حمّى الرواية في مصر: استقطاب الدخلاء والنص إلى الهاوية !؟
براهيم فرغلي
فجأة أصبحت الرواية محطا للأنظار، وقِبلة اهتمام أفراد وأشخاص مستدعيةً إياهم من حقول بعيدة: الشعراء ممن لم يُعرفوا بغواية السرد من قبل، كتّاب القصة القصيرة، المغامرون ممن يجدون في سيرتهم الذاتية ملاذا لكتابة نص يتزين باسم رواية، ثم شباب يكتبون للمرة الأولى، وأخيرا وليس آخرا، باحثون متخصصون في المخطوطات، وكتّاب سيناريو، وقبلهم بعض الأطباء، وغيرهم كثر.
لم تكن الروايات قبل فترة وجيزة، على حد زعم الكثير من الناشرين العرب، سوى نصوص تحقق الخسارة، ينشرونها وكأنهم ينعمون على الكتاب بصدقة، لكن من دون أن يتوقفوا عن نشرها. أما الآن فأصبح الناشرون يتسابقون على نشر الروايات، وبات الوافدون إلى هذا الفن المغوي كثرا. فما سبب هذا التحول المدهش إلى فن الرواية؟ وما السر في الجاذبية التي أضحت تستقطب كل هؤلاء؟ هل يعود ذلك الى مرونة الرواية كشكل ادبي يحتمل الكثير من التجارب الفنية، والتجريب ربما، أم يعود إلى الفكرة التجارية التي حققتها نماذج الرواية التجارية الشعبية أخيرا عبر مجموعة الروايات التي أدخلت مصطلح “الأكثر مبيعا” كحقيقة واقعة داخل سوق الأدب العربي؟ أم أنها الجوائز الأدبية العربية والعالمية التي شهدت انتعاشة كبيرة على مدى السنوات القليلة، وتسبب بعضها بالهوس، وبلوثات مدفوعة بإغواء الجائزة من جهة، والنرجسية المريضة من جهة أخرى، لعدد من الكتاب عبر وقائع وثقتها الصحف؟
من المؤكد أن بعض هذه الأسئلة تشير إلى مواضع جذب وغواية مطعمة بنوع من الوجاهة ترتبط الان بفكرة كتابة الرواية، ودليلي، على سبيل المثال ان أحد الكتب لاقى نجاحا تجاريا وهو كتاب “تاكسي” لخالد الخميسي، إذ حفز كاتبه على أن يحاول الترويج لكتابه بوصفه أدبا، على الرغم من أنه يتضمن مجموعة من المقابلات والحوارات مع سائقي سيارات الأجرة في مصر، فبدأ يقول إنه ينتمي الى المقامة الأدبية، وكنت حاضرا في ندوة من الندوات التي ناقشت كتابه وسمعت منه هذا الزعم مما اضطرني الى التدخل والتأكيد له ان كتابه مجرد كتاب اجتماعي ولا علاقة له بالأدب من قريب أو بعيد.
على كل حال فإن السؤال الأهم هو مدى جدة تلك التجارب وما تقدمه الى فن الرواية. ففي العالم العربي، لا يوجد الا قلة من الكتّاب المحترفين، بالمعنى السائد في الغرب، وإنما عادة ما يمتهن الكاتب عملا آخر في الضرورة، لكي ينفق به على حاجاته الأساسية. لكن اللافت أن عددا ممن انضموا أخيرا إلى حقل الكتابة الروائية، يدخلون المجال كأنه موضع وجاهة أدبية ما.
هل أدخلت الطفرة الروائية التي تشهدها الحياة الثقافية منذ فترة جديدا إلى فن الرواية العربي؟ الحقيقة أن هذا السؤال كان من المفترض أن يطرحه نقاد متخصصون، وباحثون أكاديميون في مجال الآداب وعلوم الجمال، وكان المفترض أيضا أن يقدموا إجابات عن نوع هذه النصوص، وعلاقتها بتراث الأدب العربي والنص الروائي على نحو خاص، وما تشكله من قيم جمالية وأسلوبية جديدة في الوقت نفسه، لكن، هذا هو جوهر الأزمة الحقيقي، فالنص الأدبي منذ عقدين تقريبا، يعاني تحوّله جسدا قويا يسير على ساق واحدة هي ساق الإبداع بينما ساق النقد مبتورة، ولا يبدو أن هناك بريق أمل لاستعادتها بأي عملية جراحية علاجية أو تجميلية. على الأقل في الراهن القريب.
وحتى لا يبدو ما أشير إليه مجرد تهويمات مجردة، سأشرع في ضرب أمثلة، منها شيوع روايات خفيفة، كلاسيكية، مشوقة، واقعية، داعبت مشاعر الجمهور في الهم الاجتماعي، وفي التلسين على شخصيات من الواقع، من المسؤولين أو من نماذج بشرية للفاسدين الموجودين الآن وهنا، حققت مبيعات كبيرة عكستها طباعة عدد من الطبعات. وفي منطقة الخليج، والسعودية على نحو خاص، شاعت أيضا روايات عدة، اتسمت بقدرتها على فضح المسكوت عنه في بعض المجتمعات العربية المحافظة، ثم ظهرت موجة أخرى لروايات خفيفة تناقش هموم الشباب باسلوب قريب من أسلوب حياة الشباب وطريقة تواصلهم، منها مثلا رواية “ربع غرام” لعصام يوسف، وسوف أعود إليها بالتفصيل، ثم رواية لكاتب هو حامد عبد الصمد ينشر للمرة الأولى، على حد علمي، إذ لم أسمع بكتب له قبل كتابه هذا، عنوانه “وداعا أيتها السماء”، نموذج لانتهاج السير الذاتية للكتّاب، وهذا ما تسهل معرفته من سيرة الكاتب الذي يعمل محاضرا في ألمانيا، ومن شخص بطل الرواية النازح من عمق الريف المصري إلى ألمانيا أيضا. وعلى الرغم من مواضع عديدة مكتوبة جيدا، الا انها تعتمد في جاذبيتها على كليشيهات مثل المثلية الجنسية والاغتصاب والختان، ثم رواية “عزازيل” ليوسف زيدان، وهو في الأساس محقق في التراث، ومسؤول عن المخطوطات في مكتبة الإسكندرية، لكنه قرر التحول أخيرا إلى الرواية لأسباب غير مفهومة. وهي رواية إشكالية، بسبب موضوعها الجدلي حول اختلافات الطوائف المسيحية، واستعراض المسكوت عنه في تاريخ الكنيسة المصرية.
هناك خلال السنة الأخيرة عدد لافت من النصوص صدرت لكتّاب شباب، بعضها أثار ضجيجا إعلاميا لإعلاميين وأدباء بسبب آراء انطباعية استخدمها فورا هؤلاء الكتّاب الشباب الذين أصبحوا جميعا آلات دعاية جبارة، يلفقون نصوصا، ويضمنون وجود ناشر في ضوء “حمّى الرواية” التي يتسابق الناشرون الى نشرها الآن، بل وإشاعة أقاويل حول ترشيح تلك الروايات لجوائز عالمية، على اعتبار أن “العيار الذي لا يصيب يدوش”، كما نقول في مصر. ومن بين تلك الروايات، مثالا لا حصرا أيضا، رواية باسم “فيرتيجو” لأحمد مراد، والتي صدرت منها طبعة ثانية، وهي رواية مشوقة بمعنى الإيقاع المتتابع، والحكي، لكنها تفتقر إلى لغة أدبية مميزة، وتتوسل بلغة وسيطة بين العامية والفصحى. سأتوقف عند نموذجين فقط من الروايات التي تبدو لي قفزا على جنس الرواية، وهما رواية “عزازيل”، ليوسف زيدان، و”ربع غرام” لعصام السيد، وبالترتيب ذاته. اثارت “عزازيل” منذ صدورها، وربما قبل صدورها، جدالاً إعلاميا واسعا، وكالعادة لا يعود الجدل الى قضايا فنية أو أسلوبية تضمها الرواية، وإنما الى موضوعها الإشكالي الذي يتناول موضوعا مثيرا في تراث الكنيسة القبطية المصرية، وفي التراث المسيحي إجمالا، فحوادث الرواية تدور وقائعها في القرن الرابع الميلادي، وتتوقف عند عام 431، وهو عام انعقاد المجمع الكنسي العالمي في افسس الذي شهد الانشطار الكبير بين الكنائس الأرثوذكسية. تبدأ الرواية عبر الراهب هيبا الذي يصف الوقائع التي مر بها، منذ قرر الرهبنة، منطلقا من مدينة أخميم جنوب مصر، وحتى الأسكندرية، في وقت كانت الديانة المسيحية تلقى تعسفا على يد الرومان. وهذا الجزء يستهلك نصف الرواية تقريبا، وفيه يسرد الراهب هيبا وقائع الأفكار التي كانت تمر بعقله عن أصل العقيدة محيلا الأفكار الخبيثة، أو الأسئلة التي تخرج من العقل، لا العاطفة، على عزازيل، أو الشيطان. كما يصف التجربة الجسدية والحسية والعاطفية التي مر بها مع أوكتافية الوثنية، في الإسكندرية عندما وصل إلى هناك للمرة الأولى، وكيف ان عواطفها انقلبت، على الرغم من عشقها العميق له، إلى الكراهية فور معرفتها بأنه مسيحي، الى الدرجة التي دعتها إلى طرده من بيتها الذي شهد علاقة جسدية شهوانية متلاحقة على مدى الأيام التي سبقت معرفتها لديانته. يتعرف الراهب إلى هيباثيا العالمة الجميلة، التي كانت مضرب المثل في العلم، فقد ذاع صيتها حتى قرر ان يحضر إحدى محاضراتها فيذهل من غزارة علمها الذي لا يتوقف عند اللاهوت والفلسفة وإنما يمتد الى الرياضيات، ويصف الوقائع الدامية التي شهدها يوم مقتلها لاحقا على يد المتشددين المسيحيين من أتباع كيرلّس، وحرقها حية، وهو اليوم نفسه الذي تموت فيه عشيقته السابقة التي خرجت للدفاع عن العالمة الكبيرة، حين علمت بالوقائع العاصفة. ثم يتابع رحلته إلى دمياط، حيث يعمل بداية مع أحد الصيادين، ثم يتعرف إلى أحد الرهبان، ثم ينتقل بعد ثلاثة أشهر إلى سيناء، ويستقر فيها قليلا، في طريقه إلى أورشليم، ثم حلب حيث استقر في أحد الأديرة التي يشير المترجم، أو الراوي الأصلي للنص، الى أن مخطوط يوميات هيبا قد وجدت فيه. وعبر تلك الرحلة، التي تتتابع وقائعها بعد مرحلة الإسكندرية في إيقاع أسرع كثيرا من مرحلة الإسكندرية، يشركنا الراهب هيبا في رحلته الفكرية، كما يتخذ قراره في الترهب والعمل في الطب أيضا، ويعود ليتلقى العماد من جديد، لشكوكه في أنه تلقى سر المعمودية في طفولته. النص، في النهاية، ينحو إلى الواقعية لأنه يستلهم تاريخا ويعيد سرده، بغض النظر عن المناطق الجدلية فيه.
“عزازيل” إذاً، رواية تاريخية، تتقصى وقائع تاريخية وتعيد سردها في قالب روائي. وهذا هو مكمن الأزمة، فلا يوجد بها تقنية من أي نوع، كما أنها تمتلئ بأفكار يوردها الراوي، أحيانا في حوارات تجمعه بالرهبان، أو عبر يومياته.
مثل هذه الرواية لا بد أن تستدعي رواية مثل “اسم الوردة” لامبرتو إيكو على مستوى المضمون، لكن شتان بين المستوى الفني للعملين، فبينما تفيض “اسم الوردة” بالتفاصيل الدقيقة، والوصف، وبالسرد الذي ينتهج أسلوب التشويق البوليسي، والتعبير عن حيرة الراوي عبر المتاهات التي كان يواجهها داخل الدير، ومكتبته، وبالغموض الذي يحيط بشخصيات الرهبان، ورجال الدين في ذلك الدير، وغير ذلك، فإن “عزازيل”، على عكس ذلك، وعلى طول الخط، تفتقر الى الأسلوب الروائي، وتقع في أخطاء ساذجة من تلك التي تتصور الرواية وعاء للأفكار، تنطق بها الشخصيات، بلا مبرر درامي، كما تبتعد تماما عن أي تقنيات سردية جديدة، وإن لم تعدم اللغة. فلغتها جيدة، وسلسة، على رغم أنها تبدو بعيدة عن لغة العصر الذي تعبر عنه. لكن المفارقة بالنسبة اليّ هي هذا الاختلاف في مستوى اللغة بين هذه الرواية والرواية السابقة التي نشرها يوسف زيدان بعنوان “ظل الأفعى”، والتي لم أستطع مواصلة قراءتها بسبب لغتها المرتبكة، الخالية من البلاغة والجماليات. كيف عدّل زيدان في لغتة الرواية بهذا الشكل؟! هذا سؤال محيّر، لأن ذهنية الكاتب وأسلوبه، عادة لا يتغيران في مثل هذا الزمن القياسي، الا اذا كان اعتمد لغة المخطوطات التي تناولت تلك الفترة موضوعاً للرواية على نحو ما. “عزازيل”، نموذج لانتهاز الفن الروائي، من أجل إثارة الجدال، والضجيج الإعلامي، من دون اضافة اي جديد الى النص الروائي.
النص الثاني الذي يجسد نموذجا عصريا للرواية المكتوبة بهدف دعائي لا يهتم بالتقنيات والأسلوب أو اللغة، هي “ربع غرام” لعصام السيد، والتي طُبعت منها تسع طبعات، وهي رواية ضخمة يزيد عدد صفحاتها على 600 صفحة، لكن يمكن قراءتها بسرعة، لأن لغتها لغة بسيطة تبدأ على النحو الآتي: “جئت للحياة في فترة يطلق عليها: الزمن الجميل. عائلتي معروف عنها أنها عائلة عريقة، مثقفة، متحضرة، مستواها المادي مرتفع إلى حد ما. الأب مهندس، انتخب أكثر من مرة عضوا في مجلس الأمة، “مجلس الشعب حاليا”، الأم أستاذة جامعية تدرّس التاريخ، حقا إنها مربية أجيال”. هذه اللغة التلغرافية البسيطة هي لغة الرواية من أولها إلى منتهاها، وموضوعها، كما يبدو من العنوان هو تعاطي المخدرات، وخصوصا في الطبقات الوسطى العليا في المجتمع المصري، خلال فترة من الفترات، وكيف أن مرحلة الشباب أو المراهقة إذا عانت الفراغ وضياع الأفق والطموح قد تقود إلى ضلالات. يتضمن النص وصفا دقيقا للمخدرات وأنواعها وخصوصاً الهيرويين والكوكايين، وما يشعر به متعاطيهما في البداية من الأحاسيس والهلوسات والمتاعب الجسدية، وصولا الى الإدمان. ويصف العلاقات بين الشباب والفتيات على هامش المخدر، والحياة التي تنحو الى العبث تدريجيا، وتتحول إلى أن يكون المخدر في المركز، بينما تبدأ كل عناصر الحياة في الاتجاه نحو الهامش. وفي النص ضوء على المفارقات، والكوارث الاجتماعية التي يتسبب بها إدمان المخدر ومحاولة توفير النقود لشرائها بأي طريقة، حتى لو اقتضى الأمر سرقة خاتم الزواج لإحدى بنات العائلة في يوم زفافها، وطبيعة العلاقات بين المتعاطين، وتجارب الموت التي يتعرضون لها بسبب الجرعات الزائدة، وما شابه ذلك من تفاصيل.
الرواية التي يعلن غلافها أنها “رواية واقعية” تبدو في النهاية كرسالة وعظية ضد المخدرات يختمها مؤلفها بعدد من الوثائق الخاصة بمصحات معالجة الإدمان، ووسائل الالتحاق ببرنامج المدمنين أو ما يسمّى زمالة المدمنين المجهولين. أي أنها نص واقعي، يصل في النهاية إلى وعظ مباشر يقول للقارئ أن ذلك المصير المفجع هو مصير متعاطي
المخدرات.لكن الحقيقة أن الرواية ذات مستوى سردي بسيط من بدايتها إلى نهايتها، ولا تتمتع بأي سمة فنية أسلوبية، أو تقنية.
هذان نموذجان من أبرز نماذج القفز على الرواية الذي تمور به الحياة الأدبية الراهنة في مصر، والتي لا تزال تفرز الكثير من نماذج شبيهة. وفي غياب النقاد، أصبحت المسألة أكثر سهولة. لكن إلى متى يستمر هذا الجو المشوش، الذي تختلط فيه كل القيم، والذي تحاول فيه دور النشر، إسباغ القيمة على الكتب التجارية أيا يكن موضوعها؟ ليست الإجابة سهلة، لكن السؤال الأهم بالفعل هو متى يستفيق النقاد من غفوتهم، ومتى يمكن النصوص الروائية العربية أن تنافس النصوص الغربية التي تفاجئنا يوميا؟ صحيح أن كثيراً مما يصدر في المكتبات العربية يفاجئنا أيضا، لكن، شتان بين مفاجآت سعيدة، وصدمات مذهلة!
القاهرة