صبحي حديديصفحات سورية

الجولان في البورصة: الحدود الوطنية أم خرائط البيع والشراء؟

null
صبحي حديدي
على نقيض قدوتها الروحية غولدا مائير، التي أرادت من اتفاقية سلام سورية ـ إسرائيلية أن تتيح لها التبضّع في سوق الحميدية الدمشقي الشهير، لا تريد تسيبي ليفني من اتفاقية كهذه أن توفّر لها فرصة تناول صحن من الحمّص الشامي: الأمر أخطر بكثير، تقول وزيرة خارجية الدولة العبرية، وزعيمة حزب كاديما الطامحة إلى أن تكون ثاني امرأة تتولى رئاسة الوزارة الإسرائيلية، بعد مائير. “المهمّ عندنا ليس سلام فتح السفارات وتناول الحمّص في دمشق، بل وقف تهريب الأسلحة إلى حزب الله عبر سورية، وعلاقاتهم القوية مع إيران، ودعمهم اللامحدود لمنظمات إرهابية مثل حماس”، قالت ليفني، قبل أن تختم تصريحها ببعض الفذلكة اللغوية: “لم أسمع بمفاوضات تنتهي قبل أن تبدأ”.
لكنها مفاوضات بدأت منذ سنة 1973، في واقع الأمر، حين وافق حافظ الأسد على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، الأمر الذي عنى اعتراف نظامه بأنّ الدولة العبرية جزء لا يتجزأ، عملياً وحقوقياً، من تكوين المنطقة ونظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي. ولقد تواصلت تلك المفاوضات على نحو او آخر، سرّاً أو علانية، في عهد الأسد الأب كما في عهد وريثه الأسد الابن، وفي ولايات إسحق شامير وإسحق رابين وشمعون بيريس وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك وأرييل شارون وإيهود أولمرت، على الجانب الإسرائيلي. وفي حصيلة الحال، الراهنة أو تلك التي ابتدأت مع مفاوضات أيار (مايو) 1974 تحت خيمة سعسع (على مبعدة 39 كم من دمشق) وأسفرت عن تطبيق نظام فصل القوّات الذي أسكت المدافع الثقيلة مثل الرشاشات الفردية الخفيفة، كان الناظم الفعلي لعلاقات القوّة العسكرية والأمنية بين سوية وإسرائيل أبعد ما يكون عن مسمّيات مثل “حالة العداء” أو “حالة الحرب”.
بيد أنّ حديث ليفني عن نهاية قبل ابتداء، في ملفّ المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، يستهدف ذرّ المزيد من الرماد في أعين الناخبين الإسرائيليين، الذين تقول استطلاعات الرأي إنهم يميلون إلى الليكود ونتنياهو أكثر من ليفني وكاديما أو باراك وحزب العمل. وأمّا مناسبة هذا العزوف عن طبق الحمّص الشامي، وتفضيل قائمة الأطعمة الأخرى الكلاسيكية (أسلحة حزب الله، العلاقة مع إيران، دعم “حماس”، إيواء منظمات تصنّفها إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة ومعظم الغرب، في خانة “الإرهاب”…)، فهو حكاية حدود الجولان التي طفت على سطح الأحداث مؤخراً. وكانت تقارير صحفية، ومعلومات رسمية سورية، قد أشارت إلى وثيقة قدّمها النظام السوري إلى إسرائيل، عبر الوسيط التركي، ترسم حدود الجولان المحتلّ، أو بالأحرى ترسم ما يمكن أن يصبح الحدود الدولية بين سورية والدولة العبرية في حال التوصّل إلى اتفاقية سلام نهائية. كذلك تحدثت مصادر مطلعة عن ستّ نقاط جغرافية ترتكز إليها تلك الحدود، ونقل مسؤولون غربيون على لسان بشار الأسد أنه “يريد أن يعرف وجهة نظر إسرائيل عمّا يشكّل أراضٍ سورية محتلة، قبل إحراز أيّ تقدّم”.
وهو أمر عجيب، من حيث المبدأ والتوقيت والغرض، قريباً كان أم بعيد المدى. فهل كانت حدود الجولان الوطنية الرسمية التاريخية، أو كما هي بحسب خرائط 4/6/1967 في أقلّ تقدير، مجهولة لدى الجانب الإسرائيلي حتى الآن، أو غير واضحة الخطوط والتضاريس والمعالم، ولهذا فإنّ المذكّرة السورية الجديدة تؤكد عليها اليوم؟ وإذا كان هذا الإفتراض سوريالياً، وكانت مفاوضات سابقة قد تناولت الحدود السورية للجولان بالمتر الواحد وليس بالكيلومتر (كما قيل في الخلاف الشهير بين باراك والأسد الأب، مطلع سنة 2000 وقبيل رحيل الأخير، حول بضعة أمتار على الضفة الشمالية ـ الشرقية لبحيرة طبريا)، فأيّ حدود هذه التي ترسمها، أو تعيد ترسميها، المذكرة السورية؟ ولماذا في هذا التوقيت، حين توقفت جولات التفاوض غير المباشرة بين سورية وإسرائيل إلى أجل غير مسمّى، ويوشك رئيس الوزراء الإسرائيلي على مغادرة الحلبة السياسية، ولا يلوح أنّ خليفته في قيادة الحزب تمتلك غالبية قلوب الإسرائيليين في انتخابات الكنيست القادمة؟ وإلى أيّ عنوان تتوجه المذكرة السورية: إلى أولمرت الذي يحزم حقائبه، أم إلى ليفني التي لا ترغب في طبق الحمّص، أم إلى نتيناهو المتشدد الرافض أصلاً لأي استئناف للمفاوضات على القناة السورية؟
ثمة، في السعي إلى ملاقاة هذه التساؤلات، احتمال أوّل يخصّ لعبة الردّ والردّ المضاد بين الأسد وأولمرت، إذْ تناقلت التقارير خبراً عن رسالة إسرائيلية، عبر الوسيط التركي دون سواه، تسأل دمشق عمّا ستكون عليه علاقات النظام السوري مع إيران و”حزب الله” و”حماس” في حال التوصّل إلى اتفاقية دائمة، وأنّ خلاصة ردّ الأسد كانت التالية: لا يحقّ لأحد أن يملي علينا سياساتنا الخارجية، ولكن من الطبيعي أن تتبدّل الخريطة السياسية للمنطقة بموجب سلام سوري ـ إسرائيلي. الاحتمال الثاني يقرأ المذكرة السورية من باب الهروب إلى الأمام: لقد مارس الفرنسيون والبريطانيون ضغوطاً على الأسد كي يقبل بجولة مفاوضات أخيرة قبيل رحيل أولمرت، وليست المذكرة حول حدود الجولان سوى ذريعة للتملّص من تلك الجولة ـ التي ستذهب هباء، كمثيلاتها السابقات ـ دون إغضاب باريس أو لندن، وربما مع التسبب في بعض الإحراج للفريق الإسرائيلي. احتمال ثالث هو اقتناع الأسد بأنّ المؤسسة السياسية الإسرائيلية قد تأخذ على محمل الجدّ التوصية التي جاءت في التقرير السنوي الدوري لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والتي نصحت بالإنسحاب من الجولان (كان التقرير قد أوصى، كذلك، بشنّ ضربة جوية تدميرية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية!).
هنالك احتمال رابع، ليس بعيداً عن النصائح/الضغوط الفرنسية ـ البريطانية، مفاده أنّ إحياء القناة السورية ـ الإسرائيلية قد يصبح أولوية عند أوباما، على حساب القناة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وتفادياً لمزيد من الإنجرار العبثي خلف ما يُسمّى “قضايا الحلّ النهائي”، مثل القدس وحقّ العودة وتفكيك مستوطنات الضفة وسواها، حيث الحلول عالقة، أو جامدة آخذة في مزيد من الجمود. هذا، في أقلّ تقدير، رأي بعض أفراد فريق الشرق الأوسط الذي عمل في الخارجية الأمريكية خلال ولايتَيْ بيل كلينتون، وفي طليعتهم يهود من أمثال دنيس روس وروبرت مالي وآرون ميللر، الذي نشر مؤخراً مقالة في صحيفة :واشنطن بوست”، عنوانها ببساطة: “إبدأ من سورية”، ناشد فيها الرئيس المنتخب أن يضع جانباً، أو إلى حين، السلام العربي ـ الإسرائيلي أو الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وأن يبدأ من حيث لا ينصحه أحد أن يبدأ. ويقول ميللر، منذ الفقرة الأولى في مقاله، إنّ أوباما: “سوف يُقصف بالتوصيات حول كيفية مقاربة صنع السلام العربي ـ الإسرائيلي، وهنالك نصيحة واحدة محددة ينبغي أن لا يأخذ بها، وهي جعل السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني أولوية عليا. لا صفقة في الأفق هنا. ولكن هنالك فرصة لاتفاقية سورية ـ إسرائيلية، على أوباما أن يغتنمها”.
ما يزيد هذا الاحتمال إغواءً في ناظر الأسد أنّ أوباما يميل، وأعلن ذلك صراحة مؤخراً، إلى إطلاق عملية شاملة للسلام في الشرق الأوسط، تعتمد على المبادرة السعودية الشهيرة التي أقرّتها القمة العربية في بيروت سنة 2002، والتي تنصّ على اعتراف الدول العربية بإسرائيل، ومنحها صيغة فيتو على عودة لاجئي 1948 الفلسطينيين، مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة، وفي عدادها الجولان بالطبع. من جانب آخر، لعلّ تصريحات ليفني الأخيرة، حول استعدادها لقبول المبادرة السعودية، ومثلها تصريحات الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس السخية تماماً في إطراء تلك المبادرة، قد ضاعفت الإغواء إياه.
كلّ هذه الاحتمالات لا تطمس حقيقة كبرى تشير إلى إمعان النظام السوري في جعل أرض الجولان محلّ بورصة مفتوحة، أقرب إلى مزاد غير علني بين مختلف الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية، من جهة أولى؛ والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مثل فرنسا وبريطانيا، من جهة ثانية؛ فضلاً عن توظيف المرتفعات المحتلة في الخطاب الديماغوجي الموجّه للإستهلاك، الداخلي السوري وكذلك العربي والإقليمي، حول الصمود والتصدّي والممانعة. وقبل سنتين فقط كان الإعلامي السوري حمدي قنديل قد طرح السؤال التالي على الأسد (وأنقل ـ بالحرف وبعلامات الوقف ذاتها ـ عن موقع وكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا): “أليس في سورية غيرة أن حزب الله حقق ما حققه وأن كل السوريين يجب أن تكون لديهم الغيرة أننا لم نستطع أن نحرر الجولان حتى تاريخه بأي وسيلة سواء كان بالجيش أم بالمقاومة…”؟ ولقد سارت بعض إجابة الأسد كما يلي: “قلت إن تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا.. لكن هذه العزيمة بالنسبة لنا كدولة تأخذ الاتجاه السياسي وتأخذ الاتجاه العسكري.. كما قلت بالعودة لموضوع المقاومة هو قرار شعبي لا تستطيع أن تقول دولة ما.. نعم.. سنذهب باتجاه المقاومة.. هذا كلام غير منطقي.. الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء”.
في قراءة أخرى لهذا الكلام، الشعب هو وحده المسؤول عن انبثاق المقاومة في الجولان، وما دامت هذه لم تنبثق بعد، ومنذ اتفاقية سعسع لم تُطلق رصاصة واحدة في الجولان إلا لإخافة رعاة الأغنام والماعز، فإنّ الشعب السوري هو المقصّر تالياً، وهو الذي لا يريد أن يقاوم! ولكي يكتمل معنى الهرطقة الرئاسية، وجواباً على سؤال قنديل عن حدود صبر سورية على الإحتلال الإسرائيلي، قال الأسد: “هذا ما ستحدده المرحلة القصيرة المقبلة.. وأنا قلت في هذا الخطاب بشكل واضح بأن الأجيال الحالية ربما تكون آخر أجيال تقبل السلام.. فإذاً سينتهي هذا الصبر مع انتهاء صبر هذه الأجيال. بمعنى أن عملية المقاومة هي عملية شعبية.. ليست قرار دولة أن تبدأ بالمقاومة.. فعندها ربما تتجاوز الناس حكوماتها أو دولها وتقوم هي بهذا العمل المقاوم”!
وأمّا في سوق البورصة الفعلي، حيث تناقش المؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية آفاق الشراء والمبيع، فإنّ الأمور أكثر جدّية من صحن الحمّص الشامي والمذكّرة السورية حول ترسيم الجولان. وإذا كانت طبيعة نظام الإستبداد في سورية لا تسمح بتسريب تفاصيل تلك المذكرة العجيبة، لا سيما النقاط الجغرافية الستّ، فإنّ الزمن لن يطول حتى تتكفل الصحافة الإسرائيلية بكشف النقاب عن المستور. وفي الإنتظار، قد لا يجانب المرء الصواب إذا اعتبر أنّ حدود الجولان الوحيدة التي تعتمدها الدولة العبرية حالياً هي تلك التي تقول إنّ إسرائيل تستولي على مياه نهرَي اليرموك وبانياس، وتعتمد على الجولان في تأمين 50% من احتياجات المياه المعدنية، و41% من احتياجات اللحوم، و21% من كروم العنب المخصصة لصناعة الخمور (38% منها تصدّر للخارج)، وقرابة 50% من احتياجات الفاكهة. وهنالك 18 ألف مستوطن إسرائيلي، يقيمون في 33 مستوطنة، ويحتكرون استغلال الغالبية الساحقة من الأراضي الصالحة للزراعة.
كذلك يظلّ بين أبرز الحقائق على الأرض ذلك التشريع الذي صدر عن الكنيست سنة 1981، وقضى بضمّ الجولان إلى الدولة العبرية عن طريق تطبيق القوانين الإسرائيلية على كامل المرتفعات المحتلة. وإنها لمصادفة باعثة على الأسى أن تصل المذكرة السورية إلى الطرف الإسرائيلي في هذه الأيام بالذات، حيث تمرّ الذكرى الـ 27 لذلك التشريع الرجيم!

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى