صفحات ثقافية

مثقفون جزائريون وعرب تضامنوا مع الكاتب الذي جدّد المكتبة الوطنية… أمين الزاوي: أقالوني لأنني ضد ثقافة التهريج في الجزائر… والتذرع بمحاضرة أدونيس مسرحية مكشوفة

null
الجزائر – بشير مفتي
لم يلق كاتب جزائري تولى إدارة المكتبة الوطنية الجزائرية تضامناً كبيراً كالتضامن الذي لقيه الروائي أمين الزاوي بعد إقالته من منصبه في المؤسسة. وقد شهدت المكتبة لقاءات وندوات جزائرية وعربية ودولية كثيرة خلال فترة إدارته إياها. ويجمع معظم الكتّاب والمثقفين على أن ما حدث، وفي السياق الذي حدث فيه، لا يعتبر فقط ظلماً للروائي أمين الزاوي لكنه اعتداء على حرية الفكر والتعبير في بلد وقع الكثير من كتابه في التسعينات ضحايا للعنف المجنون الذي قضى على أكثر من مئة كاتب وصحافي وأستاذ جامعي. ولعل هذا ما يجعل إقالة الروائي الذي فتح المكتبة الوطنية أمام النقاش الفكري الحر عملاً تعسفياً. وقد كانت المحاضرة التي ألقاها الشاعر أدونيس الشرارة التي أشعلت نار المعركة. وقد أصدرت شخصيات ثقافية وسياسية على رأسهم المجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد بياناً حاداً ضد «قطع الألسنة» ومن أجل «جزائر ديموقراطية وحرة»، وشجبت فيه إقالة الزاوي وطالبت رئيس الجمهورية الجزائرية في إعادة النظر بقرار الإقالة. ملابسات هذه القضية يتناولها هذا الحوار الذي يتحدث فيه الروائي عن خلفياتها والأطراف المتسببين بها وتفاعلات الكتاب الجزائريين والعرب معها وعن الأفق الثقافي في جزائر أضحت حرية الفكر فيها مهدّدة كما كانت في الأعوام السوداء السابقة.
> جاءت إقالتك من المكتبة الوطنية مفاجئة لغالبية المثقفين في الجزائر والعالم العربي خصوصاً بعد النشاطات الكبيرة التي أنجزتها خلال الأعوام الخمسة التي كنت على رأسها؟
– المكتبة الوطنية الجزائرية لم تكن فقط مركز إشعاع ثقافي عربي ودولي إنما أردت أيضاً تحويلها إلى مخبر حقيقي لمقاومة ثقافة الاستهلاك والفولكلوروية المنحطة، مقاومة مؤسسة على الكتاب والمطالعة.
لقد حرصت منذ جئت إلى رئاسة المكتبة الوطنية الجزائرية على أن يكون الكتاب هو القاطرة التي تسحب الثقافة برمتها، وأن ذلك لن يتحقق إلا بخلق شبكة من ملحقات المكتبة الوطنية. وقد بدأت ذلك بإنشاء أول ملحقة للمكتبة الوطنية وذلك قبل أربع سنوات. وقد أطلقنا عليها اسم جاك بيرك وقد دشنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وقد منحتنا عائلة بيرك مكتبته الخاصة كي تكون النواة الأولى لهذه الملحقة، وهي كنز من كنوز الخزانات الخاصة. وقد أصبحت هذه الملحقة مزار كثير من الباحثين حول جاك بيرك وحول الاستشراق بصفة عامة. ثم بدأ هذا المشروع يتوسع بإطلاق ملحقات أخرى على المستوى الوطني إلى أن أمرت وزيرة الثقافة بتوقيف المشروع وتحويل هذه الملحقات إلى مكتبات للمطالعة العمومية، مستقلة عن المكتبة الوطنية الجزائرية وهي محاولة لضرب المشروع برمته، وبالتالي ضرب ثقافة الكتاب التي رفعنا شعاراً نبيلاً لها هو « من أجل مليون قارئ في 2010». تم اغتيال ملحقات المكتبة الوطنية بحجة الخوف من أن تتحول المكتبة الوطنية إلى سلطة حقيقية للكتاب في البلاد. وهو ما يزعج فلكلوريي الثقافة. كما أنني حرصت على تحويل المكتبة الوطنية إلى أكبر جبهة ثقافية من الكتاب والفنانين والمثقفين من دون إقصاء أو تهميش، حيث سعيت إلى تأسيس حوار الاحترام والاستماع والدفاع عن الاختلاف والمختلف.
لم تكن المكتبة الوطنية الجزائرية فضاء جزائرياً فقط إنما أضحت حيزاً للحوار الثقافي والمعرفي عربياً ودولياً.
لكن المكتبة الوطنية الجزائرية تظل هي المؤسسة الوحيدة التي اهتمت باللغة والآداب الأمازيغية، بعد أن تمت «دسترتها» كلغة وطنية، فقد أسسنا خزانة كاملة للغة الأمازيغية وحول الحضارة والتاريخ الأمازيغيين، فاقت الأربعين ألف عنوان، وقد أضحت المكتبة الوطنية الجزائرية أهم مركز إفريقي وعربي للتوثيق حول هذه الثقافة الوطنية.
> لكن المكتبة لم تنحصر في النشاطات بل تخطتها الى التأسيس الثقافي؟
– أريد أن أقول إن النشاطات الثقافية لم تكن الهم الوحيد للمكتبة الوطنية بل كانت هذه المؤسسة فضاء للبحث استطعنا أن نحولها وجهة للباحثين الذين كانوا يجيئونها من أكثر من مئة وخمسين جنسية. كما أنها كانت تنشر البيبليوغرافيا الوطنية بانتظام، وهي وثيقة حساسة لمعرفة واقع الكتاب في الجزائر، وكنا نوزعها على كل مراكز البحث العالمية. وخلقنا شبكة من التبادل في مجال الكتاب، فأوصلنا الكتاب الجزائري إلى البلدان العربية والصين والولايات المتحدة الأميركية والهند وجنوب أفريقيا. أوصلناه إلى الكثير من المكتبات الوطنية في العالم وإلى مثيلاتها الجامعية ومراكز البحث العالمية.
وباعتبار أن المكتبة الوطنية من مهماتها أيضاً ترقية الكتاب والقراءة فقد وضعنا خطة للنهوض بالمطالعة في المدن الصغيرة والقرى التي لا مكتبات فيها، وذلك عن طريق قافلة من «المكتبات المتنقلة» التي تحمل في كل خرجة أكثر من أربعين ألف كتاب. وقد جابت هذه القافلة من المكتبات المتنقلة مناطق الجزائر، وفي 2007 وصلنا إلى أكثر من سبع مئة بلدة. كل هذا كان يقلق أعداء الثقافة وأعداء الكتاب الذين لا يريدون الخير ولا الانفتاح للبلاد والذين يريدون أن تكون الثقافة تهريجاً وفلكلوراً.
> هناك من يعيد إقالتك إلى محاضرة الشاعر أدونيس التي وصفتها وزيرة الثقافة بـ «الانزلاق الخطير». هل تعتقد أنها كانت نقداً عقائدياً بالفعل؟
– كان أدونيس واضحاً في محاضرته، فقد أكد في البداية مسألة منهجية في محاضرته، وهي التمييز ما بين الإسلام كدين مؤسس على الوحي والتيارات السياسية التي تستثمر في عالم الإسلام. والأفكار التي عرضها أدونيس في محاضرته حول تخلف العرب وغياب الديمقراطية وأسباب عدم دخول العرب عصر الحداثة هي أفكاره الموجودة في كثير من كتبه ومقالاته. والذين هاجموا محاضرة أدونيس لم يحضروها. وشخصياً، وبعد صدور بيان جمعية العلماء المسلمين بلهجة تكفيرية حادة والموقّع من رئيسها الشيخ عبدالرحمان شيبان، أرسلت الى الشيخ نسخة من المحاضرة وطلبت منه أن ينشرها على صفحات جريدة الجمعية «البصائر» حتى يعرف الرأي العام وفي شكل حقيقي مضمون المحاضرة ولكن للأسف لم يتجرأ الشيخ شيبان على نشر هذه المحاضرة. وأتحداهم جميعاً إن كان أدونيس قد هاجم الإسلام كدين. ومرة أخرى أطلب منهم أن يتحلوا بالديموقراطية والشجاعة وينشروا المحاضرة.
الشاعر أدونيس مفكر وأستاذ جامعي وباحث وهو ليس غريباً عن مناقشة قضايا الفكر الإسلامي بل يقوم بذلك من على منابر الجامعات من الخليج إلى المحيط وفي أنحاء العالم.
> كيف بدأت خلافاتك مع وزيرة الثقافة؟ هل تعتقد أنها نجحت الآن في معركتها ضدّك أم إن إقالتك دليل على فشل السياسة الثقافية برمتها؟
– أعتقد أنني كنت مزعجاً للوزيرة منذ أكثر من أربع سنوات، فأنا لم أجئ إلى المكتبة الوطنية من أجل المنصب، أنا جئت من أجل الكتاب والكاتب والدفاع عن حق المواطن في المطالعة. فأنا لي شخصيتي في التسيير، وهذا لا يعني مطلقاً بأنني على حق دائماً، ورؤيتي للثقافة تختلف عن رؤية الوزيرة. فشخصياً كنت أرى أولويات في الفعل الثقافي، وعلى رأس ذلك ترقية الكتاب والمكتبات، وقد أعلنت مباشرة بعد مجيئي إلى المكتبة الوطنية في 15 أيلول (سبتمبر) يوماً وطنياً للكتاب وطالبت بترسيمه ولكن للأسف لم يسمع ندائي هذا، وظللنا نحتفل بهذا اليوم من دون ترسيم. وقد قلت للوزيرة مرات: هناك يوم للفنان وهذا شيء إيجابي وشكراً لوزير الثقافة والاتصال الأسبق حمراوي حبيب شوقي الذي اقترحه وسعى إلى ترسيمه، فكان له ذلك. أنا ضد ثقافة التهريج والفولكلور. لم أتلق أية رسالة من الوزيرة منذ جئت إلى المكتبة الوطنية فيها ما يشير إلى تحفظها عما كنت أقوم به. ولكنها كانت تصطادني في أصغر الهفوات فتكتب عشرات التقارير التي سيكشف عنها في يوم قريب. ولعل الذي أشعل نار ثقافة الكراهية ضدي لدي الوزيرة هو بعض الصحف التي كانت تقدم اسمي كبديل لها في كل حديث عن تغيير حكومي، وهو ما جعلها تقسم أن تخلق لي مشكلات بكل السبل والوسائل أمام مساعديها الذين كانوا يصبون الزيت على النار أكثر فأكثر، للتقرب منها والاستفادة من ريع الجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2007. كانت منذ أربع سنوات تريد رأسي، وها هي أكلته، فمبروك عليها. وقد تسرب من محيطها أنها زغردت ووعدت بحفلة حين تأكدت من قرار تنحيتي من مصادر الرئاسة.
> التضامن الكبير الذي عرفته بعد الإقالة يدل على أن المعركة في الجزائر ما زالت مستمرة؟
– أولاً أنا أشكر كل الذين تضامنوا معي، وقبل كل شيء مع الثقافة المتعددة والمعاصرة في بلادي، من كتاب ومثقفين وفنانين وقراء ومواطنين بسطاء من الجزائر ومن مثقفين عرب وأجانب. واعتبر ذلك عربون حبهم للجزائر وللثقافة الجزائرية وحلمهم فيها وخوفهم عليها. أعتقد أن إقالتي وضحت أشياء كانت متخفية عن عيون المثقفين: أولها أن وزارة الثقافة تخاف التعامل مع المثقفين العضويين وتريد بالمقابل الاعتماد على أشباه الإداريين في تسيير أمور تاريخية وخطيرة في مرحلة حساسة من تاريخ البناء وإعادة البناء الثقافي. إن وزارة الثقافة لا تريد سوى مثقفي «بني وي وي» أي المثقفين الأذلاء» في ساحتها وفي قاموسها. كما أن التنحية فتحت النقاش حول مسائل جادة بعيداً عن التشخيص في مشكلات جوهرية كاستقلالية المثقف، علاقة المثقف بالسلطة والدين والإبداع، العلمانية في العالم العربي، سقف الديموقراطية في العالم العربي بعد صيغ التعدديات الموجودة في النظم السياسية القائمة. وكل هذا التضامن الكبير جزائرياً وعربياً ودولياً يدل على أن المثقفين كانت لهم أحلام من خلال المشروع الثقافي الذي كانت تقوده المكتبة الوطنية، وقد أجهض. وأعتقد أن الثقافة العميقة نضال مستمر، وأنا متأكد أن أيام السابحين في الماء العكر على نهايتها.
> هل تعتقد أن التهجم على أدونيس اليوم هو نجاح للقوى التكفيرية في الجزائر؟
– لا يشرّف الجزائر هذا التكفير وهذا التخوين الذي ألصق بالشاعر أدونيس في بلاد أبوليوس وعبدالحميد ابن باديس والبشير الإبراهيمي ومحمد ديب ومصطفى الأشرف ومالك بن نبي وكاتب ياسين ومفدي زكريا وابو اليقظان و…
إننا لا نطلب من الدولة أن تكون طرفاً في الصراع ولكن أن تكون حكماً يحافظ على التعدد ويحمي حرية التفكير والرأي. وأن تصطف وزيرة كانت بالأمس القريب من المدافعات عن العلمانية والتعددية واحترام الرأي وحقوق الإنسان، إلى جانب رسل الفكر الإلغائي التكفيري التخويني فهذه كارثة كبرى. هذا موقف مرعب ومخيف يهدد مستقبل التعددية الثقافية والفكرية في بلادي ويدعو إلى إعادة قراءة الحقل السياسي الثقافي الجزائري بكل العناصر اللاعبة فيه.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى