المثقف والمأزق الأخلاقي، متى يعتذر هؤلاء ويصحّحون مواقفهم؟
أحمد بوقري
كثيراً ما كانت توصف العلاقة بين المثقف والسلطة بأنها علاقة صراع وتناقض بين موقفين وثقافتين، تتشكل من خلالهما علاقة افتراق، وهو ما يقترب من الصحة على الأقل في سياق تاريخي وزمني ليس بالقصير، فكان مزاج المثقف المتمرد يعد كل ما كان ينتج من طريق المؤسسة مرتاب فيه عدا المثقف التقليدي الذي عادةً ما يتماهى مع أطروحاتها ومفاهيمها الثقافية والسياسية، وكثيراً ما كانت العلاقة بين المثقف النقدي/ المعارض/ المتمرد تأخذ شكل العداء والاستقلالية المطلقة. لكن هل ظلت هذه العلاقة حتى اللحظة كما هي؟ واقصد باللحظة الراهنة لحظة الانفجار المعلوماتي/ التقني المتواترة، فالعلاقة في ظل هذه اللحظة الكونية المتجددة لاشك اختلفت في أشكالها وتقاطعاتها وتجلياتها عن صورة تلك العلاقة الصدامية الناشبة دوماً في احتداماتها والتباساتها إلى ما قبل التسعينات من القرن الماضي.
هل اقتربت المؤسسة والثقافية بشكل خاص قليلاً من أحلام المثقف النقدي/ المعارض/ المتمرد؟ وهل اقتربت من تصوراته للمستقبل ولقضايا التغيير، تغيير الوضع الراهن والاعتراف بحرية المثقف واستقلاله النسبي؟ أم أن المثقف النقدي تغيرت تصوراته فأعاد ترتيب أولوياته الثقافية والمعرفية، ومن ثم تواضعت أحلامه وأفكاره الكبيرة، فهبطت من عليائها وصارت مقتربة من حيوية الواقع وراهنية اللحظة الكونية، فالتحق بالمؤسسة وتبنى تصوراتها؟
هل وجدها المثقف فرصة سانحة ليعمل من داخل المؤسسة، لا لكي يخضع لمتطلباتها وسطوتها وضغوطاتها، بل كي يجادلها ويثاقفها ويعمل على الحد من أحاديتها وسطوتها على الوضع الثقافي وتفكيك بنيتها المفاهيمية من الداخل وإعادة تركيبها من جديد في سياق التبني المشترك للمعرفي والعلمي من دون أن يتخلى المثقف بالضرورة عن نقديته ولا يفرط أو يستبعد لحظة انسحابه لو اضطر لها؟ هذه أسئلة مشروعة يمكننا الانتقاء منها، ونحن في صدد الإجابة على سؤال العلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة.
ويحضرني هنا التعبير الغرامشي المشهور من أن المثقف والسلطة ليسا إلا كتلة تاريخية – اجتماعية واحدة، تصطرع داخلها الاختلافات الفكرية والظاهرات والذهنيات، وأنه ليس للمثقف بد إلا تكوين سلطته الثقافية، وليس للمؤسسة من غائية تاريخية واجتماعية إلا تكوين مثقفها وثقافتها. ما أقوله هنا ليس دعوة توفيقية بين المثقف والمؤسسة أو دعوة للخضوع والاندماج السلبي، بل هي دعوة صادقة للتخلي عن الوعي الزائف والمراوغ في آن، وضرورة قراءة الواقع قراءة صحيحة علمية وموضوعية، واقصد واقع المؤسسة الثقافية الراهن وانفتاحها على المختلف والمتعدد، قراءة من شأنها هدم الحائط النفسي الوهمي المرتفع الذي يحجب الرؤية عما يدور في الجانب الآخر/ المؤسسة. وفي الحد الأدنى قراءة تحدث ثغرات أولى في هذا الحائط.
في تصوري من سمات المثقف العملي الفاعل ولا أقول العضوي هو امتلاكه للوعي المعرفي/ العلمي والروح الانتقادية في آن، بمعنى ضرورة أن يمتلك المعرفة بحياديتها وبمجمل مركباتها المجردة وغير الخاضعة للموقف الايديولوجي على الأقل في انبثاقاتها الأولى، ومن ثم يعمل عليها وعيه النقدي الحر في تشخيص الحال التي يتناولها او يتعاطى معها.
وأقصد بالحال: المصاعب والمشكلات التي تعاني منها قضايا التطوير والتغيير التي ينصب عليها اهتمامه. أي أن تغييب المعرفي من أجل الموقف الايديولوجي الجامد هو بمثابة إعادة انتاج لوعي زائف يخدم في اعادة انتاج لا معرفي لحقائق ووقائع ماثلة ووضعها في مشهد مظلم يؤبد العماء الثقافي، الذي يتلمس طريقه إلى خارج التاريخ. ان انخراط المثقف المنتج في المؤسسة الثقافية ليس دوماً ما يعني تنازلاً طوعياً عن فكره الحر وانتقاديته وتبخراً لروح التغيير نحو الأبهى التي تحكم توجهاته وأحلامه، بل أرى أن المؤسسة الثقافية يمكن أن تتحذ هنا كملاذ حاضن للمثقف ينشئ من خلاله علاقات ثقافية واجتماعية جديدة مكونة لنسيج آخر مشترك من التصورات والأفكار والقيم، التي قد تصبح في لحظة نضج ما قادرة على التأثير في النسيج المجتمعي برمته، محيلاً إياه إلى واقع موضوعي جديد.
ان اقتناص المثقف لهذه الفرصة بذكائه الاجتماعي وبوعي معرفي نقدي يحتمل كل النتائج والمآلات، لهو بمثابة اقتناص للحظة زمنية مراوغة وخادعة تتحول بين يديه إلى حقيقة تاريخية في السياقات المحتملة كلها. ان الخلل النفسي والفكري الذي يعتور بعض مثقفينا للأسف ينتج منه خللُ في الرؤية عند تقويم علاقاته مع المؤسسة/ السلطة/ المرحلة التاريخية، أو حتى علاقاته مع القرناء من المثقفين. وتحضرني هنا بعض هذه المواقف والسلوكيات الشاهدة على هذا الخلل وعلى هذا الاضطراب الرؤيوي لبعض مثقفينا ومفكرينا، التي تؤول بالضرورة إلى مواقف «لا أخلاقية»، ومن هذه التي لا تذهب من الذاكرة: موقف المفكر «النجم» محمد عابد الجابري الذي عبّر عنه فعلاً قبل القول وقولاً مراوغاً مبرراً للفعل عندما دعم ديكتاتور العراق الآفل صدام حسين في حربه لطواحين الهواء إبان حرب الخليج الأولى، معتقداً في مناقبيته الزعامية ومنوهاً بهبة «القدر» بصفته «مستبداً عادلاً» محققاً للعصبية والغنيمة ومنقذاً للأمة من أغلال النهب الأجنبي وبراثن التبعية للآخر… وفي موقفٍ كهذا رأينا كيف انهار الجابري من عليائه الفكري وكيف نسف بقدرة مدهشة تلك العمارة المعرفية/ الأبستمولوجية التي تشكل في أرجائها مشروعه الفكري كله في «نقد العقل العربي» وتبين في أطلالها ذلك الجذر الأيديولوجي القوموي الذي كان يتخفى في النسيج الفكري الجابري ويعتاش عليه جذره «المعرفي» الزائف وهو ما يعكس بشكلٍ جلي في موقف المثقف المتمحك بالسلطة أو المؤسسة السياسية طمعاً ربما في الغنيمة أو انسياقاً عاطفياًً وراء ذهنية القطيع طمعاً في اكتساب نجومية جديدة!
هل نعد هذا سقوطاً فكرياً مدوياً أم نعده موقفاً معبراً عن رؤية فكرية مستقلة قد نختلف معها لكن لا نشاطرها في النتائج والمآلات؟ أليس في الحالة هذه نكون كمن يقول أحد من المثقفين: «أنا أقف مع الإرهاب ولكن أرجو أن تحترموا رأيي؟».
وقد انحدر هذا الموقف الجابري للأسف وتمظهر في مستويات أخرى من الضيق بالاختلاف والتعددية إلى التعصب المتأسلم ثم الى القوموية مما قد تبين لاحقاً من ردود فعله على النقد المعمق الذي وجهه جورج طرابيشي إلى المشروع الفكري للجابري في مشروعٍ فكري آخر مضاد، كاشفاً الأرضية الأيديولوجية المنغلقة والمراوغة المعرفية التي أنطلق منها الجابري في مشروعه، أقول حتى بعد هذا النقد الطرابيشي في سياق الجدل معه والاعتراف بثورية الطرح الجابري « هذا كتاب لا يثقف بل يغير… أنت بعده ليس كما قبل قراءته» فأن الموقف الأخلاقي للجابري لم يستقم فوقف ضد مشروع الطرابيشي موقف الدفاع المتهافت وموقف من يملك الحقيقة وحده لا موقف المساجل الفكري النزيه والملتمس للحقيقة في أفق آخر.. موقف كهذا كشف عن الأقنعة كلها وظهر عبره موقف مثقفٍ لا يؤمن بالاختلاف والتنوع والديموقراطية متسقاً مع موقفه السابق في كتابه «نحن والتراث» الذي تجاهل فيه وبشكلٍ متعمد أعمالاً فكرية مبدعة سابقة له كالمشروع الفكري الثوري للشاعر أدونيس «الثابت والمتحول» أو المشاريع الفكرية لكلٍ من حسين مروة والطيب تيزيني، ووجدنا كيف انحاز المفكر/ المثقف فيه للأيديولوجي ضد المعرفي وللديني ضد العلماني وإلا كيف نفسر ما قاله في جملة مؤلمة عن الطرابيشي:» هذا المسيحي ليس من شأنه الثقافة العربية والإسلامية» أو ما قاله أيضاً قريباً من هذا القول البائس «الثقافة العربية والإسلامية منطقة محظور أن يخوض فيها المسيحيون»!
هذه هي المأساة الأخلاقية التي قد يتمرغ فيها مفكرنا أو أديبنا حينما يُسقط في يده أو في عقله فينحدر من رحابة الموقف المعرفي/ العلمي/ الأبتسمولوجي الى حصار الموقف الأيديولوجي ومن ثم إلى مستنقع الموقف المذهبي/ الديني/ الإقليمي.
يتصل هذا الموقف اللاأخلاقي للمثقف بمواقف لا أخلاقية عدة تصدمنا من مثقفين محسوبين على الجانب النقدي/ العلمي فنفاجأ بالفعل مناقضاً للقول أو بالقول الذي لا ينتج فعله المتسق والمتناغم فيبقى القول إما معلقاً في الفراغ لا يحجب غير خوائه ولامعقوليته أو يأتي الفعل محطماً للقول والعقل معاً.
أخلص إلى القول بأن المشكلة تكمن – حقيقة – في أن المثقف المنكشف في موقفٍ لا أخلاقي على مستوى الرؤية والفكر والممارسة الذهنية لا يعتذر ولا يصحح الموقف. فكيف يمكن تبرير موقف أحد مثقفينا عندما أنيطت به مسؤولية الأشراف والاشتغال الموضوعي العلمي المدقق على انجاز موسوعة أدبية شاملة محلية فجاءت الموسوعة متغافلة عن ذكر أو الإشارة إلى أدباء ونقاد معروفين، إسهاماتهم واضحة في المشهد الثقافي على مدى فترة زمنية طويلة لسببٍ غير معروف، وتكرر هذا الإغفال في أكثر من جزء وعندما احتج هؤلاء بأنه لم يعتذر ولم يصحح فتعامل معهم بخفة الكائن الذي لا يحتمل الاختلاف!
وأمثلة هذه المواقف كثيرة في مشهدنا الثقافي العربي والمحلي غير أن الذي أوردت ذكره هنا هو ما يحضر في ذاكرتي بشكلٍ قوي.
إنها إشكالية حقيقية حين يصبح موقف مثقف واحد ضاراً ومؤثراً في حقيقة وتاريخية مشهد ثقافي برمته، فالمعرفي/ التاريخي/ العلمي والنزاهة الفكرية ينكل بهم كلهم من أجل النفعي/ العاطفي/ التعسفي المستند على التقويم الأحادي/ الإقليمي/ الشخصي!
فمتى يعتذر ويصحح الجابري موقفه الثقافي والأخلاقي؟
ومتى يعتذر مثقفنا معجب الزهراني ويصحح الموسوعة الأدبية ويلتزم بتقاليد العمل الموضوعي والعلمي الصحيح؟
ومتى يعتذر ويصحح محمد العباس مواقفه المتشائمة من المشهد الثقافي المحلي ويصحح موقفه أيضاً من المؤسسة الثقافية التي لا يرى فيها إلا كتلة مظلمة بلا محطات؟
ومتى يعتذر ويصحح هؤلاء مواقفهم الذين لا يرون المشهد/ الواقع/ الرموز الأدبية إلا عبر ذواتهم المتورمة أو ريادتهم المزعومة أو ســ-ياسة «قتل الأب» أو منظــارهم الأيـــديــــــولوجي الــــصدئ!
عن ملحق آفاق / جريدة الحياة