صفحات ثقافية

غونكور لرحيمي

null
ورونودو لمونينمبو: عام الفرنكفونيين
اسكندر حبش
إذا صحت التوقعات وفاز الكاتب »الأفغاني ـ الفرنسي« عتيق رحيمي بجائزة »غونكور« لهذا العام، عن روايته »سينغيه صابور« (»حجر الصبر«)، الصادرة عن منشورات (P.O.L). فهذا يجعلنا نتوقف عنده، لا لنتساءل عن قيمة الجوائز الأدبية، بل من حيث ما يمثله الكاتب ثقافيا وحتى سياسيا. لكن قبلا، لنقل إن »المعركة« كسبها الكاتب بسبعة أصوات مقابل ثلاثة لميشال لوبريس عن كتابه »كلّ جمال العالم«. ولوبريس هو مؤسس تظاهرة »رحالة مدهشون« الذي يدعو كل عام كتّابا من جميع أنحاء العالم، يجمعهم شيء واحد: حبهم للسفر، من هنا يبدو أدبهم وكأنه نوع من أدب الرحلات.
في أي حال، هي معركة، أي جاء اختيار رحيمي وكأنه فضّ لنزاع أدبي بين هيئة التحكيم، إذ من المعروف أن أوليفييه رولان كان من أبرز المرشحين هذا العام، لكنه استُبعد من اللائحة الأخيرة. لذلك كانت الدلالات تشير إلى جان ماري بلا دو روبليس ليفوز عن كتابه »هنا، حيث النمور في عرينها«. لكن فوز بلا دو روبليس بجائزة »ميدسيس«، منذ أيام، جعل الاختيار يذهب إلى اسم وسطي بعيدا عن الاثنين. الأمر الثاني الذي لا بد من أن نتوقف عنده، سيطرة منشورات »غاليمار« على الجوائز في السنوات الثلاث الأخيرة. فبعد »العطوفات« لجوناثان ليتل عام ،٢٠٠٦ وبعد »أغنية ألاباما« لجيل لوروا في العام الماضي (ميركور دو فرانس، وهي دار تابعة لغاليمار) نجدنا اليوم مع دار (P.O.L) التابعة بدورها للدار عينها. أمر ثالث، لا بدّ من أن نتوقف عنده، وهو سيطرة الفرنكوفونيين على الجوائز الأدبية الفرنسية، بمختلف فروعها، منذ فترة لا بأس بها. وكأن لجان التحكيم تؤكد بدورها على البيان الذي صدر منذ فترة حول ما سمي بأدب العالم، والذي طالب بالإفساح في المجال أمام هذا الأدب المكتوب بالفرنسية، والذي يكتب اليوم في مختلف أرجاء العالم. هذا البيان لا بد من أن يقودنا أيضا إلى النظر لأدب لوكليزيو (حائز نوبل للآداب هذا العام) من هذه الزاوية، إذ إن العديد من النقّاد الفرنسيين يعتبرون لوكليزيو واحدا من أهمّ الكُتّاب الفرنكوفونيين. ومن دون شك، أتت كل جوائز الخريف الفرنسية في ظل نوبل التي حازها كاتب فرنسي.
سيرة
وفي العودة إلى الفائز، ولد عنيق رحيمي في أفغانستان عام .١٩٦٢ نشأ وترعرع في عائلة »ليبرالية ومتغربنة«، وفق ما يقوله عن نفسه. تابع دروسه في الليسيه الفرنسية في كابول. في عام ،١٩٧٣ وإثر الانقلاب العسكري، سجن والده (وكان قاضي تحقيق) ـ كذلك عمّه ـ بعد اتهامه بأنه فوضوي. حادثة كانت لها الأثر الكبير في تحوله إلى الكتابة، إذ بدأ يكتب من حينها، وبخاصة أنه كان »مهووساً« بالأدب والسينما الفرنسيتين«.
بعد ثلاث سنوات من السجن، غادرت العائلة أفغانستان إلى الهند، وقد التحق بها عتيق بعد الانقلاب الشيوعي. بقي هناك لمدة ستة أشهر، لكنه لم يستطع تجديد تأشيرته، فاضطر إلى العودة إلى أفغانستان حيث عمل ما بين ١٩٨٠ و١٩٨١ في المناجم، وهو الإطار الذي دارت فيه أحداث روايته الأولى »أرض ورماد« (صدرت بترجمة عربية عن دار الآداب في بيروت).
في عام ،١٩٨٤ وبعدما تدهورت الحالة في بلاده، قرر المغادرة فذهب بداية إلى باكسـتان، ومن ثم إلى فرنسا حيث التحق بالجامعة ليحصل على دكتوراه بالاتصالات البصرية. وبعد روايته الأولى، التي حولها بنفسه لاحقا (عام ٢٠٠٤) إلى فيلم سينمائي (حاز جائزة »نظرة إلى المستـقبل« في مهرجان كان)، وصله خبر موت أخـيه في إحدى المعارك في أفغانستان، فعاد إلى الكتابة لينشر »ألف منزل للرعب والموت« (تصدر قريبا بترجمة عربية عن منشورات الجمل) عام ٢٠٠٢ و»العودة المتخيلة« عام .٢٠٠٥
مع روايته الأخيرة هذه، يقدم إلينا رحيمي كتابه الأول المكتوب مباشرة بالفرنسية. وعلى الرغم من أن الأحداث تدور في بلد لا نعرف اسمه، إلا أن أفغانستان تشكل »ديكور« مكان الأحداث. مكان مغلق أشبه بتلك المسرحيات التي تدور في مكان واحد، يقبض على الأنفاس والصدور، حيث نجد رجلا »بطل حرب«، وهو على فراش الموت في حالة نزع، (إذ أصيب برصاصة في عنقه جعلته غائبا عن الوعي، مشلولا، لا يقدر على الحراك)، وإلى جانبه زوجته التي تشرف عليه. إشـراف يحمل الكثير من الغضب، إذ خلال حياتـهما المشتركة لم يصدر عنه إلا الاحتقار لها. من هنا، كانت صلواتها، لا لشفائه بل لإشعال هذا الحقد الدفين، هذا الغضب، لتحــاول من جديد أن تؤجج نار جسدها هي الذي أذل واحتقر. كان جسدا جامدا، تماما مثل »حجر الصبر« هذا، الذي ـ ووفق أســطورة أفغانية ـ كانت النســاء تروي أمامــه عذاباتهن وآلامهن. رواية، تقترب كثيرا من »المونولوغ« المليء بالارتعاشات والعذاب والصمت و… الجنون.
يقترب أسلوب عتيق رحيمي في روايته من الجملة القصيرة، الجافة، الموقعة (من إيقاع) التي ينحو بها على كتابة الواقع الضاغط الذي يرزح تحته المجتمع الأفغاني. وإذا كان رحيمي في كتابيه الأولين، يصور لنا أفغانستان تحت الاحتلال السوفياتي، فإنه يبتعد هنا قليلا، بمعنى أنه يصور لنا الضغط الإسلامي الذي بدأ يفرض حضوره، وهي المرحلة السابقة لطالبان واستلامها الحكم. وكأنه بذلك يحاول أن يؤرخ لمجتمع في شتى تحولاته التي عرفها في عقوده الأخيرة.
رونودو
بدورها، كافأت جائزة »رونودو« كاتبا فرنكوفونيا، هو تييرنو مونينمبو عن كتابه »ملك كاهل« (منشورات لوسوي). لكن عملية الاختيار كانت أصعب، إذ لزم اللجنة ١١ عملية اقتراع ليفوز بها مونينمبو بخمسة أصوات مقابل ٤ لإيلي فيزيل عن كتابه »حالة سوندنبرغ« (منشورات غراسيه).
يعتبر مونينمبو (٦١ عاما) واحدا من أشهر الكتاب الفرنكوفونيين في العالم اليوم. غادر مسقط رأسه غينيا منذ نهاية الستينيات هربا من دكتاتورية سيكو توريه. له أكثر من عشر روايات، يعالج في معظمها مسألة عدم قدرة المثقف في أفريقيا كما صعوبة عيش الأفارقة في فرنسا. في كتابه هذا يروي »ملحمة« أوليفييه دو ساندرفال، الذي أسس للمرحلة الكولونيالية في أفريقيا الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر. لكن ساندرفال كسب ثقة زعيم البلاد ليحاول هناك تشييد مملكة ضد إرادة بلاده.
السفير

رواية الأفغاني عتيق رحيمي التي حاز بها جائزة غونكور: نشيد الحب والحرية
كوليت مرشليان
بعد ان مارس الكاتب الأفغاني الفرنكوفوني عتيق رحيمي سحره على قرائه عبر روايته «صخرة الصبر» كرمته فرنسا بجائزة «غونكور» وهي اعرق الجوائز الأدبية لديها، و«صخرة الصبر» هي روايته الأولى بالفرنسية بعد ثلاثة اعمال روائية له كتبها بلغته الأم «الأرض والرماد» صدرت عام 2000 و«الف بيت من الاحلام والرعب», 2002 و«العودة الخيالية»، 2005 وكان في بداياته يدرس اللغة الفرنسية في العاصمة الأفغانية، لكنه ومنذ ان اقام في باريس كلاجئ سياسي عام 1984 هارباً من الحروب في موطنه وهو يحلم بكتابة رواية بالفرنسية، وهو مطلع هذا العام وحين قرر ان يكتب رواية عن الحب والمرأة خلافاً للموضوعات التي عالجها في رواياته الأولى الأفغانية، كتبها بالفرنسية وعن السبب الذي ارادت ان تعرفه دار النشر التي اعتنت بالنص لديها اجاب بأنه هو نفسه لا يعرف السبب، ثم وفي اكثر من حديث صحفي كتب بأن اللغة الأم هي اللغة التي نتعلم فيها الممنوعات، الممنوعات الفكرية واللفظية ايضا وحين قرر ان يكتب كتاباً يتمحور حول جسد المرأة، وجد نفسه يستعير لا ارادياً لغة اخرى، فكانت الفرنسية التي هي في متناول يده لأنه درسها منذ الصغر ويحلم بالكتابة الأدبية بالفرنسية منذ نعومة اظفاره.
من جهة ثانية، فرنسا مأسورة منذ فترة طويلة بالكتابات الغريبة والقادمة اليها من الشرق ومن آسيا ومن كل أقطاب العالم، الحاملة معها مناخات جديدة، والقارئ الفرنسي يستهويه كل جديد مبدع، فكان ان جذب الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي الفرنسيين بتلك الرواية التي تصور مجتمعه وهمومه وواقع المرأة فيه، وهو استوحى عنوان الرواية «صخرة الصبر» او «سينغيه صابور» من اسطورة شهيرة في الميثولوجيا الأفغانية تقول بتوجه الناس في المحن والصعاب الى صخرة شهيرة في البلاد كانت تدعى «صخرة الصبر». وهناك يبوح المتألم بشكواه وعذاباته للصخرة التي تحمل عنه جزءاً كبيراً من هموم وتكمن جمالية رواية رحيمي في قدرته الابداعية على ادخال الاسطورة في الرواية عن طريق التورية، فالبطلة عنده ليست في زمن الأسطورة ولا في مكانها امام الصخرة الميثولوجية، انما هي تحكي آلامها وعذاباتها امام جسد زوجها الواقع في غيبوبة طويلة، وتبدأ بسرد فصول حياتها، وتكاشفه بكل اسرارها وبأمور لم تكن لتجرؤ على المكاشفة بها لو لم يكن في غيبوبة، فتقول ما ترغب كل امرأة قوله بصراحة وبصرخة تطلق العنان لكل الكبت النفسي والجسدي الذي عانته في مجتمعها المتزمت والرواية جريئة في مكان ما او يمكن القول في كل الأمكنة وفي كل الكلمات والألفاظ التي تخرق المحظورات الاجتماعية والجنسية في بلادها، وعند هذا الحد وعلى ايقاع توتر المرأة ووضعها النفسي يكتب رحيمي بجمالية توازي الافصاح الكبير لبطلته، وعلى وتيرة تصريحاتها والمفاجآت التي تطل بها في كل فصل يكتب بتوتر وبلغة جريئة وحادة وجملة قصيرة، مشحونة، تشتعل بمعانيها ومضامينها وهو حسب تصريحاته في اكثر من مقابلة ـ استطاع ان يتحرك بحرية في روايته لأنه تخلى عن لغته الأم ولم يستخدم الألفاظ الجريئة والمحظورة فيها بل في لغة غريبة عنه.
والمعروف ان عتيق رحيمي هو ايضا سينمائي ودرس السينما في باريس اواخر التسعينات وله افلام مؤثرة، وهو لم يستغل ان يعمل على اقتباس روايته للسينما بل جعل العالمين مختلفين لديه يلتقيان في تفاصيل تخلق عوالمه الفنية الغنية، وهو اقتبس فقط باكورة اعماله الروائية «الارض والرماد» وكان ان نال عنه جائزة في «مهرجان كان» عام 2004.
عاش رحيمي المولود عام 1962 (46 عاماً) حوالي 22 عاماً في افغانستان قبل ان ينتقل ليعيش في باريس منذ 24 عاماً تقريباً. زار موطنه مرة واحدة خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة وكان ذلك عام 2002 وهدف من زيارته الى تحقيق فيلم وثائقي عن «حلم الحرية الافغاني» وذلك بعد سقوط نظام الطالبان، كما استوحى من تلك الزيارة ايضاًَ روايته «الف بيت من الاحلام والرعب»، وتبع تلك الزيارة عودة الى مسقط رأسه في كابول كتب بعدها «العودة الخيالية» وبالتأكيد ان هذه الكتب ستتم ترجمتها الى الفرنسية والى لغات اخرى بعد هذه الجائزة القيمة التي كرست اسمه في عالم الرواية.
اما «صخرة الصبر» فقد اعترف رحيمي انه استوحاها من قصة واقعية صورها في فيلم وثائقي له وهي قصة الشاعرة الافغانية ناديا انجومان التي قتلها زوجها عام 2005، فسجن هذا الأخير وقد ذهب رحيمي بالفعل لمقابلته في السجن لانجاز الوثائقي غير انه علم بأن الزوج في غيبوبة بعد ان حاول الانتحار وتم انقاذه فتخيل الكاتب لو ان الشاعرة المصروعة هنا لتقف امام زوجها المسجى وتقول كل ما في داخلها، ومن هنا ولدت لديه فكرة رواية «صخرة الصبر» التي تكرسها اليوم «جائزة غونكور» العريقة.
ولرحيمي افلام وثائقية عديدة منها: «لكل مذكراته» انجزه عام 1989 و«افغانستان دولة مستحيلة» سجل فيها تاريخ بلاده خلال الاربعين سنة الأخيرة.
كل اعمال رحيمي تركت اثراً عميقاً غير ان روايته الأخيرة «صخرة الصبر» كانت الأجمل برأي النقاد خاصة في المعاني العميقة لرموزها المستوحاة من اسطورة مذهلة ولغتها الجريئة التي تحاكي جسد المرأة بلا مواربة. وهو استعان في مقدمة روايته بكلمة للشاعر الفرنسي انطونان آرتو جاء فيها: «بالجسد وعن الجسد ومع الجسد، ومن الجسد الى الجسد». وتأتي هذه المقارنة ما بين الجسد والصخرة المنذورة للصبر لتشكل مفصلاً في حياته الأدبية والكتابية عبر رواية مؤثرة معهداة الى روح الشاعرة الافغانية الشابة ناديا انجومان التي قتلها الجهل بيد زوجها او بيد مجتمعها المتزمت. اما جائزة غونكور فهي لم تستبق الحدث وتروج للكتاب بل الواقع انه حصل العكس اذ ان الجدل الذي اثارته الرواية واقبال القراء عليها جعلها تنتشر بقوة واكثر من 14 دولة تعمل على ترجمتها حالياً ما لفت انتباه لجنة «الغونكور» وتأكيد هذه «الظاهرة» الافغانية الجديدة في سماء باريس الادبية، عبر تكريسها بجائزة توثق خطوات رحيمي اكثر في الرواية.
المستقبل

حجـر الصبـر روايـة عتيـق رحيمـي الفائـزة بغونكـور: قطعـــة اللحـــم المشـرقــة
اسكندر حبش
»الخطوة خضراء بسبب نقاط المياه«. هكذا كان عذاب الأفغانيات اليومي، المرغمات على ارتداء »التشاردي«، المجبرات على الخضوع والذلّ. عبارة، قالتها ذات يوم، شاعرة أفغانية شابة تدعى ناديا أنجمان. وأضافت في قصيدتها: »ما من ابتسامة عند أطراف شفاههن/ ما من دمعة تشير إلى سرير أعيهن الناضب/ يا الهي، لا أعرف إن كانت صرختهن الثقيلة ستصل إلى الغيوم/ ولا حتى إلى السماء«.
قصيدة نشرتها أنجمان قبل وقت قصير من تعرضها للضرب من قبل زوجها، حتى الموت. بدون أدنى شك، ثمة حضور لظل الشاعرة في رواية عتيق رحيمي »سينغه صابور ـ حجر الصبر« (التي حازت »جائزة غونكور« لهذا العام). ففي إهدائه، يكتب عتيق رحيمي (الكاتب الأفغاني ـ الفرنسي) ان »هذا السرد، كُتب لذكرى ن. أ. شاعرة أفغانية قتلها زوجها بوحشية…«. جملة لا بدّ من أن تؤسس لكلّ الرواية، لكل ما سنقرأه لاحقا، إذ من هذا الإهداء نفهم ما يريده رحيمي في روايته هذه.
»ن. أ.«، المذكور اسمها بالحرفين الأولين ـ على عادة عتيق رحيمي في أن يبقى متكتما ـ ليست في الواقع سوى الشاعرة الأفغانية الشابة ناديا أنجمان، التي قتلها زوجها في شهر تشرين الثاني من العام ٢٠٠٥ في مقاطعة »هيرات«، وكانت في الخامسة والعشرين من عمرها، ولديها طفلة في الشهر السادس. يومها اعترف الزوج بأنه ضرب زوجته، ولم يقتلها. وقد نجا الزوج بفعلته، إذ اعتبرت التحقيقات أن الشاعرة الشابة أقدمت على الانتحار. كانت ناديا أنجمان، معروفة في »دائرة الشاعرات في هيرات« حيث كانت نشرت لــتوها مجــموعة شــعرية بعنوان »وردة حمراء قاتــمة«، حيث يغلب على جو القصــائد ذلك المــناخ الضــاغط الذي تتـعرض له النساء الأفــغانيات.
وإذا كان يهدي كتابه هذا إلى الشاعرة ناديا أنجمان، فإننا نجد أيضا الشعر حاضرا في كتابه الثالث، »العودة المتخيلة«، إذ يهديه لبهاء، وبهاء هذا ليس في واقع الأمر إلا »سيد بهاء الدين مجروح«، الشاعر الأفغاني الذي اغتالته السلطات السوفياتية في باكستان، بعد أن رحل إليها، عقب اجتياح الجيش الأحمر لبلاده. وكان احد أبرز الذين حفظوا الذاكرة الشــفهية الأفغانية، عبر كتبه العديدة التي أصدرها في نهاية الثمانيـنيات أي قبل اغتياله بفترة وجيزة.
من هذا المناخ، أي مناخ ما تتعرض له الأفغانيات من عذاب يومي، يكتب رحيمي سيرة امرأة، بكلّ تفاصيل هذا اليومي، الذي لا يحترم إنسانيتها. بمعنى أن أنجمان لم تكن الوحيدة التي تعرضت لكل هذا الاضطهاد، بل لديها »شقيقات« كثيرات، ذقن المر عينه. ذقن اليأس نفسه، الذي أطفأ حياتهن، مثلما أطفا أصواتهن، إذ ما زلن غير قادرات على الصراخ، على التعبير، لأنها أصوات لا تصل، لا تتخطى عتبة الشفاه. لذلك يبتلعن غضبهن وثورتهن بانتظار يوم أفضل.
المخطط الجانبي
لكن قبل الدخول إلى قلب هذه التفاصيل لنعد إلى البداية قليلا. تشكل »حجر الصبر« الرواية الثالثة لعتيق رحيمي، (كتاب »العودة المتخيلة« ليس رواية في الواقع، بقدر ما هو سرد يتذكره فيه وطنه، عبر صور فوتوغرافية، ينشرها في الكتاب أيضا). لكنه بعد روايتين باللغة الفارسية، ينتقل الكاتب للكتابة مباشرة باللغة الفرنسية، خيار فسره في مقابلة تلفزيونية، يوم صدور الكتاب، بأن اللغة هي التي فرضت نفسها عليه، بكونها لغة الحرية، إذ لم يستطع أن يكتب بلغته، لأنه كان بحاجة إلى مسافة للتفكير. بيد أن قضية اللغة هنا، ليست هي القضية المهمة، على اعتبار أن الكاتب، لا يزال يحفر في أسلوبه، الذي عرفناه به، منذ روايته الأولى، »أرض ورماد«. إذ منذ العام ،٢٠٠٠ تاريخ نشر هذه الرواية، نجد أن عتيق رحيمي قد اختار »زمن ما بعد ـ التفجير«، أو لنقل »المخطط الجانبي« أي هذا المكان الذي لا تقع عليه الأعين إلا بطريقة محتشمة، سرية، أو ربما لا تقع عليه أبدا. من هنا، يبدأ الكاتب في سبر الأغوار البعيدة، سبر غبار الأحداث الصغيرة، سبر جميع شارات هذا الألم المتأجج وهذه الحياة الدائمة، بالرغم من كل شيء. بهذا المعنى، نجد رحيمي يعتمد على هذه الزاوية »المينيمالية« في رؤية الأمور. هو خياره الدائم، في نقل جسارة المأساة وضخامتها، كي ترن جيدا. أي يختار الصمت لتبدو أصوات الانفجارات، التي تصدح، في البعيد، أوضح.
في »أرض ورماد«، يروي لنا رحيمي، قصة جدّ مع حفيده الأصمّ وهما ينتظران شاحنة كان من المفترض بها أن تنقلهما إلى والد الصبي الذي يعمل في المناجم. الهدف من هذه الرحلة؟ إخبار الأب بالمجزرة التي تعرضت لها العائلة، في القرية التي كانت تسكنها، والتي دمرت بشكل كامل، من قبل جيش الاحتلال السوفياتي. هي رواية الانتظار، انتظار أن تنتهي هذه الطريق الطويلة، الوحيدة، الواقعة وسط جبال أفغانستان القاحلة، الجرداء، الشمالية. انتظار مليء بضجيج الشاحنات التي تمر، بالثرثارات القصيرة مع بائع الشاي، بألعاب الفتى وتسليته الذي كان يتحدث بصوت عال لأنه لا يسمع صوته.
مع روايته الثانية »ألف منزل للحلم والرعب«، يروي رحيمي سيرة الهرب إلى باكستان، حيث يتعرض الراوي وصديقه إلى التفتيش من قبل حاجز للجيش الروسي. وبعد أن يهرب منه، يختبئ عند امرأة تعيش مع طفلها. كان زوجها في المعتقل، بينما كانت تداوي أخاها الذي فقد عقله من جراء التعذيب. يظن الصبي الصغير أن هذا الملتجئ ليس سوى والده الذي عاد من »تلك البلاد البعيدة التي لا يعرف أين تقع«. لكن بحث الجيش السوفياتي عن هذا الراوي، يجعله يقرر الهروب، فينجح، وهناك يبدأ، باكتشاف الحركات الإسلامية، التي كانت في بداية صعودها، إذ يضطر إلى النوم في جامع يرتاده متشددون (إشارة إلى بدايات حركة طالبان).
الصرخة الثقيلة
صحيح أن أحداث »حجر الصبر« تدور في أفغانستان، لكن أيضا في أي مكان آخر تجتاحه الحرب. هذا ما يقوله في مطلع الكتاب »في مكان ما في أفغانستان أو في أي مكان آخر«. جملة سريعا ما تدخلنا، إلى هذا الأسلوب المتقشف الذي لا يخشى لا الصمت ولا بياض هذه اللحظات المعلقة والمأهولة بكل تلك الحشرات، ولا حتى ترداد الحركات المتكررة.
هذه الصرخة الثقيلة، التي تحدثت عنها أنجمان، والتي لا تصل لا إلى السماء ولا إلى الغيوم، يستعيدها رحيمي، ليصعد بها، بالأحرى ليعود بها إلى منبعها الأول. في البداية هناك غرفة، غرفة واحدة لا غير تشكل منزلا بأسره. هناك أيضا امرأة واحدة، لا نعرف أبدا اسمها ـ مثلها مثل جميع الشخصيات الأخرى التي لا نعرف أسماءها ـ تجتازها، مثلما تجتاز الكتاب من أوله إلى آخره. تسهر بدون تعب على زوجها، تسهر على هذا الجانب من الموت، لا على الجانب المتعلق بالحياة. إذ تمضي الأيام على إيقاع تنفسه البطيء الذي يشير إلى اقتراب النهاية. رجل، »مجاهد« أصيب برصاصة في عنقه في الحرب ـ (السبب الحقيقي في الواقع أنه شتم شخصا آخر في وجهه) ـ. هذه الحرب التي نشعر بها، التي نسمعها، عبر النافذة، الوحيدة بدورها. لسنا بحاجة سوى إلى هذا الاستماع كي نكتشف كم أنها دموية، كم أنها كثيفة وإن كانت غير محددة، أي أنها هذه الحرب العبثية، المجنونة، القذرة. حرب وصلت إلى باب المنزل، إذ كانا يسكنان على »خط التماس«. وأحيانا، كان المسلحون ينتشرون في الشارع. يسرقون كل شيء. يغتصبون كل شيء، يقتلون المدنيين عند كل مناسبة سانحة. بينما يندد الشيخ، من على قمة المئذنة بكل هذه الأفعال المحرمة.
كلّ رواية عتيق رحيمي، تتمركز على حركات هذه المرأة، التي تحمل السبحة، إذ تسبح لمرات ومرات، مرددة أسماء الله الحسنى، من دون نهاية، مصلية بذلك أن يعيده إلى وعيه. تقطر له في عينيه. كأنها نقاط تخفي الذي لا تريد قوله، المسكوت عنه، هذا الذي ينفح بصمت مدهش في هذا السكون الكبير.
أمام هذا الجسد الهامد، الأشبه بصخرة، تمتلك المرأة، فجأة، رغبة في الكلام. تعتقد أنه يسمعها (وفي أغلب الظن كان أصم)، تريد أن تقول له ما لم تجرؤ في أي يوم على البوح به. ثورتها ضد أبيها، ضده هو، زوجها. ترغب في أن تتحدث عن رغباتها الصغيرة، الحميمة، التي لم ينتبه إليها أحد في يوم من الأيام، حبها المكبوت الذي لم تبح به لأي شخص، بل أغلقت عليه، داخل جدران هذا الجسد.
بهذا المعنى، يصبح الزوج، »حجر الصبر«. وحجر الصبر ـ وفق أسطورة أفغانية ـ هو ذاك الحجر الذي يملك القدرة، مثل اسفنجة، على امتصاص وتحمل جميع المآسي والآلام، جميع الأسرار حتى أكثرها غيابا في الذاكرة. هو حجر »سحري«، يضعه المرء أمامه ويبدأ بالكلام، يتكلم لساعات وساعات. يخبره كلّ شيء. ليأتي اليوم الذي ينفجر فيه الحجر كي يحررنا من جميع هذه المآسي التي عرفناها.
إذاً، أمام هذا الجسد ـ الحجر، الصامت، تتحرر عبارة المرأة. إذ بفضله، يعود كل شيء ليطفو على السطح، المعيش، المسكوت عنه، الخوف من التعرض للذل، الإهانات، الطفولة الشائكة، بسبب الوالد الذي كان على استعداد لأن يبيع بناته من أجل شراء طيور يستخدمها في معارك ضد طيور أخرى.
كل الدفائن تنفجر دفعة واحدة. وسط دوي القنابل والقذائف التي تنهمر في جميع الأرجاء، في هذه الغرفة العارية، المنسية من الجميع، حيث الستائر الحاملة رسوم عصافير، تخفق وحدها، لتذكر بحياة ما، تبدأ المرأة، وبقوة الكلام، من التحرر. تبدأ باكتشاف حريتها الشخصية. حتى أنها تستعيد ليلة العرس الفاشلة، وما أصابها من كبت جنسي فيها. والكلام، مثل الموسيقى، يستدعي الرقص، من هنا نجده يحمل الجسد إلى اكتشاف المحرمات. أي يدفع بالمرأة إلى ممارسة الجنس مع أحد المقاتلين أمام »جثة زوجها الحية«، لتقول لها، بعد أن تشعر بالمتعة: »خذ، هذا هو شرفك الذي نكحه شاب في السادسة عشرة من العمر. ليس شرفك سوى قطعة لحم. أنت نفسك كنت تستعمل هذا التعبير. كنت تصرخ فيّ، كي أغطي نفسي، »غطي لحمك«. في الواقع لم أكن بالنسبة إليك سوى قطعة لحم تلجها عبر قضيبك القذر. لا لشيء، إلا لتمزقها، لتجعلها تنزف«.
كلام المرأة ليس في النهاية سوى نوع من البحث الذاتي، يقودها إلى نوع من إشراقة، حتى بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ديني: معنى الجسد. »نعم، الجسد هو إشراقتنا، إنها أجسادنا، أسرارنا، جراحنا، ألامنا، متعنا…«.
مرة أخرى، نرى عتيق رحيمي، في روايته هذه، وهو ينطلق للبحث عما يغذي المأساة التي تعيشها بلاده. لكن ما يجعل الكتاب أكثر جمالا عن سابقيه، هو تنقيبه عن العاري في الروح الأفغانية، بعيدا عن كل الكليشيهات الغريبة التي فرضتها الآداب الغربية حول جمال الفرسان، وتحركات المحاربين الأفغان، وجلال الطبيعة الساحرة.
نحن أمام جسد يموت، وآخر، الى جانبه، بدأ يشعر بالنور والحياة. ربما بهذا المعنى، لسنا سوى أمام استعارة عن افغانستان اليوم، الواقعة، ما بين الأعاصير والظلمات.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى