– الامبراطور قسطنطين. تحت سيادته، دمغت روما كل الفضاء الأوروبي. جعل قسطنطين من القسطنطينة Constantinople العاصمة الثانية للإمبراطورية بعد روما.
– شارلمان. تحت سيادته، لم تبق الإمبراطورية ملتفة حول تخومها المتوسطية، بل انتقلت إلى مراكز أخرى في اتجاه الشرق والشمال لإخضاع الشعوب الوثنية و”تمسيحها”. ابتكر شارلمان الكثير من الوعود والأساطير، وبخاصة أسطورة توحيد أوروبا حول روما والمسيحية. في الأزمنة الحديثة، انتعشت هذه الأسطورة في مخيل العديد من الزعماء السياسيين.
– يتموقع ابن رشد، ابن ميمون والقديس توما الأكويني، في آفاق متوسطية وذلك من خلال اللغات التي تكلموها وكتبوا بها: عبرية، لاتينية، عربية. يمثلون الأفق المتوسطي، التعددي، للديانات الثلاث التي كان عليها مصالحة العقل والنقل، القانون والواقع.
– شارل الخامس: كان رمزا لأوروبا الغازية والممزقة.
– ميكال آنجلو، كوبرنيكوس، إيراسموس، يمثلون الإنسان الجديد في قلب الحداثة الأوروبية. الثلاثة متعاصرون ومتكاملون. كان إيراسموس داعية إلى العودة إلى الأصول التوراتية. كوبرنيكوس جعل من الشمس مركزا للعالم. يرى أن الإنسان عنصر فاعل ضمن الخلق. هذا ما يقترحه علينا ميكال آنجلو الذي دعا الإنسان إلى التمكن من الفضاء الذي يصبح موضوعا لإدراكه. عندما طرد الإنسان من الجنة، دخل في علاقة نقدية مع الطبيعة، مع القانون ومع ذاته، مثلما تعرضه علينا لوحته الذاتية بالقديس بارتيلمي.
– فولتير تجسيد حي لجمهورية الآداب ضد التعصب، وللأنوار الأوروبية. جند قلمه للدفاع عن التقدم والرقي، العدالة والتسامح، حرية الرأي، التعبير والتفكير. كما أنه كان وراء تشجيع المناقشة العامة في الساحات. كان يرمز إلى الذكاء النقدي المترتب عن المعرفة الأنسيكلوبيدية وذلك بمقاومته انحرافات الكنيسة وطغيان الدولة وبمناصرته للعقل العلمي ضد القدر. كان فولتير أحد ملهمي الثورة الفرنسية لعام 1789.
– نابوليون وبيتهوفن. اوروبا التي أنشأها نابوليون، لم تلبث أن التفّت ضده. كان وراء يقظة أمم كانت غافية في صمتها وخوفها مثل ألمانيا، اسبانيا، إيطاليا. لم يلبث بيتهوفن الذي رأى في نابوليون فاتح عهد جديد أن تبرم منه.
– غاريبالدي، الملكة صوفيا، كارل ماركس، تشرشل، آديناور، شارل ديغول، اينشتاين، بيكاسو، هي الشخصيات الأخرى التي أتى على ذكرها الباحثان. أسس كل منهم، بطريقته الخاصة، أوروبا الإبداع، الاختراع العلمي والاقتصادي، الحنكة والجرأة السياسية التي وفرت لأوروبا سبل نهضتها المستمرة. وما انبثاق أمكنة أو مواقع المعرفة إلا برهان على ذلك. يشير الباحث ايف ميشو إلى أن مواقع المعرفة خاصية أوروبية وتبقى دليلا على حيويتها ونهضتها الدائمة. مواقع المعرفة هي الأمكنة التي تسعى إلى إنتاج المعرفة، المحافظة عليها ونقلها. إنها أمكنة التعليم ونقل المعارف: الجامعات، المطابع، وسياسة الرعاية. مواقع المعرفة هي إلى حد ما مواقع الذاكرة. في هذا الموضوع، يشير المؤرخ بيار نورا إلى أن الحديث سار عن هذا الموضوع منذ 25 سنة من دون نتائج تذكر، اللهم إلا انعقاد ندوات ومناظرات لطيفة لإغداق المجاملات، فيما تشكلت أوروبا على مهل، على مستوى المؤسسات. ويثير المؤرخ روزنامة تناقضات في صعوبة تعريف أمكنة الذاكرة أو مواقعها. أهمها: موقع الذاكرة يستلزم شعورا بالانتماء إلى مجموعة مشتركة، يستلزم إطارا، تراثا، يتطلب تشكل مخيل وتمثلات أو تصورات جماعية. بكلمة يستلزم تاريخا يشعر فيه الأفراد بانتمائهم الى تاريخ جماعي ومشترك. موقع الذاكرة يتطلب تجسدا بأبعاد جماعية: إرادية، عفوية، عاطفية، تقليدية. هذه الأشكال الرمزية متعددة. إن افترضنا وجود روح أوروبية، ثقافة أوروبية، هوية أوروبية، يجب الاعتراف بأن “أوروبا” تفتقد مواقع للتجسد. توجد هذه الأمكنة في كل الأمكنة وفي اللامكان. أليس من المخيف ملاحظة أن مواقع الذاكرة الأوروبية التي تفرض نفسها بقوة تبقى أولا الأمكنة التي يقام فيها الحداد ترحّماً على أرواح القتلى: موقع فردان (الذي تحول إلى مجزرة خلال الحرب العالمية الأولى) أو موقع أوشفيتز؟ وهذا ما منح قوة رمزية فائقة لآثار الموتى (مقابر، شواهد مبثوثة على مواقع الاقتتال) في القرى الفرنسية والألمانية. كانت أوروبا على الدوام صنيعة النخبة، على ما يشير الباحث: النخبة العسكرية أو الديبلوماسية، والنخبة الثقافية، فيما غابت نخبة الجماهير. هذا ما يفسر رفض فرنسا لمشروع الميثاق الأوروبي في استفتاء أيار 2005 . لكن تبقى فرنسا البلد الوحيد الذي انبثقت فيه للمرة الأولى الإشكالية التاريخية للذاكرة، والتي نمت فيها ورش “مواقع الذاكرة”.
“فتوى للتسامح”، في هذا العنوان طرح الشاعر والفيلسوف ميشال دوغي مسألة التسامي والتسامح مشدداً على ضرورة انبثاق تربية جديدة لتقويم انتكاص أوروبا وتخليصها من يوتوبيا رغبة إقامة الوحدة. يجب الدعوة إلى التسامي أو التعالي بما هما حركة تؤسس ما هو سامٍ تبعا لرغبة شارل بودلير ومن بعده بول فاليري.
في هذا المؤلف يتكرر مفهوما التعدد والاختلاف بوصفهما مفهومين فلسفيين، تاريخيين، وثقافيين مؤسسين للصلب الأوروبي. في عنوان “الهوية التعددية”، يراجع المفكر، والمؤرخ تزفيتان تودوروف مفهوم التعددية الثقافية الأوروبية بدءا من أعلام الأدب والفكر الذين نحتوا مفاصلها: مونتان، ديفيد هيوم. تتماشى التعددية الداخلية مع الانفتاح على التأثيرات الخارجية. استلهمت أوروبا الوسيطة من العالم الإسلامي التراث الإغريقي وأيضا التراث الهندي والصيني. أوروبا هي إذاً محصلة تلاقح. أوروبا الفتاة التي اختطفها الاله زوس، ليتركها في جزيرة كريت، حيث أنجبت ثلاثة أطفال. أوروبا التي يقول عنها هيرودوت أنها كانت ابنة الملك آجينور، سليل فينيقيا (لبنان اليوم). لم يختطفها زوس وإنما رجال عاديون، إغريق أصلهم من كريت. عاشت أوروبا في كريت لتنجب سلالة ملكية. أوروبا ذات الجذور المنفصمة، أوروبا المهاجرة قسرا، التي جعل منها الأوروبيون رمزا لهم، ترمز إلى التعدد والانفتاح على الآخر. لكن اليوم ثمة حقيقة مرة نراها تتعين في السياج المنسوج يوما عن يوم حول حدودها، في وجه الغريب الأجنبي، مع انبثاق اللاتسامح، العنصرية والنبذ. ثم أن أوروبا، التي تحدوها رغبة تأسيس ثقافة تقوم على الاستثناء، تواجه كباقي الدول، أمركة العالم. فريديريك مارتيل، المتخصص في الثقافة الأميركية يتقاسم وتودوروف هذا التحليل، لكن مع تركيزه على نقاط ضعف الثقافات الأوروبية وخصوصاً الثقافة الفرنسية. يقصد المثقفون والمبدعون أميركا اليوم لإنجاز مشروع سينمائي، لإقامة معرض تشكيلي، ولإمرار أفكار فلسفية أو نقدية. هذا لا يعني أن أوروبا قد انتهت كمجال للإبداع. لأوروبا مكانتها ولها أوراق يمكن أن تلعبها شريطة أن تستند الى الواقع وليس على فانتسمات. أي أن توفر للثقافات الإمكانات اللازمة. شريطة إعادة إنتاج مجتمع مدني قوي وليس الإيمان بفضائل سياسية عامة، شريطة الدفاع عن التعددية الثقافية، تبعا لقول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا: “نعم لبناء أوروبا موحدة تتكلم بصوت واحد لكن بكل اللغات وبكل أرواحها”.
هل يمكن تصور أوروبا من دون عمقها المتوسطي؟ كيف تكون أوروبا من دون المتوسط؟ يتساءل الكاتب والناقد تييريه فابر، في “الأفق المتوسطي”؟، ليجيب: لن يكون لأوروبا لا اسم ولا هيئة من دون عمقها المتوسط. حكايات التأسيس التي انبنت عليها الهويات والانتماءات الأوروبية تجد دائما في المعين المتوسطي أصلها الأول: الأوديسيه، الحكايات والملاحم، الأشعار والخرافات. من جلجامش إلى أخناتون، من العبرانيين الأوائل في سيناء إلى مسيحيي الجليل، إلى مسلمي مكة والمدينة الذين عبروا الصحارى ليلتحقوا بالبحر ويصلوا إلى مغارات هرقل. لكن ما أن تمكنت أوروبا من هذه الأصول حتى دفعت بها إلى تخوم ذاكرتها، أي إلى النسيان. يرسم تييريه فابر خريطة أوروبا المتوسطية على ضوء تحولاتها: أوروبا ما بين العنف والانطواء، ما بين الوثبات المستقبلية والوثبات في الفراغ، ليقترح برنامجا لتأسيس مجموعة متوسطية حليفة للمجموعة الأوروبية. أحد شروط هذا البناء هو التبادل وتوزيع الثروات. وللثقافة دور رئيسي في كسر الحدود. فيما ينتقد المسرحي بيتر بروك وحدة الشعارات، داعيا إلى وحدة أوروبية تولد بدءا من احترام الثراء الحقيقي المختبئ في الثراء المزيف للتعددية، يشير أوليفييه بي إلى أن ثقافة المسرح وفرت دائما مشهدا أوروبيا موحدا. وما “مسرح أوروبا” في الأوديون في باريس إلا برهان على ذلك. كان المسرح حلبة تترجم فيها أوروبا بشكل حي وبكل اللغات. في القرن الثامن عشر عرضت في فرنسا وفي ترجمتها الفرنسية مسرحية “الملك لير” لشكسبير. كان هذا العرض أولى علامات انبثاق الوعي الأوروبي. كان هذا العرض ثورة تعادل قيمتها قيمة ثورة حقوق الإنسان. علينا أن نفكر دائما في أن أوروبا مسرح، لأن المسرح هو الفضاء الذي يحدث فيه شيء ما. أوروبا كمسرح هي أيضا موقع للبناء السياسي، طريقة مغايرة للتفكير في الكونية بصفتها حكاية درامية.
من الرقص إلى الفنون التشكيلية إلى الهندسة والسينما، نتعرف الى شهادات وتحليلات شخصيات دمغت، كل في ميدانها، الممارسة الإبداعية أو الثقافية.
أهم ما يستخلص من هذا المؤلف هو التشديد على الذات قبل وحدة النحن. على أهمية الثقافي قبل الاقتصادي والسياسي. لا أحد يحب بلاده بسبب سياستها وأسواقها، على مايشير المخرج السينمائي فيم فيندرز. في عصر الصورة، فإن الثقافة، وخصوصاً السينما، هي احدى أدوات تأسيس الوعي الأوروبي.
هذا الكتاب، الذي قدم على شكل كاتالوغ فني مزدان بصور فوتوغرافية، برسومات، وخرائط، لم يكن طموحه تقديم كشف كامل لمجالات أوروبا ولآفاقها، لتشكلاتها وإنجازاتها السياسية، الإعلامية، العلمية، والثقافية، بل كان قصده تقديم بانوراما عامة عن يوتوبيا خصيبة، اسمها أوروبا، تنمو وتتقدم بأخطائها، وتعثراتها وإنجازاتها.

باريس – من نجيب الكهرماني
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى