صفحات ثقافية

سمر يزبك عن غادة السمان: كاتبة تتحول من امرأة إلى نورس

null
ياسين رفاعية
من الكتب الدراسية العديدة التي كتبت عن الكاتبة غادة السمان، يبقى لهذا الكتاب طعمه الخاص، لأن كاتبته روائية سورية تصدرت المشهد الروائي العربي بعد صدور روايتها الجديدة عن دار الآداب بعنوان «رائحة القرفة» وهي السيدة سمر يزبك. وعنوان كتابها: (غادة السمان.. المهنة كاتبة متمردة). الصادر في سلسلة اعلام للأدب السوري، حيث تناولت يزبك تجربة غادة السمان في القصة والرواية والشعر وفن المقالة في أربعة فصول مكثفة، الأول: قراءات سيرية ونقدية، حوارات، دراسات في أدب غادة السمان، مختارات من أدبها.
وتستشرف سمر يزبك في مقدمتها تجربة زميلتها التي سبقتها في الكتابة نصف قرن مشيرة الى أول اتصال بينهما: «رن جرس الهاتف. احبت سمعت صوتاً طفولياً ممزوجاً ببحة غريبة كان الرقم مجهولاً ونظرت ثانية في شاشة الموبايل. وقلت: لا بد ان طفلة اخطأت الرقم. ولكن الصوت ناداني باسمي وقال: انا غادة السمان. صمتت للحظة وقلت من؟ كأن سؤالي أوحى بعدم معرفة الاسم، حل صمت لبرهة، وعاد الصوت ليقول: أنا التي تعيشين معها هذه الأيام، فأدركت ان المتصلة هي الكاتبة التي أحضر كتاباً عنها، فصرخت: يا .. أهلاً..».
نلاحظ ان هذا المقطع، يشبه مدخلاً لرواية، فسمر يزبك ـ كما عرفتها ـ روائية هي الأخرى.
وتذكر سمر ان هذا الاتصال هو الأول لها مع غادة السمان وانها لم تكن علاقتها بغادة وادبها علاقة افتنان كاتبة من جيل مختلف بأدب كاتبة رائدة في الادب السوري، كان الأمر مختلفاً افتتان سمر بغادة مرده الى غنى حياتها وتجاربها الشخصية، وقدرتها على توليد ذاتها في كل مرحلة تعيشها من حياتها. وقد لاحقت سمر هذه الحياة عبر نصها، وبعض الناس المحيطين بها والذين كانوا على علاقة بعالمها. وفتشت عنها بين مفرداتها منذ ان بدأت واكتشفت المعنى الوجودي لحقيقة ما عاشته غادة السمان دائماً.
مهاتفات
وتروي سمر يزبك بعض المهاتفات التي حصلت بينهما، مع انهما لم تلتقيا معاً الى الآن: «في كل اتصال كانت تدهشني بعفويتها وانطلاقها، ورغبتها المستميتة في عيش الحياة، وكأنها لم تطأ ارضاً، ولم تكتشف بلاداً ولم تعرف عن الحياة ما يجعلها تكتفي. تقول لي انها ما تزال ترغب بالتسكع، وتحمل حقيبتها وتمضي، مثل اي مغامرة تعتقد ان الحياة تختبئ خلف جدار مجهول تنبش فيما تراه، وتحلم بتجاوز المستحيل، وليس غريباً انها كانت عندما تركت دمشق الى بيروت تقود الدراجات النارية والطائرات وتفعل كل ما هو خارج المألوف. ليس غريباً عليها فهي منذ طفولتها تحاول ابرام صفقة مع الحياة تجعل من التمرد فضيلة للعيش. وربما نجحت في ذلك. على ان تلك الصفقة لم تعطها اسباباً للوجود اقل أهمية من السبب الذي تعتقد انها عاشت لأجله، التحليق بعيداً والكتابة فقط. لا شيء غير الكتابة يستطيع ان يصنعنا من جديد بعد ان نطير معاً بعيداً عن الوطن.
وتحدثها سمر عن الكتاب الذي تؤلفه عنها وان كانت تريد الاطلاع عليه قبل نشره. فتجيب غادة السمان: يحق لك ان تنشري عني ما تريدين وهي لا تصادر أحداً. فقط، عندما يصدر الكتاب، ستكون مسرورة لو ارسلت لها نسخة منه. وتجيب سمر: ان الكتاب سيكون بمثابة الاحتفاء بها، مع عدد من رواد الادب السوري. وهو قيمة تعريفية للجيل الجديد. اكثر منه ايفاءها حقها. ولو اني اريد ان اكتب عنها كتاباً لاحتجت الى سنوات طويلة في البحث.
ومن يعرف غادة السمان، كم الضحك بالنسبة لها واجهة لحزنها، انها تستر وجهها بألف صورة كي لا يكتشف المرء حزنها الداخلي حتى وان بدت في ذروة سعادتها.
تقول سمر يزبك عن غادة: تضحك دائماً، وصوتها يرتجف ويهتز. وتغلق السماعة لتفاجئني في اتصال جديد. وقد كانت كريمة في ذلك. لم تبخل علي بصوتها وحضورها، وكانت حريصة على عدم ازعاجي وترتيب ما أفعله، وفي إحدى المرات عندما أرسلت فاكساً أعبر فيه عن خشيتي من أمر ما أفهمه من رسالتها الي، اتصلت فوراً وقالت: انت تلحقين بي الى باريس، ترسلين لي اشارات ما. قلت لها مازحة: أرسلت نفسي لاطمئن على ما نريد انجازه، ضحكت وقالت: اطمئني أنت وأنا بسلام.
سيرة
تروي سمر يزبك جزءاً من سيرة غادة السمان، وكان ذلك ضرورياً من أجل ان يأخذ موضوع هذا الكتاب مداه. وهذه السيرة باتت معروفة… وهذا ما شجع يزبك على ان تفكر في ان تجعل من هذه السيرة مسلسلاً تلفزيونياً، فحياة غادة غنية جداً، بَدْءاً من فشل زواجها الاول، ثم فشل مشروع زواج مع الصحافي الشهير ياسر هواري. الى قصتها مع الراحل الفلسطيني غسان كنفاني وحبه لها، ونشرها رسائله اليها، التي، بسببها هاجمها عدد كبير من النقاد والصحافيين ومن بينهم ناصر النشاشيبي في صحيفته التي كانت تصدر في القدس، إذ نشر نماذج من رسائل غادة اليه، كرد فعل على نشر رسائل غسان الى غادة… وهذه معلومة قليل من يعرفها، إذ نشر النشاشيبي تلك الرسائل بخط يد غادة، حتى لا ينكرها أحد. المهم ان فكرة المسلسل التي تحرص سمر يزبك على تحقيقها لم تشجع غادة السمان حتى الآن (ليكن ذلك بعد موتي) لماذا؟ جميل ان يرى المرء شخصيته كما فهمها الآخرون. فهي عكس النرجسية التي نحاول ان نتستر وراءها.
وتذكر، هنا سمر يزبك دعوة غادة السمان الشديدة الى تحرير المرأة والدفاع عن حريتها. فتذكر ان غادة وضعت دستوراً خاصاً بحرية النساء سنة 1962، وقامت بكل جرأة بنشره. وتحدثت فيه عن أوضاع المرأة الصعبة وطالبت فيه بتغيير حياة النساء، ودعتهن الى عدم استعذاب القيد، وحضتهن على التزام الحرية المسؤولة، التي تجعل منهن كائنات ذات مرئية موازية للرجل. ولم تكن غادة من تلك النساء الحاقدات على الرجل. واللواتي ينظرن الى الرجل على انه عدوهن. وكانت ترى ان الفرق بين المرأة والرجل، هو فرق كيفي لا كمي وانسانيتهما واحدة، لذلك بدا انها خرجت من تجربة طلاقها بنظرة اكثر شمولية للحياة. ولم تأسرها تجربتها مع الرجل الذي أحبته بمحدودية التجربة الذاتية، تقول غادة في ذلك الدستور: »فلنصل من اجل الجارية التي تعشق أصفادها، لسنا ندري في اي كهف اعتادت ان تجلد، لكننا نسمع نحيب استسلامها، رمينا لها الحياة فبصقتها، صهرنا لها السلاسل، فعادت تجد لها لسيد ما، كي يقيدها من جديد، لأنها تخاف ان تحيا، ولأنها أجبن من ان تحمل مسؤولية الحياة«.
الحفر
اما عن الحفر المسكوت عنه فتجد سمر يزبك ان أهمية رحلة غادة تنبع من حفاظها على هذا الوعي والحفر في المكان نفسه لتعميق موقفها الرافض ومحاولة تجاوز الوضع العربي. ووضع الحريات بشكل عام (…) وعندما تتناول غادة السمان حياتها في الرواية، فإن السرد يأتي بسهولة موضوعات الحديث اليومي، وكتابة المذكرات، إلا انها استطاعت ان تربط تلك اليوميات وتحويلها الى نص روائي كما فعلت في روايتها »فسيفساء دمشقية« حيث تحدثت فيها غادة عن طفولتها وشبابها في مدينة دمشق قبل ان تغادرها نهائياً، دون عودة. والقارئ المعزول عن حياة غادة الشخصية، سيتراءى له وهو ينتقل من صفحة الى أخرى. ان هذا النص مكتوب على شكل مذكرات شخصية، تختبئ خلفها شخصيات تحتمي من النسيان عبر النص، فغادة الطفلة التي تحدثت بلسان زين، كانت موجودة بكثافة من خلال المكان والبيئة الدمشقية. والعائلة، ولم تتوار خلف ستار، ومن ثم غادة الشابة التي انخرطت في الحياة الاجتماعية بعد موت الأم. ولم تجد نفسها في حياتها مع عائلة والدها إلا أكثر غربة من ذي قبل، لأن مفهومها عن فكرة العيش الإنساني، كان مرتبطاً بقيمة الحرية التي افتقدتها في مجتمعها الدمشقي المحافظ.
أما عن المسكوت عنه في أدب غادة فتقول عنه سمر يزبك: باعتقادي أن غادة بدخولها المناطق المحرمة »منطقة المسكوت عنه في النص العربي« في زمن مبكر، كانت رائدة بالنسبة لغيرها من الكاتبات بامتلاكها حريتها الشخصية، وقوة حضورها الحياتي. وثراء التجربة العميقة لما عاشته وعانته، وهي كانت حريصة على هذا الدور أكثر من حرصها على توسيع قاموسها من دون أن نقول إنها لا تمتلك قاموسها الخاص. تثبت غادة بدمها ومن الوريد الى الوريد وعاشت من أجل أن تكتب الحياة، وقد فعلت.
(…) لا تخفي غادة نفسها ـ تقول سحر يزبك ـ فقد كانت أكثر حرية من الرجال أنفسهم، تنسى أنها تعيش ضمن مجتمع محافظ لن يرحمها. وتريد أن تعلم الآخرين معنى الحرية من دمها وأعصابها وعذاباتها، تتجاهل أن الأوساط الثقافية وليدة مجتمعات متخلفة، وتشبهها بطريقة ما، لذلك تلاحقها اللعنات. ويقف في طريقها الكثير من الأعداء سواء من الكتاب والكاتبات، أو من الناس العاديين، الذين وجدوا في جرأة غادة حبها للوضوح والشمس، تحدياً لازدواجيتهم وخوفهم من إعلان ما يفعلونه في السر. ولم تكتف غادة فقط من هذه العلاقات بمعرفة الرجال الذين أحبتهم، بل كانت علاقتها بهم علاقة انتماء وتواصل مع أفكارهم، ومشاريعهم، مثلما انتمى بعضهم لحريتها، وما يزالون يذكرون غادة رغم خلافهم معها كواحدة من النساء المميزات اللواتي عرفوها، وكانت مستقلة الى درجة يصعب معها الإمساك بها.
(…) في شعرها كانت أكثر تمرداً، يفيض شعرها بأمواج من الأنوثة المتفجرة التي تعلن الوجود والقوة، في كل لحظة من الزمن عبر لغة شديدة الحساسية:
»أنا المرأة التي غربتها المراكب
وخذلتها حين لم يبق لها من الأشرعة غير جناحيها
تعلمت كيف تتحول من امرأة الى نورس«.
هكذا.. هكذا.. غادة السمان امرأة موضوع وثقافة ومنفى ووطن وفي كل مرة توحي بالكتابة عنها الكثير الكثير.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى