الحياة بوصفها مُعطى طيّبا
عناية جابر
قالت جين أوستن في واحدة من رسائلها: (أُُفضّل أن لا يكون الناس ودودين جداً معي. إذ هذا سيوفّر عليّ عناء أن أُعجب بهم بشكل كبير). معظم الرسائل التي نتبادلها على الانترنت، ليس لها وجود حقيقي. رسائل لا تعدو أن تكون مُكررة، عاطفية وسوى ذلك، مكتوبة بضعف الحاجة الى الآخر، الى المحادثة وتأكيد الذات من خلالها، وحاذقة في استدرار العطف عبر تعداد أنواع الحزن والمصائب الشخصية أكثر مما تحتمله فكرة التراسل نفسها .
في النادر من الرسائل التي تصلني، ما أقع على اكتشافات جيدة، تقترح أشياء، لكنها لا تتوصّل في الغالب الى إنهاء أيّ أمر .
نتبادل الرسائل، دون أيّ جهد واضح في كبح جماح رغبتنا الى الروي، أو الكشف عن أدقّ التفاصيل. من جهتي، تعلمت بصعوبة، الإقتصاد في كلمات رسائلي، كما واقتلعت بلا رحمة، العواطف والأشواق، ورميت للأبد كل ما من شأنه غير حقيقي، وحتى الحقيقي منه. أمر سريعاً على الغاية من رسالتي. لا أتوقّف عند المشاعر المُضللة وأُدين الإشفاق على الذات في الرسائل ولا أرد على المُسهبة منها والطويلة، حتى في احتوائها جمالاً وعذوبة ما، أُهملها بسبب من طولها. تستوقفني الرسائل القصيرة، النابضة بالحياة وتتحدّث في ذاكرة ذكية عن الحياة بوصفها مُعطى طيّبا .
في نظرة سريعة الى ملفات التراسل المحفوظة على كمبيوتري، اجد أن البلاهة التي سادت رسائلي في بدايات اشتغالي على الانترنت، قد أسقطت الجمال الفعلي الذي وددت تظهيره في رسائلي المكتوبة الى الآخرين. لو كان لي أن أختار الآن رسائلي المفضّلة، لما اخترت أيّ واحدة من التي كتبتها منذ سنة وما قبل. رسائل واهمة، ميّالة للشكوى، مضروبة بالعاطفة ومرجومة، لأنها تُصر على أوهامها .
رسائل بلهاء تدفعني الى البكاء من بلاهتها. بلهاء فعلاً، لأنها لا تُقدّم حججاً لوجودها، وتطلب من الآخر في آن، ان يُصدّقها ويؤكد ويعترف بوجودها .
ملفات ضخمة تحفظ رسائلي، أشعر الآن أنها تنتمي لغير هذا العالم. تنتمي لحالة غريبة من المحال مُغادرتها، لكن أيضاً من المحال بلوغها. رسائل راسية في هذيانها الخاص، حيث لا شيء في الواقع يُمكنه أن يمسها. ربما لهذا السبب تُبكيني هذه الرسائل. بلاهتها ورقّتها غير المبررتين لدى الآخر المُلوّث بالحرص، والبعيد تماماً عن الرومانسية .
بسبب من رسائلي البلهاء، لا اشعر بالضرورة بعقدة ذنب، وإنما بوفرة انزعاج على اثرها فقدت أدنى رغبة في اقتراف رسائل شعورية ساخنة وحقيقية. بإغفالي الآن أية عاطفة في سطوري الى الآخر المُرسل إليه، إختفت تماماً لحظات مُعينة من السعادة، ولم تعد غبطة كتابة رسالة الى احد تعنيني، بالضبط كما كانت .
كلمات السّر هي السائدة في مُعظم الرسائل الآن. كلمات مُشفّرة عليها أن تضبط وجود الخفقات والإرتعاشات وسوى ذلك ..
كلمات تُشبه تلك المُعتادة للمراسلين على جبهات القتال، تحرص على إبقاء العواطف السيالة في محيط إستبدادي ومُحدّد. أسود أو أبيض. خطأ أو صواب. رسائل الكترونية بنظرة إستعارية، فيها إشارة الى hنتهاء زمن البراءة والصدق. المُرسل والمرسل إليه محصوران في زاوية ضيقّة من الغايات. اللعنة على التفاصيل، إذ يحتاج الواحد منّا في كتابته رسالة، الى الكثير من التماسك وسط هذا التغيير البطولي لكل شيء في العالم .
من كتاب الصلوات المُحرّف: (يكشف الله ما نعجز عن فهمه في سطوع تامّ، أماّ ما يمكننا فهمه، فيُخفيه وراء ألغاز). غالباً ما تراودني مثل هذه الفكرة: إن الإنطباع
(المزيّف) الذي تُعطيه مُكاشفاتنا الساخنة لمن نُحب، يجعله لا يُصدّق أن الخيار أمامه مفتوح على مكاشفته لنا بالمثل. أقول لنفسي (أنا رقيقة بطبعي، وعاطفية، لكن يُساء فهمي في عقل آخر، في مكان آخر، وعليّ أن أكتب بشكل مُختلف). كما لو أنني أقول: (يمكنني ان أكون عاطفية، لكنني في الرسائل يجب أن أكون إنسانة أخرى).
القدس العربي