آخر العنقود، وعروسه
منهل السراج
بعد رجاءات أمي المتكررة، وافق أخي الصغير أن يتزوج. أخي هذا مدلل كثيراً، ولدته أمه بعد خمس بنات، أتى بعد غم ويأس شديدين، كانت سلفة أمي تعيّرها بأنها تلد البنات فيما هي تلد الصبيان، وكان أبي يحاول أن يعزي أمي فيقول متفاخراً: بناتي لسن بنات، بناتي رجال. فتجيبه أمي بتوتر: بكرة شوف ما أحلاهن. وظلّت تحلم بالصبي وبالصلاة على النبي، إلى أن أتى المحبوب، آخر العنقود وظل أخي هذا بعين أمه أحلى الحبات.
فرحت أمي حين قدومه فرحة لم تغادرها حتى اليوم، كل يوم تفرح به، رغم أنه صار في الخامسة والثلاثين. إلا أنه مازال الصغير الذي يُفرح الجميع.
تفرح أمه بقدومه وتفرح بذهابه، تفرح به حين يأكل، وحين ينام. تفرح بكل مايقوم به، رغم أن معظم ما يقوم به لا يرضيها، فهو يدخن، و يبذر المال، ولكنها تفرح حتى حين يكذب عليها ويتضاحك، لأنها تكتشف كذبه. ونحن أخواته نفرح بفرح أمي العجيب.
وأنا بالذات ابنتها الرابعة انهمكت أفرح لفرحها لأنها لم تكن تفرح بي ولاترضى عن أي شيء أقوم به وإن كان يرضيها. قالت إنها حزنت أشد الحزن حين ولدتني أنا الرابعة أكثر من حزنها بقدوم أختي الخامسة وظلت متشددة بتربية البنات حتى انتهت من تربيتي، وانهال الدلال كله على الأخت الخامسة والأخ الصغير..
وهكذا وزعت الأدوار في البيت، نصيب أخي وأختي ونصيبي.
ألتقط حبة الكوسا السليمة وبدون طول تفكير أضعها في صحن أخي، وآخذ لنفسي المفزورة، فترضى أمي أن البيت في نظام تام.
وافق أخي المدلل أن يتزوج. امتلأ البيت بهجة وصخباً، وتجندت البنات الخمس مع الأم، وصرنا ستة نبحث عن عروس لأخي الصغير، كانت كل منهن ترغب بعروس على شاكلتها أو حسب ميولها، وأخي الصغير المعجون بحب أمه وفرحها ودلالها، لم يعترض على أي عروس اقترحتها أخواته.
عرضت أختي الكبيرة رأيها، صبية تعمل طبيبة معها في المشفى، أهلها متوسطي الحال ومن عيلة معروفة وأوادم، قالت أختي الكبيرة والواعية: مثل أحوالنا.
وافق أخي على الطبيبة.
أما أختي التي تليها والتي درست التجارة وتعمل موظفة في البنك، فقد فضلت ابنة مدير البنك وقالت، رغم أن أبو البنت نهب البنك نهباً، إلا أن أمها ست طيبة ومن عيلة منيحة، وابنتها المهندسة مثلها، ثم، للأب رغم فساده اسم لايستهان به في البلد، فقال أخي راضياً: الناس جميعاً صاروا إما فاسدين أو مفسدين. قالت أختي: طب الطنجرة.. وبتطلع ان شا االله البنت لأمها، قال أخي مازحاً وموافقاً على العرض: أحسن تطلع لأبيها.
أما أختي الثالثة التي أحبت ابن خالتها وتزوجته ومازالت تحبه ويحبها وتحب كل من حوله ويحبونها، فقد قالت: علينا أن نختار بنتاً لأسرة محبة لبعضها وليس مهماً أن تكون، يعني كتير فوق..
ثم اقترحت ابنة أخت زوجها. وافق أخي قائلاً:
ـ اي البنت ناعمة.
وحين جاء الدور عندي، “سياسة وثقافة وحقوق المرأة” تهمة العيلة ضدي، نظروا إلي بريبة، فخشيت أن أقول مقترحي فتمتعض أخواتي وأمي ويسكتنني كما يفعلن عادة، لذلك أخذت أخي على جنب وأشرت عليه بابنة رائدة من رائدات تحرر المرأة، ورغم أني رأيته يكبت ضحكة، إلا أنه وافق أيضاً وقال لي لامانع عندي، هذه الفتيات عادة قويات ويمكن الاعتماد عليهن في مسؤوليات الحياة. ثم قال لنفسه مازحاً: أقفل الراديو.
أتى الدور على أختي الصغرى الحلوة وهي رفيقة أخيها المقربة وقد نالت بمعيته جزءا كبيراً من الدلال لأنها تكبره فوراً. تزوجت رجلاً من أغنى العائلات على حد قول نسوان الحارة. اقترحت أحلى بنت في المدينة وابنة أغنى رجل. وافق أخي ضاحكاً:
ـ كاملة مكمّلة.
وهكذا كل يوم، أهمس له ببنت جديدة من بنات نساء الثقافة والشؤون، وأخواتي يصرّحن بمقترحاتهن وأخي يوافق على كل العروسات، حتى بلغ العدد عشرين فتاة.
قررت أمي وبعد أن وافق أخي على كل العروسات المقترحات أن تبدأ بخيار أختي الصغرى، فإن وافق أهلها فإنها ستغنم بابنة أشهر وأغنى عائلة، بالإضافة إلى أن البنت مرباية، وستنهي أمر خطبة عشرين بنتاً.
طلبوا يد البنت من الزيارة الأولى. واعتذر أهل البنت فوراً قائلين إن البنت خطبت منذ أيام قليلة واشتكت أمها أنها تعبت من كثرة الخطابين.
امتعضت أختي الصغرى، بل رجعت إلى البيت باكية، وقالت لي هامسة: أخشى أن البنت غير مخطوبة لكنهم يرفضون أخي الصغير. واسيتها وأجبتها بأن البنت وأهلها لايناسبوننا. فصاحت في وجهي: ولماذا؟ هل تعتقدين أنهم أحسن حالاً منا؟
لم يأت دور البنت التي اقترحتها أنا على أخي سراً، بل تجاوزوني مباشرة وطلبوا البنت قريبة أختي الثالثة.
لكن الجماعة أهل البنت أرسلوا يقولون: البنت ستكمل تعليمها. وزعلت أختي من زوجها الذي تحب وزعل زوجها من أخته وزعلت أخته من ابنتها التي رفضت بحجة إكمال التعليم. قالت أختي الثانية: تمشي البنت مع واحد بالجامعة. ضحك أخي قائلاً: البنت حبّيبة!
وجاء دور بنت صاحب البنك، ذهبت أختان مع أمي.
رجعن منشغلات بالحديث عن عفش البيت، ثريات وتحف. وقضين كل السهرة في وصف الجخ الذي تعيش البنت فيه. سألتهم في آخر السهرة: ولكن هل خطبتم البنت؟ اختصرت أختي الجواب بكلمة واحدة: مافي نصيب. وغصت أمي.
فضحك أخي كعادته غير مكترث بشيء، ففرحت أمي.
وبالفعل طلبوا الطبيبة الآدمية زميلة أختي بالمشفى، ولكن وبعد انتظار دام أكثر من أسبوعين، اعتذروا بجواب الكلاّ، بالحقيقة لم يعتذروا، رفضوا بفجاجة قائلين: ابنكم يسهر. صدمت أمي: ابني يسهر؟. كل منا فكرت صامتة: هل يشرب أخونا؟ هل يحضر برنامج الرقاصة؟ لكن لم تكثر التساؤلات، ضحك أخي كثيراً، ورجعت فرحة أمي به تنظف كل الهواجس والوساوس.
بعد انتظار وضيق أوشك أن يخلّف يأساً ويقلل بهجة أمي اليومية بأخي، مشي الحال، وتزوج أخي بنتاً فيها مواصفات البنات التي توافق الأم والأخوات. بنت عيلة وحلوة ومتعلمة، وزغردت أمي ليلة عرسه، كان أمامها العريس المهندس والعروسة المهندسة، وإلى جانبها بناتها الدكتورات: نحن الدكاترة نحن المهندسين.. كانت زغرودة جديدة، صاغتها بنفسها ولم تجلب فيها سيرة الكاتبات.
كانت العروس مدللة مثل أخي الصغير. حتى أنه صار على أخي أن يدور كل يوم بسيارته ساعة كاملة ليبحث عن نوع الشيبس الذي تفضل مع مسلسل المساء. ولكن لا أدري لم تنصّلت أخواتي كلهن، وكل منهن أعلنت: لا لست أنا من اخترتها لأخي..
ولأني كنت أهمس بمقترحاتي همساً، فقد توجهت الأنظار إلي واتُهمت أني أنا من اخترتها. ووقع علي واجب تدليل عروس أخي بالإضافة لتدليل أخي.
في آخر غداء كوسا، وضعت الحبة الجيدة في صحن أخي، هممت أن آخذ التي تليها لي، فأمرتني أمي مقطبة: ضعيها في صحن زوجة أخيك.
التقطت كل الكوسايات المفزورات التهمتها دفعة واحدة، وارتحت.
ستوكهولم
أيلول _ سبتمبر 2008
كاتبة سورية تقيم في ستوكهولم
خاص كيكا