المصالحــــــة
عباس بيضون
هناك المصالحات والسعي إلى مصالحات. مصالحات باردة وأخرى ساخنة لكنها جميعا مكشوفة، إنها تبني على لا شيء، مجرد تبريد للأجواء يقال. الضغينة في محلها والاستفزاز في محله والعداء في محله والتشهير في محله ولا داعي لأن نغضب أو نتمنى شيئا آخر، فالأرجح أن هذا، مهما كان رأينا، هو كل ما حصلناه في تاريخنا القريب ولا نستطيع أن نلقيه بدون تفكير في البحر. إنها صراعاتنا وانقساماتنا وحروبنا وضحايانا وخسائرنا، إرثنا البغيض لكن الذي لا نملك سواه، سيأتي الوقت لمراجعته وفرزه وطرح ما ينبغي طرحه وإبقاء ما يهم بقاؤه.
سيأتي الوقت أو لن يأتي، لا نعرف لكن هذا لا يعني أن هذه العداوة ستتبخر ببسمة رضا، ان جبلا من الألم والخسارة والتهافت يختفي بمصافحة. لحظّنا أن هذا لن يحدث فما زال الواقع موجودا وما زال له عمق وعرض وطول، ومهما أسففنا أو أسفّ فإنه لا يزال موجودا. لحظنا ولشرفنا ان نتمسك بكل ذلك لأن ظلامات بلا حد ارتكبت أثناءه، لأن أخطاء وجنايات فظيعة حصلت فيه، لأن أكاذيب وأوهاما وادعاءات ملأته. ومهما يكن، لا بد ان نفكر من أجل كرامتنا وضحايانا، ان يوما سيأتي يظهر فيه الخــيط الأبيــض من الأسود. أن الحساب، ولو متأخرا جدا، سيكون له وقت. وأن ظلامات سترفع حتى عن الموتى ووجهات سيظهر ضلالها، وأن ضحالة الكذب ستظهر للجميع والأنصاب الجوفاء ستسقط من تلقائها. إنه أمل لا شفاء منه كما يقال، لكن المصالحة ليست شيئا لتهدد أي شيء. لقد مدوا أيديهم إلى اللاشيء ووحده كان حاضــرا لنـجدتهم. لم يكن مطلوباً سوى الكذب على الواقع، وتوسيط الفراغ. لم يحدث شيء لكننا سلمنا المفاتيح للاّحدث. وقال الجميع لا نخــسر ولا نربــح أننــا نتبادل الهواء ولا ندفع من أي رصـيد. لا نبـيع شـيئا على كل حال ولا اسم لما نفعله سوى العجز عن أن نفعل شيئا.
إنها مصالحات وحديث عن مصالحات وانتظار لمصالحات. تهدئة الجو الأهلي يقال. إنها رقية لإبعاد الحرب، لكن الرقى لا تبعد حروبا. الرقى تعني العيش تحت إنذار دائم بوشــكها وعــلى أنها ستبقى معلقة فوق رؤوســنا. الذين يذهبون الى المصالحة يوقعون فقــط على هدنــة. وكلــما التــقوا نعرف جميعا أنهم ينكرون هكــذا إنكاراتهــم الســابقة لوجــودها (الحرب).
نعرف أنهم لا يفعلون سوى إعادتها إلى البراد ويمنحونها أو يمنحوننا مهلة جديدة. إنهم يقرون انها موجودة بالقوة ولا يفعلون شيئا لمنعها. هكذا تقوى في الانتظار أسبابها ومقوماتها وتغدو أكثر فأكثر »وضعنا« و»حاضرنا« وحقيقتنا الوحيدة. لطالما اتفقنا على أنها قائمة بالقوة والاستعداد ولا ينقص إلا أن يوجد من يقدر على كسبها والاحتفاظ طويلا بفوزه. على الطريق لا بد من امتصاصها في حروب صغيرة. إننا في انتظار أن ينضج الظرف الموضوعي والمصالحات الصغيرة، شأن الحروب الصغيرة، لامتصاصها الوقتي فحسب. لن نكون الشعب الوحيد الذي يعيش فوق حرب نائمة، هناك زمرة شعوب تقاسمنا هذا الحظ لكننا قد نكون الشعب الوحيد الذي هم قياداته وأطرافه تنظيم وتوطيد حرب يعلن الجميع أنها لن تقع. ما هي سياستنا إن لم تكن فحصا دوريا لموازينها. وحيــن يتشــوش الأمر لا بد من جولة لفرض الحقائق. جولة من منظور حرب أطــول، لا ننسى أن جولة ٧ أيار كسرت الميزان، وقد لا تكون المصـالحات سوى تثبيت التوازن الجديد.
مصالحات لتبريد الجو، لتنقية الهواء، هذا صحيح. لكن ذلك لا يعني سوى أن ليس لنا شغل آخر، نحن الآن لا نفعل في المساء سوى تهدئة ما احتقن في الصباح. وردية الصباح تزرع المسامير ووردية الليل تجمعها. البعض يؤرثون النعرات والبعض يطوقونها. لن نقول أي الحالين أفعل الا ان التأريث يبني على نعرة قائمة اما التهدئة فلا تبني على شيء. دعنا من هذا الحساب فالأكيد ان حياتنا السياسية والاجتماعية سترابط هنا، بين وردية الشحن ووردية التهدئة والحصيلة بالطبع لا علينا ولا لنا. الحصيلة هي البقاء في الصفر. لن يكون لنا شاغل سوى نقل الحرب من يوم الى يوم. انه شغل يومي مجيد لكنه يعني سوى اننا، عدا بروفا الحرب والسلام اليوميتين، لا نفعل شيئا، لن يكون هناك عمل ابعد من ذلك. انها حياة مجتمع وستنقضي في هذا الاكورديون المستمر الذي يصفر في الرؤوس الى أن يبدأ البعض بالقول: لم نعد نطيق، لتكن الحرب فهذا قد يغير شيئا قد تكون نوعاً من أكل كما قال كافافى، انها لازمة اليأس اذا استعرنا من الحائز الجديد على نوبل لوكلوزيو، ذلك يعني ان لا خطوة في السياسة او الدولة او المجتمع فالحرب في البراد تعني ايضا ان المجتمع في البراد. تعني مزيدا من الحلّ والاهتراء في الدولة والمجتمع، تعليق كل شيء، ومتابعة الحياة حسب انظمة الحرب الخفية: امراء الحرب الجدد والقدامى، تناهب الدولة والمجتمع، الغزوات اليومية والمصالحات القصيرة الموقتة التي تليها. سيعود الى البراد او الى الصفر كل ما تقوم به الحياة ويقوم به المستقبل: الحرب والسلم، الدولة، الاستقلال، السلم، العلاقات الخارجية، الاقتصاد، السياسات الداخلية في كل مجال. كل ما بدا في الوقت القريب اساس نزاعاتنا سنتصالح على ان نجعله خلفنا. لن يكون هناك مجال الا لترهات ينكفئ اليها النزاع، عدد المدعوين الى طاولة الحوار او صلاحيات نائب رئيس الوزراء. ستكون مخيلة النزاع السقيمة هي الحاكم وستولد كل يوم ترهة جديدة. المطلوب فقط هو ان تضع في الصباح الكناسة الكافية لعمل منظفي المساء. المطلوب هو ان نكون دائما في دولة الحرب ومجتمع الحرب الداخلية، وان نصوغ من خلافات لم يعد لها موضوع حياتنا ومجتمعاتنا، لم يعد لها موضوع لأن المصالحة ستكون او كانت سحب النقاش الاساسي والخلاف الاساسي والابقاء على صغائر النزاع، بل وحشر النزاع في الصغائر. لن تكون المصالحة سوى سياسة الدولة التوافقية القائمة، ولن يكون التوافق في الحقيقة سوى تجديد النزاع بلا موضوع. لقد سحب من النقاش، كما يبدو بوضوح، موضوع السلاح والمقاومة والسلم الأهلي والدولة والعلاقات الخارجية ولم يعد هناك ولن يعود هناك سوى اشياء من قبيل عدد المجتمعين على طاولة الحوار وصلاحيات نائب الرئيس، لن تبقى هناك سوى مماحكات ونوافل. وبالتأكيد سنكون جميعا في العطالة الكاملة وفي البراد.
لكن المصالحة والتوافق ليسا عادلين كما يبدو، لا ربح ولا خسارة في الظاهر اما الحقيقة فهي ان طرفا خسر قضيته حين وافق على طيها او تعليقها، فيما الطرف الآخر وجد في طي الطرف الاول لقضيته اعترافا ببطلانها. هذا ما يقال بالطبع في السر ولا يريد احد ان يسمعه، لأن من خسر يكابر ومن ربح يؤثر ان ينفذ بربحه السهل نسبيا بدون ان يحرج الطرف الاول ويضطره الى منازلة جديدة. لقد ربح بضعف الخصم اكثر مما بقوته الخاصة، بترويع الخصم اكثر مما بجدارته، لقد حصل التوافق وهو منذ الآن الأمر الواقع الذي ليس متساويا. الأمر الواقع المكسور الميزان.
مع ذلك يمكن للشعب ان يسأل، اذا كان هناك من شعب. ماذا ربح من العطالة والتجميد ووضع المسألة في البراد. ماذا ربح الآن سوى الحرب المعلقة. الحرب التي تغدو اكثر فأكثر بلا اسباب ولا موضوع والتي لم تعد سوى تلاعب بالنعرات. ماذا افاد الشعب من عطالة الدولة والاقتصاد والمجتمع لا شيء مع ان المنتصرين كثر والحق ان الامور تسوء طردا مع الانتصارات.
السفير الثقافي