الرجل البخّاخ
علي الرز
في المسلسل السوري الرائع الذي عرض في رمضان «بقعة ضوء» حلقة بعنوان «الرجل البخاخ»، تدور حول اضطرار احد الشبان إلى كتابة ما يريد ان يقوله على الجدران من خلال «سبراي» بخاخ بعدما يئس من الاصلاح والتغيير بالكلمة والحوار والتمني والترجي.
كتب الشاب ضد رمي الزبالة امام منزله اثر فشله في اقناع الجيران بأن النظافة من الايمان، ثم كتب على جدار المحل الذي اشترى منه البخاخ ان صاحبه غشاش ونصاب لانه زاد سعر عبوة البخاخ من مئة الى مئتي ليرة لمجرد انه رأى اقبالا عليها، ثم استمرأ الكتابة على كل شيء وحول كل شيء معريا تردي الخدمات الصحية ومنتقدا الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية واوضاع الحريات العامة وسط تأييد منقطع النظير من الناس العاديين الذين رأوا ان «الرجل البخاخ» الملثم «يفش خلقهم» وان الدولة غير قادرة على اكتشافه.
يحتار المسؤول الامني الكبير في ظاهرة «الرجل البخاخ» ويعجز عن ضبطه او اعتقاله، ويستشيط غضبا عندما يستيقظ ذات يوم فيجده كتب كلاما ضده على سيارته المحمية او كتب بالخط العريض على مبنى قيادة الأمن نفسه «حلوا عنا»… وفي كل مرة يسأل المسؤول مساعديه عن نتائج الملاحقة فيجيبون: «بخ سيدي بخ».
تتكركب القيادة، تتكهرب الاجواء، الناس في الساحات العامة تصفق وتهلل لكل كتابة على الجدران ومن «يبخ» ما زال عصيا على الاعتقال. يتفتق ذهن المسؤول الامني الكبير على خطة جهنمية لتغيير اهتمامات الرأي العام ما دام عاجزا عن اعتقال «البخاخ»، مفادها ان تتم فبركة فضيحة امنية لرجال من رحم النظام وان يتم تصويرها والكشف عنها في وسائل الاعلام لاظهار ان النظام شفاف ولا يقبل الخطأ حتى من داخله وانه يحارب بقوة ظواهر الفساد. يقولون لرجل أمن ان يلعب دور المرتشي من احد المخالفين ويتقاضى اموالا من دون ان يقولوا له انهم يصوروه ليجعلوه لاحقا كبش فداء وينشرون صوره في الصحف ويشغلون الرأي العام عن «الرجل البخاخ» للزعم انهم ذهبوا أبعد منه في محاربة ما يشكو منه… لكن «الرجل البخاخ» يستبق العملية ويكتب على الجدران القريبة من مسرح عمليات الرشوة انه كشف الفيلم واحرقه لأن مخرجه سخيف والصور خرجت ركيكة وعليها ختم ادانة النظام.
ان يكتب رجل على مبنى الامن الرئيسي «حلوا عنا» فهذا يعني انه استطاع اختراق مركز يفترض انه غير مخترق، وان يقتحم مسرح عمليات فيلم يفبركه النظام لاشغال الرأي العام بقضايا اخرى فهذا يعني ان النظام يمكن ان يستخدم ممثلين (رغم ان احدهم لم يكن يدري الى اين سيقوده دوره) لكنه لم يعد يقنع الجمهور لا بالمشاركة في الفيلم ولا في حضوره، والأسوأ من ذلك ان احد ابناء هذا الجمهور تدخل وخرب الفيلم قبل ان يبدأ وسط استحسان الناس الذين سئموا معادلة «الأمن والتمثيل». هنا كان لا بد من تغيير خطة المواجهة، حيث تحدث المسؤول الامني الكبير مباشرة عبر التلفزيون مع «الرجل البخاخ» بصوت هادىء عاقل رشيد محب ابوي. اخبره ان الزمن تغير وان الديموقراطية هي العنوان الذي يظلل اي اجتماع معه، وان المواضيع التي يكتب عنها هي المواضيع نفسها التي يشكو منها النظام ويعمل على حلها، وانه ينتظر لقاءه بفارغ الصبر. صدق الرجل وزاره فكان نصيبه ان أخذ الى زنزانة واسعة فيها جدران بيض ومعه مرافقان يلازمانه ليل نهار ابلغه المسؤول الامني الكبير ان مهمتهما الاساسية هي صبغ جدران الزنزانة كل يوم بعد ان يملأها الرجل البخاخ بالشعارات.
لكن الحلقة لم تنته باعتقال «البخاخ»، اذ ظهرت كتابات في السماء تقول ان الناس ستبقى قادرة على التعبير مهما حصل في الارض.
ملاحظة: لا علاقة لقصة «الرجل البخاخ» بما حاول النظام «بخه» اخيرا من خلال اشغال الرأي العام بفيلم اعترافات عناصر من «فتح الاسلام» عن تفجير دمشق. فالقصة فيها حبكة وابداع وصدق تعكس حيوية شارع يرفع شعار «حلوا عنا»، والفيلم يشبه… مخرجه.
(الراي الكويتية)