صفحات مختارةياسين الحاج صالح

القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية

null
1
فجيعة الشيخ
ياسين الحاج صالح
لاحظ الشيخ القرضاوي بمرارة وشعور حاد بالخذلان أن من ردوا على إثارته قضية «الغزو الشيعي» المفترض لـ«المجتمعات السنية» هم أساسا مثقفون مسلمون سنّة: طارق البشري، أحمد كمال أبو المجد، فهمي هويدي، يبدو أنه كان يتوقع وقوفهم إلى جانبه. وإذ خاب توقعه، تمثّل بقول الشاعر:
وإخـــوان حسبتـهـمــو دروعــــا فــكـــانـوهــــا، ولـــكــــن للأعــادي
وخلتهمـو سهـامــا صـائـبــات فكــانــوهـا، ولكــن فـي فــؤادي!
هذا قبل أن يتعجب من «صمت وكالة الأبناء الإيرانية» و«تواري مراجع الشيعة إلى الخلف»، تاركين «أهل السنّة يرد بعضهم على بعض، وهم يتفرجون!». ويتفجر حنق الشيخ المصري القطري المشهور في هذا السؤال الساخط: «ألا يوجد في المجتمع الشيعي كاتب واحد ينتصر لموقفي، أي لأهل السنة، في إيران أو العراق أو لبنان أو الخليج! على حين نفر من رجال السنّة هنا وهناك- ولا سيما في مصر بلد الأزهر- من ركب جواده وامتشق سلاحه، دفاعا عن الشيعة المظاليم» (رده على أحمد كمال أبو المجد).
الرجل متألم مفجوع، لا يجد تفسيرا لاعتراض بعض «رجال السنة» عليه بينما لم يكن يتوقع منهم غير النصرة في مواجهة خطر شيعي يراه أكيدا، فهل يسعنا اقتراح تفسير لهذا المسلك الذي أعيا من يسميه بعض مريديه «إمام أهل السنة» وبعض آخرين «شيخ الإسلام»؟
يبدو لنا، وهنا الملحوظة الأولى، أننا نجد العنصر التفسيري الأهم لهذه المفارقة الظاهرية في كلام الشيخ الإمام نفسه. في حوراه مع صحيفة «الشرق الأوسط» (28- -9 2008) قال الشيخ متكلماً باسم المسلمين السنّة: «ونحن أهل السنة نعتبر أننا الأمة الإسلامية لأننا تسعة أعشار الأمة». الأرجح أن نسبة المسلمين السنة أقل من ذلك (أربعة أخماس حسب طارق البشري)، لكن أليس لاعتراض المثقفين المشار إليهم على «الفاشِيَة» التي أفشاها كلام الشيخ، بعبارة البشري أيضا، صلة بكون السنة هم أكثرية «الأمة» أو «مادتها»؟ أعني أن شعور المسلم السني العام بأنه ينتمي إلى أكثرية المسلمين (أو «الأمة») من ناحية، وأنه يتماهى مع الإسلام كدين بيسر تام من ناحية ثانية، وأنه وريث شرعي للتاريخ الإسلامي من ناحية أخيرة (تماهٍ ميسور مع الإسلام كـ«أمة» وكدين وكتاريخ)، هو ما يصونه من إمكان التصرف بالطريقة التي كان يأملها منه الشيخ القرضاوي. وهي طريقة منفعلة محتقنة، تقترن عادة بأقليات تشعر أنها مهددة، وتتناقض أولا مع قوله إننا «نحن أهل السنة الأمة الإسلامية». فـ«الأمة»، ولأنها كذلك، إطار للتعدد والاختلاف، يتعذر توحدها بالسهولة التي قد تتوحد بها طائفة تجتهد لطرد الاختلاف خارجها. ومن المرجح فيما نرى أن أبا المجد وهويدي والبشري يتحفظون على كلام القرضاوي لأنهم يصدرون عن هذا الشعور السني، فيما يفكر الشيخ بـ«الأمة» كطائفة تستنفر ضد «خطر» قال هو نفسه إن من غير المحتمل لحصيلته أن تتجاوز مئات أو ألوفا من المتحولين.
لكن، إن كان الأمر كذلك، فلماذا فات على الشيخ؟ ولمَ تكلم كأنه ممثل لطائفة لا كناطق باسم «الأمة» أو «مرشد» لها، على ما تمنى لنفسه في حواره مع جريدة «المصري اليوم» (8 و9- 9- 2008)؟ للأمر فيما نرى صلة بخصائص مفهوم الأمة في تفكير الشيخ القرضاوي، لكن لندل بملاحظتنا الثانية أولا، لأنها ستساعد على توضيح الخصائص هذه.
تتصل الملحوظة الثانية بواقع أن المثقفين «السنّة» الذين تحفظوا على كلام القرضاوي هم من أصول قومية عربية، أو ممن يصدرون عن مفهوم استيعابي للأمة يجعل منهم في آن وطنيين مصريين وقوميين عربا و«أممين إسلاميين» إن صح التعبير؛ وهم ينزعون بالتالي نحو تصور تركيبي للأمة يعرّفها بلغة أكثر سياسية وتاريخية، ويتمحور حول التمايز عن الغرب الاستعماري ومواجهته، إسرائيل بخاصة، الأمر الذي يضع «حزب الله» (أهم قوى المقاومة الوطنية الضاربة القليلة التي يملكها العرب و(..) الداعم لحركة المقاومة الفلسطينية السنية) «البشري» و«النظام الوطني في إيران المناوئ للعدوان الأميركي الإسرائيلي» «البشري أيضا»، يضعهما في قلب «الأمة». وتفجير المسألة الآن هو نيل من «وحدة الأمة» هذه التي ينبغي أن تبقى جبهتها «كالبنيان المرصوص» في وجه «الحملة على الإسلام والمسلمين» من قبل أعداء يحوزون أسلحة «أمضى من أسلحة المسلمين مجتمعين فكيف إذا تفرقوا» «أبو المجد». و«إثارة الشقاق والفرقة بين الشيعية والسنة» هو «ما سيؤدي تلقائيا إلى تراجع أولوية الصراع ضد إسرائيل وتهيئة الأجواء لتوجيه الضربة العسكرية الأميركية ضد إيران»… «هويدي». في المجمل، ينحاز المثقفون الثلاثة إلى تصور للأمة يقلل من شأن التمايزات القومية والمذهبية لمصلحة وحدتها في المواجهة مع الغرب.
الشيخ بالمقابل من أصول إخوانية «اصطبغ تكوينه بعمق بالخصومة الإخوانية العنيفة مع النظام الناصري»، و«أمته» إسلامية سنية، وسنيته ذات توجه فقهي غالب، استبطنت اعتقادا إسلاميا «أرثوذكسيا» معاديا لـ«الروافض»، مبدّعا للشيعة، ومؤسسا على ذهنية الفرقة الناجية التي استطاع الشيخ أن يتكلم عنها في تصريحاته الأخيرة دون أن يرف له جفن. ومقصده الأرجح من استحضار حديث «الفرقة الناجية» هو استثارة استنفار سني ضد الشيعة ومنحه عمقا مقدسا وخلاصيا.
وفي أمة القرضاوي يتغلب العداء الثقافي للغرب على العداء السياسي له أو يبطنه ويعطيه دلالة مختلفة عن العداء القومي للغرب. فهي أمة متمركزة حول «الشريعة»، بحيث إن الابتعاد عن الشريعة هو ما يمثل عدوانا عليها. وقد لا يكون تلميح البشري إلى كمون «موقف بعض دول المنطقة التي اعتادت أن تنطلق باسم الإسلام والسنّة واعتادت مناصرة السياسة الأميركية المناصرة للموقف الإسرائيلي» قد لا يكون منصفا لمواقف الشيخ الشخصية، إلا أنه لا شك في أن المفهوم القرضاوي للأمة يقلل من شأن القضايا القومية والوطنية التي يوليها منتقدوه «السنة» جل اهتمامهم، فضلا عن أنه مفهوم يجمعه، كما لاحظ البشري نفسه، مع «من عرفوا بالغلو والدعوة إلى العنف» (يعني على الأرجح تنظيمات جهادية من صنف «القاعدة»…).
2
من الأمة إلى الطائفة
كيف حصل أن تطيف الشعور السني رغم طابعه الأكثري؟ الأساس في هذا السياق هزيمة الحركة القومية العربية في عام 1967 ثم الفورة النفطية التي تلت إخفاق الرد العربي على الهزيمة. فمع هزيمة الحركة القومية فقدت الحساسية السنية أي تعبير استقلالي.
جماع القول إذن «ترجع الجريدة، 30- 10- 2008» إن أمة طارق البشري وزميليه أكثر مرونة حيال العالم الحديث وأكثر استيعابا للتمايزات المذهبية الإسلامية وتقليلا من شأنها، وهي تستبطن تاريخ الحركتين الوطنية المصرية والقومية العربية، وما فيهما من عناصر حداثية وعلمانية، تنفتح مبدئيا على غير السني وغير المسلم، وتعادي الغرب كامبريالية أولاً. فيما أمة القرضاوي منكفئة حيال العالم والحداثة، وذات تمركز سني يجعلها أدنى استيعابية بكثير، وتستبطن عداء للحركة القومية العربية أو ريبة شديدة حيالها، وهي لذلك أقرب في الواقع إلى طائفة، جماعة مذهبية أحادية اللون تضيق بالاختلاف عنها، وقد تمضي إلى حد تكفير المختلفين.
وأساس ذلك ربما هو أن التفكير الديني، في أي صورة انتظم، غير مؤهل ليكون إيديولوجية عضوية لبناء أمة معاصرة، أي جماعة بشرية متنوعة الأصول والمناهل، لكنها تضمن المساواة السياسية والحقوقية لجميع مواطنيها. هذا يصح على التفكير الإسلامي السني، بتنويعاته الجهادية المغالية والإخوانية الوسطية، قدر انطباقه على التفكير الشيعي، لكن لعل هذا يستمد ديناميته السياسية الراهنة من كونه مكونا أساسيا لوطنية إيرانية فتية ذات تطلع استقلالي وتوسعي، ومن تهميش عريق للجماعات الشيعية في البلدان العربية، لبنان والعراق، وكذلك البحرين والسعودية.
الفرق إذن بين الشيخ ومنتقديه الثلاثة هو أن «السنية» عندهم، بحكم طابعها الأكثري، وبتأثير ما سبق أن اندرجت فيه من سياقات سياسية وفكرية ومؤسسية استيعابية وحديثة، أضحت أقرب إلى ضرب من الحساسية العامة، التي تتميز بالاعتدال والمنزع الاستقلالي والروح التوحيدية. و«الآخر» الذي تعرف نفسها بالتقابل معه هو كما قلنا «الغرب الاستعماري» أو «أميركا وإسرائيل»، أما أمة الشيخ القرضاوي فلا يبدو أن ثمة «آخر» «ماهوياً» محددا لهويتها: إنها تتمايز في الوقت نفسه عن الغرب كحداثة وسيطرة، وعن التيارات القومية والوطنية العلمانية، وعن الجماعات المذهبية الإسلامية الأخرى، الشيعة خصوصا. وينبغي أن يكون هذا مستغربا. فمن المعلوم أن الإسلام السني لم يكن يعرِّف نفسه تاريخيا إلا بالتمايز عن غير المسلمين، فيما يتحدد الإسلام الشيعي ماهويا بالتمايز عن الإسلام السني (أو «الناصبي»، الأمر الذي يجعل مطالب الشيخ القرضاوي الشيعة بالكف عن شتم الصحابة أو احتكار الإيمان لأنفسهم مساسا بمتن العقيدة الشيعية). وعليه يكون سخط الشيخ من الشيعة تعبيرا عن تدهور الطاقة الاستيعابية للإسلام السني وانكفائه على نفسه كطائفة تصطف إلى جانب غيرها وتنافس غيرها وتغار من غيرها.
لكن كيف حصل أن تطيف الشعور السني رغم طابعه الأكثري؟ الأساس في هذا السياق هزيمة الحركة القومية العربية في عام 1967 ثم الفورة النفطية التي تلت إخفاق الرد العربي على الهزيمة. فمع هزيمة الحركة القومية فقدت الحساسية السنية هذه أي تعبير استقلالي، وتصدرت التعبير عنها المملكة العربية السعودية التي تجمع بين مستوى متدن من الاستقلالية السياسية وهوية تقوم على مذهب تطهري متشدد، فضلا عن ثراء ريعي كبير. وتشهد كل من مصر والمملكة العربية السعودية من جهة، والتنظيمات الإسلامية من الإخوان إلى القاعدة من جهة ثانية، على خسران الحساسية السنية العربية زمام المبادرة التاريخية الذي كان تحقق لها على يد الحركة القومية العربية.
لم تكن القومية العربية سنية، بل كان ما تحقق لها من هيمنة في خمسينيات القرن العشرين وستينياته قد أتاح للإسلام العربي، وهي سني أساسا، الاندراج في تشكيل سياسي وحضاري جديد هو العروبة التي «اخترعتها» الحركة القومية ولم تقطفها من «الطبيعة»، فقد جعلت العرب شعبا «عالم ثالثيا» مناضلا ضد الاستعمار من أجل التحرر وعاملا من أجل وحدته الخاصة ومن أجل العدالة والمساواة والتقدم، شريكا لشعوب «القارات الثلاث»، ورفيق كفاح للفيتناميين والهنود والصينين والأفارقة… ولعل من أخطر نقاط ضعف الحركة القومية العربية أنها لم تضطلع بالطابع المخترع للأمة العربية التي نهضت باسمها.
لقد تصور القوميون العرب، «الشوام» خصوصا أكثر من المصريين، أن العروبة ليست إلا عودة إلى أصل «طبيعي»، إلى «عدنان وقحطان»، إلى «الوليد والرشيد» كما يقول النشيد الوطني السوري، أي ببساطة إلى العرق واللغة. وهي بذلك مهدت الطريق لانهزامها أمام طبيعة أرسخ، تجاهر بطبيعيتها و«أصالتها»: «الإسلام».
انهارت الهيمنة القومية فانفرطت إلى عناصرها، نظم سلطوية استبدادية وشعوب ارتدت إلى جماعات أهلية، دينية ومذهبية وإثنية، وأخذت الفكرة القومية المهجورة ذاتها تبحث عن سند إسلامي «أصيل» لتقف على رجليها.
فالسنية هي أحد عناصر انفراط الحركة القومية العربية وليست أساسها أو جوهرها، ومن ثم فإن القول إن القومية العربية غلالة للانتماء السني غير صحيح. فليست السنية غير عنصر خام في حركة قومية عربية حديثة، تعارضت أحدّ التعارض مع العروبة «الطبيعية» للسعودية مثلا. هذا رغم أن المسلمين السنة العرب كانوا يتماهون بسهولة أكبر مع الحركة القومية العربية، في تنويعتها المصرية خصوصا «الناصريين السوريين… مسلمون سنة في أكثريتهم الساحقة» وأقل في تنويعتها البعثية، التي غدت طاردة للشيعة العراقيين مثلا في سبعينيات القرن العشرين.
وفقدان العالم العربي من ذلك الوقت لقيادة حية هو ما أتاح للشيخ أسامة بن لادن أن يكون قائدا عربيا وإسلاميا كبيرا. لقد صعد أسامة بن لادن لأن جمال عبدالناصر سقط.
3
السياسة توحد والدين يفرق
إن تشكيلا اجتماعيا تاريخيا أوسع طاقة استيعابية مثل الوطنية والقومية هو ما من شأنه أن يهذب النزعات الاستبعادية المتأصلة بصورة حتمية في الدين، فيما من شأن التمركز حول الدين أن يثير النزعات هذه حتى ضمن المجتمع وضمن الدين نفسه.
سقط جمال عبدالناصر فصعد بعده بأقل من جيل نجم أسامة بن لادن، والموجة التي حملت الشيخ أسامة كانت حملت قبله الشيخ يوسف القرضاوي. إن الفكر الذي يتحدث اليوم عن «ملة ناجية» و«روافض»… ليس عاجزا عن توحيد العرب والمسلمين فقط، بل هو متولد بصورة مباشرة عن أزمة القيادة في مجتمعاتنا المعاصرة.
منذ السبعينيات، إذن، أخذت الحساسية السنية التي خسرت تشكّلها العروبي تجنح نحو التطرف، أو تستسلم للتطرف الذي كان نما في أوساط الإخوان المصريين في ظل الحكم الناصري نفسه. يشهد على ذلك التنظيمات الإسلامية جميعا، خصوصا «القاعدة» والتيارات السلفية الجهادية، لكن بما فيها الإخوان المسلمون ووسطيتهم المفترضة… فاعتدال الإخوان والشيخ القرضاي هو اعتدال ذاتي، فيما فكرهم ما قبل الحداثي والمنغلق دون الحداثة يحتفي بمثل أعلى أبوي، يتلجلج أمام المساواة بين المواطنين ويقيد النساء ويقمع الجنسية ويتشكك في الثقافة والإنسانيات والفن ولا يرتاح للعفوية والفرح، ما يعني أنه فائق التطرف بمقاييس العصر. وهو ما يدل في رأينا على فقد السنيين طاقة الهيمنة وانحباسهم في دائرة رد الفعل، ما يعادل قولنا إنهم تحولوا إلى طائفة، ولعلنا نستبق خلاصة هذا المقال بالقول إن الاعتدال السني الوحيد الممكن هو الذي لا يقوم على أرضية دينية، سنية، لا يسعها إلا أن تكون فئوية أو طائفية في مجتمعاتنا المعاصرة. وليست إلا صيغة أخرى للأمر نفسه أن نقول إنه ما من اعتدال ممكن دون نقلة كبيرة في الفكر الإسلامي، تفتحه على الحداثة (حرية الاعتقاد بخاصة) وتجرده من مطامحه السيادية، وذلك في إطار الدولة-الدول الوطنية القائمة.
ولا يبرهن المثال الإيراني على عكس ما نقول لأن الشيعية هي أساس القومية الإيرانية اليوم بصورة تفوق بما لا يقاس وضع السنية في الحركة القومية العربية. لقد استطاعت هذه، وبسبب تكوينها الأكثري ذاته (أكثرية العرب مسلمون سنيون، وأكثرية المسلمين من السنيين)، أن تتكلم بالأحرى على «الإسلام» لا على السنة. ورغم أن إيران وحركتها القومية الصاعدة تفعل الشيء نفسه اليوم، تتكلم أيضا على «الإسلام» لا على الشيعة، إلا أن إسلامها ذو تمركز شيعي وفارسي، وهنا نقطة قوته وضعفه في آن، نقطة قوته لأن المركز البشري والتاريخي والثقافي للكتلة الشيعية في العالم إيراني بلا منازع. وقد عزز من ذلك نظام صدام الذي جمع بين قومية عربية مجردة وطغيان أرعن وطائفية سنية، والذي أضعف النجف ورفع عتبة التماهي العربي للشيعة العراقيين… وكون إيران هي المركز الشيعي العالمي يحد إلى أقصى درجة من الاحتكاك بين الإسلام الشيعي والقومية الإيرانية على خلاف ما كانت الحال بين الإسلام السني المتعدد المراكز والقومية العربية (لقد شُكك في إسلام عبدالناصر والبعثيين، داخل مجتمعاتهم ومن قبل مراكز سنية عربية أخرى، السعودية بخاصة). بيد أن المركزية تلك هي أيضا نقطة ضعف الإسلام الإيراني لأن صفته الشيعية تحد من قدرته على الهيمنة في المجال الإسلامي العام. وإذا صح ما يقوله الشيخ عن حملات «تبشير شيعي» منظمة (مال ونفوذ سياسي ودبلوماسي وكادر بشري…)، فإنه مؤشر على قصور الإشعاع الذاتي للنموذج الإيراني لا على قوته.
والنتيجة البسيطة (والبديهية، عند التأمل فيها) التي تنبني على ما تقدم هي أن الوظيفة التوحيدية لـ«الإسلام» لا توجد إلا في صورة غير دينية، قومية أو وطنية، أما ما يمكن أن يوجد في صورة دينية فليس إلا سنة وشيعة… أي الانقسام المذهبي. إن تشكيلا اجتماعيا تاريخيا أوسع طاقة استيعابية مثل الوطنية والقومية هو ما من شأنه أن يهذب النزعات الاستبعادية المتأصلة بصورة حتمية في الدين، فيما من شأن التمركز حول الدين أن يثير النزعات هذه حتى ضمن المجتمع وضمن الدين نفسه.
ولو افترضنا أن الحكم دان للإخوان المسلمين مثلا في مصر، فمن المحتمل أن تتفجر تناقضات «الاعتدال» الإخواني، ويرتسم سريعا تياران متخاصمان: تيار وطني مصري ذو توجه إسلامي معتدل (على غرار الأساتذة الثلاثة، البشري وأبو المجد وهويدي)، وتيار أممي إسلامي متشدد لن تكون مصر غير ساحة لجهاده (يمثل عليه أيمن الظواهري)، ومن غير المحتمل أن تحول «وسطية» الشيخ دون هذا الانقسام.
وكنا في سياق آخر قلنا إن حكما إسلاميا في سورية هو وصفة محتومة للحرب الأهلية. ولو جنح بنا الخيال إلى حد تصور أمة إسلامية موحدة، وهذه طوبى الإسلاميين السياسية، فالأرجح أن تنقسم فورا ليس حسب الثقافات والأعراق واللغات فقط، إنما حسب المذاهب الدينية أيضا، فمن شأن فرض الدين عنصرا موحدا أن يدفع إلى توسل الدين ذاته عنصر تمايز ونزاع.
4
من الحساسيات المذهبية إلى الواقع السياسي
يتعين أن ينصرف الاهتمام إلى النفوذ الإيراني المتصاعد، في العراق ولبنان بخاصة، أي في بلدان فيها أصلا كتلة شيعية كبيرة أو حتى أكثرية السكان، والأجندة القومية الإيرانية التي يحملها، وليس إلى التحول المحتمل لسنيين إلى شيعة، وهو تحول لا إشكال فيه ومقدر له أن يبقى محدودا حتى لو كانت وراءه حملات منظمة.
إذا كانت أمة الشيخ القرضاوي تبدو طائفة فلأنها فقدت أي مشروع إيجابي تاريخيا، ما جعلها موضع تجاذب بين حدين أقصيين: عدمية تنظيم «القاعدة» وتبعية البلدين «السنيين» الأكبر، مصر والسعودية. قد نذكر أن «الصحوة الإسلامية» التي يحتفي بها الشيخ (والأساتذة أيضا) تلت هزيمة الحركة القومية العربية، وهي تستبطن عداء شديدا لتلك الحركة.
فهل تشكل «أمة» البشري وأبو المجد وهويدي بديلا، أساساً متجددا لمشروع تحرري واستقلالي؟ لربما لاحظنا أنها أمة تعرف بتمايزها عن آخر (أميركي إسرائيلي)، أي بالسلب. وحول السلب تتكون هوية وعصبية وطائفة، لا أمة. وانكفاء العرب السياسي وانعدام وزنهم الدولي يعود فيما نرى إلى استحكام السلبية في وعي قطاعات واسعة من نخبهم الثقافية والسياسية. وإذا استطاع المستشار طارق البشري، المثقف المصري، أن يصف النظام الإيراني بأنه «وطني»، فلنا أن نستدل على مفهوم الأمة الذي يصدر عنه. فنحن هنا خارج مفهوم الدول الوطنية بالكامل هنا. إذ لا تتعدى «الوطنية» التي يوصف بها النظام الإيراني مواجهة عدو «الأمة» الافتراضية التي لا معادل سياسيا لها، «الأمة الإسلامية». فماذا عن الأمة بالمعنى الحديث للكلمة: الدولة والشعب والأرض؟ وماذا عن المواطنة والمساواة بين السكان متعددي الأديان والمذاهب؟ لا نجد كلمة واحدة في تدخلات عند البشري وزميليه. هل السياق لا يحتمل؟ بل الإشكالية التي يصدرون عنها هي التي لا تسمح بغير تركيز هوسي على الوحدة في مواجهة أعداء. فمن سمات الوطنية السلبية أو «الممانعة» هذه أنها تعلي من قيم «الوحدة الوطنية» أو «وحدة الأمة» التي باسمها احتج الأساتذة على الشيخ. والوحدة الوطنية هي الإيديولوجية التي لطالما سوّغت الاستبداد في بلداننا، بل وجعلت من التعامي عن امتيازات دينية ومذهبية وإثنية، بحجة الوحدة ذاتها، فضيلة وطنية. وهي في جميع الأمثلة التي نعرفها، سورية وعراق صدام، وإيران على أرجح تقدير، آلت إلى إعادة إنتاج موسعة للتمايزات الدينية والمذهبية الذي يفترض أنها تعرّف نفسها ضدها.
وليست السلبية الجوهرية لتفكير الأساتذة الثلاثة منفصلة عن فقدان العرب زمام المبادرة التاريخية، واستسلامهم لنزعة الممانعة التي تجمع بين رفض الكوني ثقافيا والميل إلى تعريف الوطنية بدلالة «الخارج»، مع إغلاق «الداخل» التام. لا معادل سياسيا لهذه الرؤية غير استبداد أبوي، لا يختلف عن النظام الحالي في مصر مثلا إلا ببلاغته وتحالفاته الخارجية.
ولم نعرف من الأساتذة الثلاثة على أي أمة يتكلمون. فدال الأمة في ردودهم على الشيخ مرسل، لا يتلوه ما يخصصه. كل شيء يوحي بالطبع أن المعني هو «الأمة الإسلامية» التي تبدو محلقة فوق التمايزات القومية وفوق الدول والأقاليم، وبالطبع فوق الطوائف والمذاهب. وفي هذه الأمة التي لا تعرف تمايزا كل «الأقطار» سواء، على نحو ما تكون «جميع الأبقار سوداء في الليل» حسب المثل الألماني.
وهنا ربما ننصف الشيخ القرضاوي قليلا. ولو أنصف نفسه ربما لتسنى إنصافه أكثر. بعض الانتشار الشيعي يندرج في خطط سياسية منظمة، تقوم بها دولة قومية فتية، لا تظهر ثقافتها الوطنية شيئا من الود للعرب، ثقافة ودولا. ولو ركز الشيخ على أن «الخطر في نشر التشيع أن وراءه دولة لها أهدافها الاستراتيجية، وهي تسعى إلى توظيف الدين والمذهب لتحقيق أهداف التوسع» (حواره المشار إليه سابقا مع «الشرق الأوسط») لكان أكثر إقناعا. فما قد يكون خطيرا ليس تحول سنيين إلى شيعة، ولا اختلافات عقدية قديمة ربما يناسب تناولها في مجامع دينية إسلامية، ولا منافسات مذهبية حديثة… بل هو المخاطر التي قد تصيب السلم الأهلي في بعض البلاد العربية، والاستخدام المحتمل للتشيع أداة للسياسة الخارجية لدولة طموحة، إن وافقت سياستها مصالح الدول العربية المعنية في بعض الأوقات والميادين فهي لا توافقها في أوقات وميادين أخرى، وتتعارض مع مفهوم الدولة السيدة في كل الأوقات. ومن هذا المنظور يتعين أن ينصرف الاهتمام إلى النفوذ الإيراني المتصاعد، في العراق ولبنان بخاصة، أي في بلدان فيها أصلا كتلة شيعية كبيرة أو حتى أكثرية السكان، والأجندة القومية الإيرانية التي يحملها، وليس إلى التحول المحتمل لسنيين إلى شيعة، وهو تحول لا إشكال فيه ومقدر له أن يبقى محدودا حتى لو كان وراءه حملات منظمة. غير أن تحويل الانتباه نحو الأجندة القومية الإيرانية ومفاعيلها المحتملة على استقرار مجتمعاتنا أو على الأوضاع الجيوسياسية في الإقليم لغير مصلحة بلداننا، يحول المسؤولية عن معالجة هذه المفاعيل إلى الدول والسياسيين، ثم الرأي العام الذي لا يشكل رجال الدين مثل الشيخ القرضاوي غير أحد المعبرين عنه.
والصفة القومية للنشاط الإيراني هي ما يفضل ألا يراه البشري وهويدي وأبو المجد بسبب مفهوم يتبنونه للأمة يخفي تفاوتات ومظالم كبرى بين وداخل الدول والمجتمعات، تصمد للمقارنة مع التفاوتات والمظالم التي تعانيها «الأمة» على أيدي أعدائها الذين يهيب الأساتذة بالأمة أن تتوحد في وجههم «كالبنيان المرصوص».
ومن أجل أن رؤية هذا الواقع يتعين الانتقال من «أمة» مصمتة لا تمايز فيها، ومن مقاربة مذهبية وعقدية (الموقف من الصحابة، حديث الفرقة الناجية…) إلى مقاربة سياسية وجيوسياسية، أي إلى العالم الدنيوي، عالم الدول والمجتمعات والسياسات والاستراتيجيات والمصالح. وهذا عالم لا يستطيع الشيخ ولوجه دون أن يجازف بشرعيته، لكن الأساتذة لم يظهروا استعدادا أكبر لولوج هذا العالم ومبارحة تصورهم الرومانسي لأمة لا تعكر صفو وحدتها وقائع الدولة السيدة، وفوارق اللغة والثقافة والذاكرة..، وأوضاع الجغرافيا السياسية والثقافية والاقتصادية … أي كل ما يدخل في الحساب السياسي العقلاني. فهل ثمة اقتران ضروري بين السلبية السياسية والثقافية، أي الممانعة، وبين المثالية في فهم المجتمعات والدول والعلاقات الدولية؟ نرجح ذلك بقوة. إلا أن هذا المزيج الممانع، المشترك بين الشيخ وأخصامه، لا يعد بغير الصحو على كوابيس مدمرة.
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى