المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: نموذجاً للمثقف النقدي المستقل

سمير الزبن
ليس من السهل الكتابة عن إدوارد سعيد، فقامة الرجل أعلى من أن تغطى، خصوصاً وأنه الرجل الذي أشعل نقاشاً دار أرجاء الأرض، وما زال دائراً وسيبقى كذلك لفترة طويلة. والحزن على الرجل يوازي قامته العملاقة، لأن الخسارة برحيله كانت فادحة وأكبر من أن تعوض.
لا أقول ذلك مبالغة أو لأني منحاز لإدوارد سعيد، بل لأن الرجل قامة كبيرة حتى عند أعدائه. فقد كان في حياته واحداً من أكثر المفكرين إثارة للجدل، سواء من أولئك الذين يعتبرونه نموذجاً يحتذى، أو أولئك الذين يعتبرونه «بروفيسور الإرهاب». وقد استحق بجدارة إعلان صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية في العام 1999 في تلخيصها لإنجازات القرن العشرين، اعتباره «واحداً من أهم النقاد الأدبيين الأحياء». فقد كانت أعمال إدوارد سعيد تثير النقاشات الصاخبة وتولد الأفكار الجديدة وتفتح حقولاً جديدة لبحث علاقات السلطة والقوة.
لا تنفصل حياة إدوارد سعيد عن إنتاجه الفكري، فإدوارد سعيد الفلسطيني المولود في العام 1935 الذي ترعرع في القاهرة ودرس في مدرسة القديس جورج وغادر الى أميركا ليدرس في جامعة برنستون، والذي تردد عندما كان طالباً بين أن يكون عازف بيانو وبين أن يبدأ حياة أكاديمية، واختار الثانية على الأولى. وهذه الحياة الشخصية التي تعيده دائماً الى فلسطينيته لعبت دوراً أساسياً في تكوّن سعيد النقدي، لقد كان استعمار فلسطين هو ما أجبر سعيداً على أن يختبر الخطاب الإمبريالي الغربي، لكي ينسج تحليله الثقافي مع النص الذي يحمل هويته. وهذا التكوين هو الذي جعله يرى أن النظرية الأدبية لا يمكن أن تنفصل عن العلاقات السياسية في العالم الذي كتبت فيه. وهو في حياته ونتاجاته يمثل «مفارقة الهوية» من خلال تجربة فريدة «سواء أكان إدوارد سعيد ناقداً أو محللاً سياسياً أو منظراً أدبياً وثقافياً أو مواطناً نيويوركياً فإنه يمثل طبيعة الهوية القائمة على المفارقة، في الأغلب في دنيا متعولمة مهاجرة. نجد فيه شخصاً وضع في تشابك تناقضات نظرية وثقافية: تناقضات بين شخصيته المتغربنة وعلاقته السياسية بوطنه الفلسطيني، تناقضات بين صوته السياسي والموقع المهني». وبحكم أثر التجربة الشخصية فإن أعمال سعيد كل مترابط، وبذلك «لا نستطيع إسقاط كتاباته عن فلسطين الى نوع من صحافة ما بعد ساعات العمل، كما لا نستطيع أن نطرد نظريته لكونها مجرد نشاط مهني لناشط فلسطين». هكذا يوصفه الكاتبان بيل اشكروفت وبال أهلواليا في كتابيهما «إدوارد سعيد ـ مفارقات الهوية».
دروس
لقد أعطانا إدوارد سعيد دروساً لم يعد من الممكن تجاوزها، فالرجل الذي يملك عقلاً نقدياً جباراً، بيّن من خلال أعماله النقدية، أن سلطة المعرفة الغربية ذات الطبيعة الاستعمارية، مهما حاولت أن تموه ذاتها، من الممكن فضحها وتحديها. ولذلك يعتبر كتابه «الاستشراق» وهو الكتاب الأكثر إثارة للجدل، بمثابة تحدي لحالة البكم المفروضة على الشرق، لأن الاستشراق شكل حركة علمية لها في عالم السياسة التجريبية نظير وهو مراكمة الشرق وحيازته استعمارياً من قبل أوروبا. لهذا لم يكن الشرق محاور أوروبا، بل «آخر»ها الصامت.
شكل كتاب «الاستشراق» انعطافاً حاسماً في نقد خطاب القوة والهيمنة الذي انبنى عليه الاستشراق لتعزيز السيطرة الاستعمارية على الشرق، ولقد كان له من قوة الأثر بأن جعل مصطلح المستشرق تعبيراً مرذولاً عند البعض. كما تسبب الكتاب بصدمة كبيرة في التفكير حول الخطاب الكولونيالي. لقد فكك الكتاب طرق المعرفة عن الآخر «الشرقي» واستراتيجيات السيطرة على ذلك العالم من خلال المعرفة.
ولا شك بأن الكتاب كان له التأثير الكبير على التفكير المعاصر أكثر من أي كتاب في العقود الأخيرة. لم يغير النظرة الى الاستشراق فحسب، بل لقد غيّر الطريقة التي تفكر بها حول العلاقات الثقافية والسياسية. ولم يعد مرتبطاً فقد بدراسة الشرق، لقد أصبح ينظر إليه كمصطلح شامل حول الأسلوب الذي تُعامل فيه الثقافات الأخرى وتُصور. وعلى هذا الأساس اعتُمدت منهجية الاستشراق من قبل عدد واسع من المؤلفين لتحليل علاقات القوة والسلطة. واستطاع عمل سعيد أن يخترق الحرم الداخلي للمؤسسات الثقافية الغربية، وظهرت على أساسه نظرية «ما بعد الكولونيالية» لتركز في أسئلته على الإمبراطورية والمستعمرة.
وقد أكمل سعيد في كتابه «الثقافة والامبريالية» تحليل علاقات القوة حسب النموذج المنتشر عالمياً للثقافة الامبريالية، التي تتطور لتبرر وتدعم أيضاً اساس واستثمار الامبراطورية. والثقافة في هذا الاطار هي السلطة التي تغير من آراء الناس المستعمرين دون الحاجة للجوء المستعمر للسيطرة العسكرية.
الدرس الهام الثاني الذي اعطانا اياه ادوارد سعيد قبل ان يرحل، أنه ليس على المثقف الاستقالة من الشأن العام، والتحول الى باحث او خبير، او يقع أسير جدران الجامعة. فمثقف الشان العام لم يمت بعد كما يقول الآخرون، ورغم المصاعب التي تعترض عمل المثقف على الشأن العام، حيث اصبح العديد من المفكرين يدعون الى التخلي عنه، والاقتصار على القطاعات البحثية الضيقة والاختصاصية، إلا ان مهمة المثقف ما تزال قائمة وعليه التدخل في الشأن العام بقوة، وعليه ان يقول الحقيقة حتى لو كانت غير شعبية، وان يقول ما يفكر فيه بالضبط وان يكف عن قول ما يريد الاخرون منه ان يقوله. فعلى المثقف ان يقول ما يراه صحيحاً حتى لو اثار قوله الامتعاض، فالقضية اصلاً ان على المثقف ان يشيع الحرج، الاعتراض، حتى الامتعاض. هذه هي مهمة المثقف كما يراها ادوارد سعيد، على خلاف الاعتقاد السائد بموت مثقف الشأن العام.
لقد ضاق ادوارد سعيد بجدران الجامعة وبالبحث الاكاديمي منذ زمن بعيد، لم يرغب بإبقاء صورته بصفته الناقد الاكاديمي المرموق وأستاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا. بل هو خرج ومنذ زمن من الاطار الاكاديمي ليمارس دوره بصفته مثقفاً صاحب قضية، وبصفته «مثقف عابر للحضارات» كما اسماه البعض.
القضية
لقد انشغل بالقضية العامة الكبرى، قضية الانسان وحريته وحقوقه على مستوى الكون، لذلك أخضع سعيد السياسات والممارسات الاميركية الى النقد، بوصفها تقوم على الهيمنة بالقوة وتوظيف سلطة المعرفة لصالح القوة. وعلى هذا المستوى يعلمنا ادوارد سعيد، ان من حق الضعفاء تمثيل انفسهم، ولا يحق للقوة، وحدها ان تفرض شروطها، وأن تخلق صورة نمطية للمجتمعات وللبشر الذين تعمل على السيطرة عليه.
لم تشغله القضية العامة للانسان، عن قضيته الخاصة، فقد مثل موضوعا فلسطين والاسلام جزءاً هاماً من اعمال سعيد، وهما يمثلان التجلي العياني لنموذج الخطاب الاستشراقي. فالغموض بالنسبة لفلسطين الذي ساد الخطاب الاستشرافي كما يقول سعيد هو الذي «حصن موقفاً ثقافياً نحو الفلسطينيين جاء من الاحكام الغربية السابقة والبالية عن الاسلام والعرب والشرق». ويشرح سعيد آثار الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطينيين في كتابه «ما بعد السماء الاخيرة» وكيف حول تاريخ فلسطين ابن البلد (الفلسطيني) الى غريب. وعلى هذا المستوى يشكل كتابيه «القضية الفلسطينية» و«تغطية الاسلام» مع «الاستشراق» ثلاثية تكمل بعضها. ففي كتاب «تغطية الاسلام» يفضح بالاساس تمثلات الغرب وخصوصاً أميركا للاسلام في الفترة المعاصرة، التي تقدمه مختزلاً ومبتوراً وكلاً متناغماً، على صورة ارهابيين محتملين.
لقد استطاع سعيد من خلال الدفاع عن القضية الفلسطينية على الساحة الاميركية، ان يعطيها الكثير ويثبت انه صاحب قضية محقة رغم الحرب التي شنتها عليه المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة. فقد شكل نداً للدعاية الصهيونية، مما جعل «الرابطة اليهودية المعادية للتشهير باسرائيل» تضعه على لائحة «كبار المروجين للتأييد العربي في صفوف الطلاب والاساتذة الجامعيين» في الولايات المتحدة، وتم وصفه بـ«استاذ الارهاب» وتعرض مكتبه الى الهجوم عدة مرات من الجماعات اليهودية المتطرفة في الولايات المتحدة. وقد كتب دفاعاً عن القضية الفلسطينية العديد من الكتب منها، «ما وراء السماء الاخيرة، حيوات الفلسطينيين»، «لوم الضحايا، الاكاديميا الزائفة ومسألة فلسطين»، و«السلام في الشرق الاوسط»، و«القضية الفلسطينية» وغيرها من الكتب.
ان المسار الطبيعي للمثقف النقدي، هو الاصطدام بكل انواع السلطة والتحرر منها، حتى لو بعد حين، فالاحتفال الذي شهده ادوارد سعيد من القيادة الفلسطينية في وقت سابق، كان يتعلق تماماً بدوره النقدي، ولكن في ساحة أخرى. وعندما عبر ادوارد سعيد عن رأيه النقدي في الاتفاقات التي وقعتها القيادة الفلسطينية، وكان رأيه صريحاً وحاداً وجريئاً جرأة استثنائية. وهذا النقد كلفه قرار منع كتبه ومصادرتها من مكتباتت الضفة الغربية وقطاع غزة، ومنعه من دخول مناطق الحكم الذاتي.
ان ما ينطبق على ادوارد، ما قاله هو نفسه مستعيناً بغرامشي وبالامير الحديث تحديداً، حيث يقول غرامشي «ان الواقع (والواقع الثقافي بالتالي)، هو نتاج تطبيق الارادة الانسانية على مجتمع الاشياء»، وبما ان «كل شيء سياسي، حتى الفلسفة والفلسفات»، لا بد لنا من ان نفهم كل انتاج في ميدان الثقافة والفكر هو موجود ليس ليكسب مكاناً له فقط. بل وليحل محل نتاجات اخرى ويتغلب عليها.
لقد حلت نتاجات ادوارد سعيد محل نتاجات كانت مثالاً للاستعمار والاستعباد والقوة، وبهذه النتاجات التي يستحيل محوها سيبقى ادوارد سعيد بيننا بعد وفاته.
المستقبل