المثقف والأزمة
حسام عيتاني
عند وقوع أزمات من نوع الأزمة الاقتصادية العالمية أو تغيرات تعادل وصول أول رئيس من أصل أفريقي الى البيت الأبيض، ينتظر العالم من المثقفين الإدلاء بآرائهم بشأن ما تواجهه مجتمعاتهم من أحداث تؤثر في الحياة اليومية للمواطنين، حتى لو كانت آراؤهم لا تتلاءم تماما مع الاستنتاجات التي توصل اليها أصحاب الاختصاص من اقتصاديين وسياسيين.
ولعل في هذا بعضاً من التعبير عن التزام المثقف بالقضايا العامة، وهي المسيرة التي كان من أعلامها انطونيو غرامشي وجيل دولوز وجان بول سارتر وسيمون دوبفوار وميشال فوكو (وكتابه المهم في السياق هذا »دفاعا عن المجتمع«) وبيار بورديو وسواهم. وربما يكون الأبرز عربيا ضمن هذه الفئة الراحل ادوارد سعيد.
وعلى الرغم من انتماء المثقفين هؤلاء الى تيارات سياسية وفكرية متباينة، إلا أنهم عبروا جميعا، وعلى امتداد عقود عدة من القرن العشرين، عن حساسية رفيعة المستوى حيال الشأن العام الذي لا معنى للثقافة ولا للسياسة فيه من دون حد أدنى من تماسك اجتماعي. يذهب عدد من الباحثين الذين نظروا في أحوال المثقفين وأدوارهم الى انخراط المثقف في الحياة السياسية اليومية وإصداره مواقف من المتغيرات الكبيرة والصغيرة على السواء، جزء مكون من هويته ومن وظيفته في المجتمع، بل ان توقيع العرائض والبيانات وكتابة التعليقات ونشرها في الصحف، هي من الأعمال التي تشير الى حيوية النخبة الثقافية في أي مجتمع، بحسب ما يرى جيرار لوكليرك في كتابه »سوسيولوجيا المثقفين«، على سبيل المثال.
وكانت التطورات العاصفة التي شهدها العالم في الأشهر القليلة الماضية، من الأزمة الاقتصادية وانهيار أسواق المال والحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية التي أسفرت عن فوز أوباما، في تغيير ينبغي عدم التقليل من شأنه ورده الى ألاعيب المؤسسة الحاكمة على ما قرر بعض من كتابنا الأفاضل، نقول كانت التطورات هذه دافعا الى استعراض جديد للنشاط الفكري الغربي. ومن يرصد الصحف والمجلات الأميركية والأوروبية في الشهرين الماضيين أو الأشهر الثلاثة الماضية يدرك من دون كبير عناء أن الجدال العميق، وان كان لم ينته حتى الساعة، إلا أن اتجاهاته الكبرى كانت تعلن أن المرحلة التي امتدت من أحداث ١١ ايلول ٢٠٠١ الإرهابية الى انهيار أسواق المال في أيلول الماضي، قد انتهت وان القرن الواحد والعشرين قد بدأ فعلا مع انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة.
يمكن في هذا الإطار الحديث عن المقال الذي كتبه فرانسيس فوكوياما وعن جملة من الأعمال التي نشرت في مجلات »فورين افيرز« و»فورين بوليسي« و»نيويورك ريفيو اوف بوكس« الى عدد من الندوات التي ضمت أسماء كبيرة على غرار الندوة التي جمعت الفيلسوفين سلافوي جيجك وبرنار هنري ـ ليفي في نيويورك في أيلول الماضي.
لا تتساوى هذه النشاطات في الأهمية ولا يتعادل المشاركون فيها في التأثير على التوجهات العامة للنخب وللجمهور العريض. وقد يرغب المرء في تجاوز بعض الأسماء ذات الصدى غير المستحب لأسباب تتعلق ليس بمواقعهم في الحياة العامة فحسب، بل أيضا بسبب مواقفهم السياسية والثقافية السابقة. كما أن النشاطات هذه لا تعبر بالضرورة عن قدرة المثقفين على الاضطلاع بدور مقرر في رسم سياسات بلادهم، بل الأمر المهم في هذه المسألة هو القدرة على رؤية العاصفة من الخارج، من البعيد، واستشراف الاتجاهات التي تمضي إليها من دون الخشية من توبيخ رئيس أو حزب أو جهاز.
تأتي هذه القدرة، في حزمة واحدة، مع إنجاز القراءة النقدية لتاريخ المجتمع المعني. مع طي صفحة انقساماته الأولية واندراجه في طريق يعترف بالتعدد، في جميع أشكاله، كحق جرى تكريسه عبر مئات الأعوام من التراكم في المجالات السياسية والثقافية. فليس من اليسير الحديث عن المستقبل في ظل استمرار صراعات دموية تتعلق بالتاريخ، أو تستتر به.
وربما يكون هذا ما يحول دون بروز دور المثقف العربي القادر على قول كلمة صريحة في أحوال مجتمعه من دون أن تكال له الاتهامات من اليمين واليسار ومن سدنة هياكل التاريخ والدين. وليس سهلا، بهذا المعنى، البقاء في حالة تمرد دائم على المؤسسات الاجتماعية والسياسية العربية من دون أن يرافق التمرد هذا نبذ وعزل غالبا ما يوصلا الى التصفية الجسدية.
وما زالت كتابات وآراء تصدر اليوم وتتناول أحداثا وقعت قبل ١٤٠٠ عام، تكفي لإطلاق التهديدات بالقتل والسحل وإبطال الزيجات وما يدخل في هذا الباب.
السفير