كيف نفهم «ديموقراطيّة إسرائيل… الوحيدة في الشرق الأوسط»؟
صالح بشير
ولكن إسرائيل دولة ديموقراطية! بل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»… ذلك هو الاستدراك القائم صخرة، صلدة كأداء، يتحطم عليها كل نقد يوجّه إلى الدولة العبرية.في الغالب، لا يستدرك صاحب ذلك الاستدراك في حقيقة الأمر شيئا، إن هو إلا تذكير أو حجة يُصار إلى إشهارها قولا فصْلا في اللحظة المناسبة، عندما يبطل سواها أو ينحرج، تفيض الانتهاكات بحق الفلسطينيين إجراما عن ذرائع الدفاع عن النفس وحماية الوجود، أو يقصر التلويح بمحرقة جديدة، تتربص بيهود الأرض المقدسة، عن الإقناع وتخذله المصداقية…
تبقى ديموقراطية الدولة العبرية، التي لا تشوبها «لكنْ» على ما يُعتقد عادة اعتقادا يبلغ مبلغ اليقين، حصانتها الأمضى إذاً، قد تكون أفعل حتى من سلاحها النووي ومن ذكرى الإبادة النازية. فهذه الأخيرة لم تعد جرما راهنا، إلا على سبيل الاستذكار الذي يُتوسّل أحيانا بقدرٍ من افتعال قد لا يتورع عن الابتزاز، وأما ذاك، أي السلاح النووي، فيتوقف مفعوله عند امتلاكه، وقد تحقق، ولكن سرا واغتصابا لا يخلوان من حرج، حيث نيل بالرغم من إرادة عالم (متواطئ في العمق، نعني قواه النافذة) يمقت انتشار ذلك الضرب من الأسلحة، أقله في ما يعلن ومن باب الزعم والادعاء أو الانتقاء.
والحال أنه يتعين الإقرار بأن إسرائيل ديموقراطية ناجزة، حتى إذا ما أريدَ دحضُ الأرجحية التي تنالها جرّاء صفتها الديموقراطية تلك بإنكار هذه الأخيرة، باء المسعى ذاك بالفشل، أو أقنع الذات وأرضاها، علما بأنها مقتنعة سلفا، ولكنه يقصر عن إقناع سواها.
كيف السبيل إذاً إلى نقد الديموقراطية الإسرائيلية، تحديدا في ما يجعلها سلاحا ضد الفلسطينيين، نقدا مجديا نافذا؟ الأرجح أن المدخل إلى ذلك قد لا يتمثل في البحث عن نقائص ديموقراطية الدولة العبرية، على ما هو معتاد (إذ أن الديموقراطية، على خلاف أنظمة الحكم المغلقة، لا تدعي كمالا) بل في مساءلة مظاهر اكتمال تلك التجربة، ما قد يبدو للوهلة الأولى عين المفارقة. فذلك الاكتمال هو المريب لا النقائص.
ذلك أن السمة الفارقة للديموقراطية الإسرائيلية، أنها قد تكون الوحيدة التي نشأت واستمر أداؤها دون انخرام، ضمن حالة استثناء، أي ضمن ظروف العداء الذي اكتنفها منذ قيامها وقبله، حربا معلنة على الدوام، سواء شُنّت مواجهة مفتوحة أم لم تُشنّ. أي بعبارة أخرى، أن الديموقراطية الإسرائيلية قد تكون الوحيدة التي قامت وعمِلت ضمن ظروف تُعدّ، في أية حالة أخرى سواها، حائلا دون قيام نظام الحكم ذاك، أو مدعاة لتعليق العمل به، على ما هو قاعدة «كلاسيكية» أو تكاد. تفسير ذلك أن حالة الاستثناء، بوصفها لحظة «سيادية» بامتياز، إن نحن استعرنا تعبيرا لكارل شميت، تفضي إلى إيلاء السلطة العليا إلى من يتولى السيادة العليا، وتعليق العمل بالقوانين وتعطيل المراتب التمثيلية. فهذه وتلك، لا يمكنها أن تكون فاعلة وسارية إلا في الحالات العاديّة، لذلك، كثيرا ما تعمد البرلمانات، حتى في أكثر الديموقراطيات رسوخا، في مثل تلك الحالات الاستثنائية من حروب وسواها، إلى التصويت على منح رئيس الدولة أو من يقوم مقامه في ذلك الموقع السيادي حقيقة أو تفويضا، «سلطات خاصة» لا يتخلى عنها إلا بعد عودة الأمور إلى نصابها. ذلك أن مثل حالات الاستثناء تلك، تستوجب انفرادا بالقرار (على ما هو الذريعة الكاريكاتورية الرثة في بلداننا وقوانين طوارئها وقادتها الملهمين) وتستنهض بين أفراد المجموعة الوطنية أو القومية أو سواهما، رابطة عضوية، أقوى وأعمق غورا، بديلا، وإن مؤقتا، عن تلك الرابطة التعاقدية التي تفي في تنظيم حياة المواطنين في الحالات العادية.
كيف نجحت إسرائيل في خرق تلك «القاعدة» وفي اجتراح نصاب ديموقراطي لا تلغيه حالة الاستثناء في ما يكاد يرتقي إلى مصاف تربيع الدائرة؟ الحقيقة أن النجاح ذاك، والذي كثيرا ما قدّم على أنه خارق يضاهي العبقرية، إنما هو قابل لتفسير يقع دون الخوارق بكثير. فما فعلته التجربة الديموقراطية الإسرائيلية أنها ماهت مماهاة كاملة بين الرابطة التعاقدية، قوام الحياة الديموقراطية، وبين تلك العضوية، بل جعلت هذه مادة لتلك ما دامت هي الحاسمة في تحديد الانتماء للدولة وللكيان (وهما في الحالة الإسرائيلية، وهذا من خصوصياتها، صنوان أو أن الدولة هي صانعة الكيان) والحائزة على الغلبة أو أنها تضطلع بدور المعيار الحصري في عملية التحديد تلك.
فتلك الرابطة العضوية، بلغ من «عضويتها» أنها لا تستند إلى الأرض مُعطى مسبقا، ناهيك عن رابطة المواطنة، بل هي تضرب بجذورها في الدين وفي الأسطورة حيّزَ تمايز منغلق. وتلك العضوية هي التي تجعل من أي يهودي مواطنا لدولة إسرائيل، بالقوة حيثما كان، وبالفعل ما إن تطأ أقدامه «أرض الميعاد». إنها «قومية مجردة»، ما قبل سياسية تماما، تتجسد في الدولة وبالدولة، أساسها الانتماء الديني وأداة تفعّلها في التاريخ الحرب، لذلك، جعلت الصهيونية من الإسرائيلي، يهوديا كنها ومقاتلا وظيفة، واتخذت السمتين تينك الشرطَ الشارط لمواطنة ناجزة، تستثني الإسرائيليين العرب، لأنهم ليسوا يهودا، وبالتالي ليسوا مقاتلين (فيما عدا الحالة الخاصة للعرب الدروز والبدو)، أي أن الدولة ليست دولتهم.
ديموقراطية كتلك الإسرائيلية، تقوم على تلك الرابطة العضوية، أي على ما قبل رابطة المواطنة، المواطنُ الناجز المواطنة فيها جندي، ضالع أبدا في حرب بقاء أو ما يحسبه كذلك، ليست إذاً بالأمر الخارق، كما ليس خارقا قيامها واطّرادها في كنف حالة الاستثناء، أو بالرغم منها كما يقول المعجبون، التي ما انفكت تعيشها منذ أن بُعثت إلى الوجود قبل ستين عاما. بل إن الديموقراطية الإسرائيلية، بمواصفاتها الآنفة الذكر، إنما تتغذى من حالة الاستثناء تلك. لعل ذلك، بعض ما يفسر إحجام إسرائيل عن التسوية وتعنتها في استبعادها: لأن الإسرائيلي غير المقاتل، يصبح في عداد يهود الشتات شبيها بهم، لا تفي يهوديته في تعريف إسرائيليته.
الديموقراطية الإسرائيلية ممكنة لأنها ديموقراطية معسكر أكثر منها ديموقراطية أمة، ولعل ذلك ما يعنيه وصفها بأنها «ديموقراطية إثنية»، حصرية لا تتسع لكل مواطنيها. ومن هنا فإن أفعل الطرق في التعاطي معها ليس الاكتفاء بإنكارها، بل التعرف بدقة على طبيعتها، وتجنيد تلك المعرفة، إن تحققت، لفائدة الحق الفلسطيني.
كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ ربما كنا، في هذا الصدد، أدرى، على ضوء التجربة، بما يجب تجنّبه منّا بما يتعين توخيه. أما ما يجب تجبنه، فأشكال نضالية أو «جهادية» بعينها شأن العمليات الانتحارية، وكل ما من شأنه أن يستدرج عنفا إسرائيليا مدمّرا على الفلسطينيين على نحو ما شهد قطاع غزة في الآونة الأخيرة، خصوصا أن التضامن معهم قد شحّ وأن إمكانية نجدتهم، من قبل «الأشقاء» أو من قبل المجموعة الدولية، أضحت سرابا.
وأما ما يتعين توخيه، فربما وجدنا في تجربة جنوب إفريقيا مثالا ملهما. فجمهورية الأبرتايد كانت أيضا ديموقراطية نموذجية، تعتمد نظام الحكم ذاك اعتمادا لا تشوبه شائبة، تحترم نواميسه وتلتزم قواعده، حكمَ قانون وتعدديةً حزبية وتداولا على الحكم وحرية رأي، ولكنها كانت، كنظيرتها الإسرائيلية، ديموقراطية إثنية، تنحصر في السكان من العنصر الأبيض، وتستثني السود والخلاسيين استثناء عنيفا بالغ العنف، تسومهم تمييزا فظيعا، على ما هو معلوم يغني عن الإسهاب.
ما حصل في جنوب إفريقيا، وأفضى إلى إنهاء نظامها المشين أن ديموقراطية هذا الأخير لم تعصمه من إدانة سياساته التمييزية، مقاطعة وضغطا واستنكارا، حتى الإجهاز عليه. الشين الأخلاقي المرتبط بالتمييز العنصري كان أقوى وأفعل، حتى غلب على كل «مزية» ادعاها ذلك النظام، بما في ذلك الديموقراطية وما أدراك ما الديموقراطية.
علّ في تلك السابقة ما يمكن استلهامه استلهاما خلاقا، حتى لا تظل ديموقراطية إسرائيل، معطوفة على استبدادنا، سلاحا مشهرا في وجه الحق الفلسطيني…
الحياة – 23/03/08
21/03/2008