النظام السوري: من طائفية (الأسد) الأب الباطنية إلى طائفية الإبن المعلنة!
عبد الرزاق عيد
هذه أول مرة يستقبل فيها سياسي بسوريا استقبالا رسميا بصفته الطائفية كماروني، رغم ادعاءات الجنرال عون بالعلمانية، وطموحه ليقدم نفسه كزعيم وطني عابر للطوائف، سيما من خلال تاريخه العسكري كقائد للجيش اللبناني أراد أن يخوض حربا (وطنية استقلالية) ضد ما كان يسميه (الاحتلال السوري) للبنان.
إن زيارة الصداقة التي قام بها الجنرال إلى لبنان استندت إلى تمثيله الطائفي الذي أريد له التعزيز سوريا ممن يفترض أنه كان العدو، حيث سرعان ما التقت الاندفاعة الغرائزية العسكريتارية الطائفية الانقلابية الشرسة في الإستيلاء على السلطة في لبنان مع النمط الغريزي العسكريتاري السوري الطائفي الإنقلابي المستولي على السلطة منذ حوالي نصف قرن في سوريا والموله باستعادة هذه السلطة في لبنان حتى ولو أتت عن طريق المحاصصة مع عون. إذ سيلتقي الطرفان الطائفيان العسكريان على مفهوم موحد للشرعية، يوحد الطموحين في الاستيلاء على لبنان. إنها شرعية القوة والإرغام، وهي شرعية مؤسسة على ثقافة الخوف والإرهاب واستعراض القوة الجسدية بما يتناسب مع مفهوم القوة العسكرية لعسكر ما قبل حداثة التقنية. فالجنرال يستقوي على شعبه اللبناني من خلال صناعة العظمة من خارج –خارج الذات وخارج المكان- من قبل نظام استند في صناعة العظمة على الإرهاب الداخلي والخارجي، أي تهديد العالم والمجتمع الدولي بسحق شعبه السوري، ومن ثم إرهاب شعبه- فعلا لا قولا- بتجارب من السحق لا تزال طرية في الذاكرة. وكلما تقادم تاريخ الأحداث عمد النظام إلى تذكير الناس بها بوصفها من مآثره، عبر التذكير بأحداث تدمر وحماة وحلب في بداية الثمانينات من القرن الماضي، ومن ثم المواصلة اليومية لوريث أبيه الطاغية في اعتقالات المثقفين والناشطين في سبيل إحياء المجتمع المدني الذي تم تقويضه على مدى حكم البعث والعسكر ومن ثم الطائفة فالعائلة، وذلك منذ الأسد الأكبر (السفاح الأكبر) الذي اقتنع بأطروحة مركزية في المكيافيلية، وهي إن لم تستطع أن تكسب حب الشعب، فاكسب خوفه منك، وترك كل ما تبقى من ذكاء الماكيافيلية في التعاطي والحوار مع الآخر، في خدمة اللعب مع اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وتلك هي القاعدة التي يتبعها الأبناء الورثاء الصغار حتى اليوم.
إن الجنرال الذي يفترض فيه لبنانيته واستقلاليته المعلنة، والذي كان طامحا لهذا التمثيل الشامل للبنان، ضاقت بأحلامه الكبرى كفاءاته القيادية الخرقاء، ومكوناته العسكرية ذات الميراث الإقليمي الإنقلابي، فلم يبق له سوى طائفته التي راحت تضيق أيضا بأهوائه، بل وبهذياناته اليومية ضد المكونات الوطنية للمجتمع اللبناني من كل الطوائف التي استعداها، وكأنه اعصار (تسونامي) الذي يجتاح الجميع، كما وصفه الزعيم وليد جنبلاط، بعد أن حول الجميع خلال فترة قصيرة إلى أعداء، وهو يعتقد أنه يوحد الجميع تحت رايته. فراحت طائفته (المارونية) ذات القيم الثقافية والمدنية الحداثية تتناءى عن شعبويته الرثة ولغته الهابطة وجموحاته الفردية الغثة بوصفها (مشروعا وطنيا). وعندما ضاقت به السبل لم يجد حليفا سوى الأصولية اللاهوتية الشيعية ذات المرجعية الثقافية والولاء الفارسي الإيراني الجامح في تنفجاته البلاغية ومعاظلاته الفقهية و(رستمياته القومية: رستم) البطولية الفارغة التي خلفها العرب خلفهم مع الخطاب السياسي الستيني ليتركها لحزب الله وكل المتهوسين للجهاد الدونكيشوتي، وذلك بعد هزيمتهم (الحزيرانية) 1967 التي يندفع لها الفرس وحلفاؤهم بهوس (تاتانوسي: غريزة تدمير الذات). فما لبثت قطاعات النخبة المارونية أن نأت بنفسها وبتاريخها الثقافي الصانع الرئيسي للبعد الحداثي والتنويري للنهضة العربية، أن ينزع منها جنرال طائش كل ميراثها النهضوي الممجد والمنظور له بعين التقدير ليس شاميا فحسب، بل وعربيا: مسيحيا وإسلاميا، وذلك على مذبح شهوات الجنرال للسلطة وأهوائه الغثة الغريزية الاغتصابية ذات الجذور العسكرية والشعبوية التي وجدت قناة موصلة لها مع نظيرها الشعبوي الغريزي الاغتصابي في دمشق المغتصبة، ممثلا بتحالف السلطة السورية المؤلف من ا(رعاع الريف وحثالات المدن)، الذين شكلوا القاعدة الاجتماعية لمشروع تسلط الأسد الأب الذي هيكل (طائفيا- باطنيا) قطاعات الاستئثار بالقوة: (الجيش –المخابرات)، فهيج الغرائز المضادة لدى قطاعات واسعة من المهمشين والمبعدين عن الحياة الإجتماعية من جهة، كما لدى القوى الاقتصادية المدينية والتمثيلات العائلية ذات المكانة المعنوية والفاعلية الأهلية لإخراجها من أي تمثيل سياسي أو فاعلية اجتماعية. إذ لم يترك رأسا مرفوعا إلا وتحركت في الأسد نوازع قضمه حتى ولو كان مختارا لحارة، لكنه يحترم نفسه وكرامته وقيمه الوطنية والأخلاقية. فما لبث أن قضم الأحزاب السياسية من خلال تأطيرها بما سمي بـ(الجبهة الوطنية التقدمية) بقيادة حزب البعث حيث قضم من خلالها أهم رأسين سياسيين في التاريخ السياسي السوري (خالد بكداش) الذي صغره وتفهه لحد أن يغدو مداحا له رداحا لأجله، وجمال الأتاسي الذي دخلها ثم انسحب منها احتراما لنفسه لكنه كان بذلك قد همشه من خلال دفعه وحزبه إلى السرية…، بل وبدأ قضم الرؤوس حسيا (كمال جنبلاط) في لبنان، ثم ستأتي الثمانينات لقضم رأس المجتمع السوري بكليته، فتحركت قوى طائفية مضادة شكلت عندها الممارسات الطائفية (الباطنية والمسكوت عنها) من العدوانية ما لا تقل عن عدوانية الأسد وبطانته وزبانيته، وذلك عندما قاموا بمذبحتهم المتوحشة بمدرسة المدفعية في حلب، لترسم تلك العملية أول أخدود يحفره الأسد في جسم الوحدة الوطنية، ولتكون تلك أول ضريبة متوحشة تدفعها طائفة الأسد التي أرادها قوة حراسة لنظامه، وذلك من خلال ما كشفته هذه العملية المريعة في درجة التوحش الذي نما في ظل سلطة الأسد، إذ كشفت عن نسب مخيفة في درجة الخلل في بنية الجيش السوري التي كانت تتهيكل طائفيا لكن باطنيا مسكوتا عنه قبل الانتقال إلى العلن اليوم، حيث سيبلغ عدد الطلاب العسكريين من طائفة الأسد ما يعادل 90%، بينما ما يقارب 10% لكل أبناء الطوائف السورية في مدرسة المدفعية، طبعا هذا قبل إغلاق أبواب (الجيش والأمن) بشكل شبه نهائي أمام الطوائف الأخرى، بل والقوميات الأخرى (الأكراد والسريان والشركس…الخ). لتشكل هذه الحادثة- (مذبحة مدرسة المدفعية)- الأخدود الداخلي الأول –كما ألمحنا- في الجسد الوطني للمجتمع السوري كجرح عميق لا يندمل.
لكن منذ هذه اللحظة، لحظة الانتصار البربري للسلطة على المجتمع في فتنة الثمانينات، بدأت (العلنية الطائفية) في الاستيلاء على جميع مكامن القوة في سوريا، مع الحفاظ على بعض التوازنات على المستوى الاقتصادي والسياسي التي كان يشرف عليها الطاغية الأب ما دام
حيا. لكن مع الشباب الورثاء، فقد اجتاحوا-طائفيا وعائليا- السياسة والاقتصاد علنا، مما تطلب (علنية طائفية) موازية على المستوى العقائدي والسياسي والتحالف الإقليمي. ففتحوا أبواب المجتمع السوري على مصراعيه أمام التشيع والتشييع، بل وبناء الحسينيات، بل العلنية على مستوى العراضات والاستعراضات للرموز الطقوسية والشعارات والعبارات الدينية الطائفية المذهبية الإيرانية، بل والتحدي في الشوارع بدون أي حرج من استخدام شباب الشيعة لقمع التجمعات والاحتجاجات السلمية للمعارضة السورية، حيث تم التعرف على العديد من الشباب اللبنانيين من حزب الله، يضربون رموز المعارضة السورية بتوجيه من قوى الأمن والمخابرات السورية التي يبدو أنها لم تعد تجد أو تثق بمرتزقتها من الشباب السوريين من خارج الطائفة التي راح الناس يتحدثون عن وجود واضح وظاهر للحرس الثوري الإيراني كقوى احتياطية للدفاع عن النظام الذي بلغ به الذعر من مجتمعه وشعبه أن لم يعد يكتفي بالجيش والمخابرات السورية التي لم تعد موثوقة بسبب الصراعات الداخلية في الغرف المظلمة ودهاليز الأجهزة، حتى يتم الاستعانة بقوة إيرانية لحماية العائلة التي تخشى التفتت والتآكل لجبهتها الطائفية مع توسع الحديث عن استخدام العائلة للطائفة في تحقيق مآربها في اللصوصية والفساد ونهب البلاد والعباد وإخراس صوت الشعب السوري.
غير أن زيارة عون المهرجانية اليوم والاستقبال الرسمي الاحتفالي الذي لم يحظ به رئيس لبنان ذاته، فإنها تأتي في إطار التجرؤ على (علنية طائفية فاجرة) في الكشف عن الوجه الطائفي الذي ظل حافظ الأسد يشتغل عليه سرا وباطنا. وكأن الشباب قرروا أن يبدلوا الأدوار التاريخية، حيث دفع الأكثرية المجتمعية السورية إلى (الباطنية) بعد هذه الحقبة الطويلة من القمع والقهر السياسي الذي يتبدى اليوم عن قمع مذهبي طائفي، وتحويل الأقليات إلى ظاهرية واثقة من نفسها وحضورها المتحدى الصارخ كما يفعل الشيعة الإيرانيون في عراضاتهم الدينية البدائية في سوق الحميدية وحول الجامع الأموي، الذي يشكل لهم رمز التحدي المطلق للكراهية والحقد الطائفي المتراكم عبر قرون من الزمن عن هزيمتهم النكراء أمام الأمويين بناة هذا الجامع العظيم، إذ لا يزالون يعيشون غصة هذه الهزيمة كفرس وليس كمسلمين بالطبع. أنها الغصة (المذهبية الولايتية القوماوية الماضوية المكتظة بغبار الماضي)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إعلان ميشيل عون (العلماني الزائف) كحبر أعظم، إذ يزور سوريا ليس كزعيم سياسي يتوجه للشعب السوري، بل كقسيس لمسيحيي الشرق يتوجه إلى رعاياه من الطائفة المارونية الأرقى عقلا وثقافة وقيما من هذا الجنرال (المتأسرل) سابقا حسب تعبير الإعلام البعثي المضحك، و(المتبعث) لاحقا حسب خطاب (القس عون) ذاته الداعي لرعاياه وللشعب اللبناني، الاعتذار لـ (سوريا الأسد) على حد وصف حليفه نصرالله لسوريا (أسيرة الأسد)، وأسيرة البعث الملحق بالطائفة الملحقة بدورها بالعائلة، الدعوة إلى الاعتذار عن كل ما ألحقه الشعب اللبناني بـ(سوريا الأسد) من اغتيالات وتصفيات واعتقالات وإهانات وسرقات واعتداءات وإتاوات…
وفق الآلية (الطائفية الأقلوية)، في تحدي الأكثرية التي تشكل عقدة النظام المعزول في دمشق، وهي عقدة (الأقلية الطائفية بل والسياسية) التي تجعل من الديموقراطية العدو رقم واحد لعصابات النظام السوري)، حيث هذا العداء يتحكم بالوعي واللاوعي الثقافي لطغمهم الاستيطانية في التعويل على المراهنة على الدور الأقلوي حيثما كان، وهذا ما يفسر تعويلهم على الطائفة المارونية التي تشكل أقلية مسيحية في سوريا. فهي لا تشكل إلا 10% من مسيحي سوريا الكاثوليك والأرثوذكس الذين اعتقل الكثير لأنهم لم يحضروا قداسات الجنرال العلماني اللاهوتي العسكري الاستقلالي وهو يعيش طقوس مسوخه وشقلباته (الأكروبولاتية) وتحولاته من (الأسرلة إلى البعثلة)، ومن ثم الانتقال إلى جبهة الصمود والتصدي والممانعة ضد تنفيذ قرارات الأمم المتحدة (1559) الذي يفاخر به الجنرال بوصفه وراء صدور هذا القرار، وبمثابته هو من حرض العالم على اتخاذه، ومن ثم وعلى اتخاذ قرارمحاسبة سوريا. ولنتصور بهذه المناسبة أي احترام أبقاه الجنرال لنفسه بهذه القفزة بالفراغ أمام الأمم المتحدة والمجتمع ادولي، متصورا وكأن العالم مثله مثل مريديه العاشقين له في كل (شقلباته) ومن ثم التحول معه ومع كل تحولاته الشبحية. بل لنتصور هذا المكسب السوري المضحك الذي ينتظر من الجنرال مكاسب سياسية سفحها الرجل بخفة وسفه وهو يتقافز على الحبال التي يمكن أن توصله إلى غرضه المشخصن الذي يشخص مصلحة لبنان في مصلحة الجنرال أن يكون رئيسا، وهو لا يقل سفها عن سفه حلفائه الصبيان من العصابات الطائفية والعائلية وهي لا تخفي تشاطرها في اللعب الطائفي والمراهنة على “إنجاد نجاد من حبل المحاكمة الدولية” وانتظار “عون الجنرال عون” في العودة إلى فردوس لبنان المفقود من خلال التصويت له أمنيا وإرهاب مواطنيه اللبنانيين لكي يصوتوا له ولكتلته الانتخابية المتلاشية، وذلك مقابل: “عون الجنرال عون” على مواجهة المحكمة الدولية في اغتيال الشهيد الحريري، الذي سبق الجنرال الجميع في تحميل (الاحتلال السوري) مسؤوليته… لكن كل ذلك قبل استبدال قبعة الجنرال بقلنسوة الكاهن…
إذن في هذا السياق – المتوتر العصابي الهذائي – من اقتراب موعد استحقاقات إتاوات التاريخ، تأتي زيارة عون. وهو سياق اللجوء إلى العلنية الطائفية في ممارسة السياسة الداخلية وتحالفاتها، والخارجية وصفقاتها عندما يستقبل بوصفه ممثل طائفة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق من تأمين (أئمة طوائف) من لبنان للشعب السوري… فالتساؤل ينهض فيما إذا كانوا قد اختاروا لمسيحيي سوريا ميشيل عون إماما….! فمن تنتظر الأكثرية السنية أن يرشحوا لها (إماما) لقيادتها وفق الحكمة (الأسدية)، ما دامت السياسة السورية الخارجية غدت تستند إلى معايير طائفية صريحة ومعلنة في تحديد الموقف من الصديق والعدو، وهي التي تقدر من الرئيس الشكلي الرسمي للبنان (سليمان)، والرئيس الحقيقي (عون) الذي تمنحه رئاسة المسيحية في سوريا مقابل أن يمنحهم رئاسة المسيحية في لبنان…!؟
ترجح المصادر الموثوقة والموثقة تخمينيا بأنه لن يكون سوى (مسيلمة: اليكني) ليؤمهم في صلاة الجمعة البعثية في دمشق، كما كان قد أمهم في صلاة الجمعة (الولايتية)، عندما تم- في حينها- التوحيد الوطني اللبناني (للفقيه الأيراني والرفيق البعثي) خلف (مسيلمة: القوموي :الأسدي –القاعدي…!) في بيروت!؟
كاتب سوري
شفاف الشرق الأوسط