أيقونة البرابرة
صبحي حديدي
الصورة، وهي أيقونة عصور العولمة بامتياز، تظلّ ساحة حرب شرسة لا تختلف في الشدّة والضراوة، وفي الوحشية والبربرية، عن قتال القاذفات والدبابات والمدفعية في ميادين الحروب الحيّة. ولا يجد المرء دليلاً على صحّة هذه المقارنة، واتضاح أبعادها الخافية بصفة خاصة، مثلما يجده حين تشنّ الدولة العبرية عدواناً همجياً على الشعب الفلسطيني، تعرف مسبقاً أنها فيه الخاسرة على صعيد معركة الصورة. وهنا تقتضي الحاجة استنفار الإمبراطوريات الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، سواء تلك التي تتحكّم رساميل يهودية في إدارتها، أو يملك نافذون يهود تأثيراً حاسماً في قراراتها، يبلغ أحياناً النطق بالكلمة الفصل في ما يُنشر وما يتوجب أن يغيب حتماً، وأياً كانت المحاذير المهنية الناجمة عن انحياز فاضح كهذا.
ورغم أننا شهدنا الكثير من هذه المباذل الإعلامية منذ بدء’العدوان البربري على غزّة، لدى الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية، فإنّ شروع إسرائيل في الطور البرّي من العدوان يعد بالمزيد من مباذل أشدّ انحطاطاً وتدنياً. وفي الإنتظار، لعلّ المرء يستعيد حكاية بهذا الصدد، غزّاوية أيضاً، غير حمساوية البتة لأنها وقعت قبل ثماني سنوات. وكانت المجلة الإلكترونية الأمريكية الشهيرة MSNBC قد اعتادت تنظيم مسابقة حول أفضل الصور الفوتوغرافية في العام المنصرم، يشارك في تحكيمها قرّاء المجلة، عن طريق التصويت الإلكتروني المباشر. والخطوة الأولى تنطوي على قيام لجنة تحكيم مختصة بتصفية آلاف الصور في شتى الميادين، واختيار عدد محدود منها لتكون بمثابة اللائحة الخاضعة لتصويت المشاهدين، وهذه هي الخطوة الثانية.
لائحة العام 2000 تضمنت، على سبيل الأمثلة، مشاهد من أبرز أحداث العام وأكثرها جذباً لانتباه المشاهدين، ليس في الولايات المتحدة وحدها بالطبع، بل على امتداد العالم بأسره. هناك، مثلاً، ‘قبلة النصر في بلغراد’، التي تصوّر انهيار نظام ميلوشوفيتش؛ و’وجه شيشنيا’ التي تلتقط جانباً من مأساة المدنيين الشيشان؛ ومشهد تحطّم طائرة الكونكورد الفرنسية؛ وانتزاع الطفل الكوبي إليان غونزاليس من أيدي أقربائه الكوبيين في ميامي؛ و… الصورة الأشهر على الإطلاق: ‘موت في غزة’، عن استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة.
ومنذ انطلاق المسابقة، تقلّب موقع ‘موت في غزة’، فصعدت الصورة إلى المركز السادس، ثمّ الأوّل، فالرابع، حتى استقرّت أخيراً في المركز الأوّل بأغلبية مليون صوت. وكان واضحاً أنها سوف تفوز دون منافسة تُذكر، خصوصاً بعد أن تحوّلت إلى مادّة لنوع من حرب الرسائل الإلكترونية بين المتعاطفين معها (ومع الإنتفاضة والفلسطينيين إجمالاً)، والمناهضين لها (وللإنتفاضة والفلسطينيين إجمالاً، واستطراداً). وفي الحصيلة ارتفع’عدد الأصوات المؤيدة للصورة إلى ثلاثة ملايين صوت، من مختلف أنحاء العالم، مقابل نحو نصف مليون عند إطلاق المسابقة.
فهل فازت ‘موت في غزة’؟ كلا، لأنّ الناطق باسم MSNBC أعلن أنّ التحرير قرّر إلغاء المسابقة، نهائياً! ‘لدينا أدلة مادية على وجود تزوير في التصويت’ قال بيتر دوروغوف، الناطق باسم المجلة، موضحاً أنّ زوّار الموقع الإلكتروني صوّتوا من أمكنة جغرافية معيّنة، تبدأ من إسرائيل ولا تنتهي عند المملكة العربية السعودية، الأمر الذي يدلّ على ‘انحراف في نزاهة التصويت’. نعم، اقرأوا ثانية وجيّداً ما يقوله دوروغوف: ‘انحراف في نزاهة التصويت’! ما الذي يمكن أن تعنيه هذه العبارة؟ وكيف يمكن للتصويت أن ينحرف إذا كانت المجلة الإلكترونية معروضة على شبكة الإنترنت العالمية، أي العالم بأسره، وليست مقتصرة على منطقة جغرافية بعينها؟ وكيف يمكن الحديث عن نزاهة أو تزوير، إذا كان من حقّ كلّ زائر للموقع أن يصوّت على هواه؟ وإذا كان نظام اختيار الصورة الفائزة لا ينطوي على قاعدة أخرى سوى حصول الصورة على أغلبية الأصوات، فكيف انحرف التصويت، وكيف وقع التزوير؟
الفاضح أكثر كان ذلك التصريح الذي أطلقه بريان ستورم، مدير قسم الملتيميديا في المجلة: ‘لم يعد هناك من معنى في الإبقاء على الصورة، وعلى المسابقة كلّها في الواقع. لقد كانت الفكرة أن نمنح القرّاء صوتاً مستقلاً. لا معنى الآن لمتابعة المسابقة، فقد تشوّهت وانحرفت عن هدفها’! الشطر الآخر من البذاءة هذه أنّ الصورة التي احتلت الموقع الثاني كانت تلتقط جرواً كسيحاً، وليس من غير المشروع أن يرتاب المرء في أنّ بريان ستورم وبيتر دوروغوف وبقيّة رهط التحرير كانوا يفضّلون الجرو الكسيح على الطفل الفلسطيني محمد الدرّة.
وهل من فاحش التخييل أن نرجّح انحيازهم إلى جراء العالم الكسيحة، بدل أطفال العالم القتلى أو المرضى أو الجوعى؟ وكيف ينتظرون من أبناء جيل محمد الدرّة، فلسطينيين وغير فلسطينيين، أن لا يجنحوا إلى أصول الأصول في تصعيد المرارة، وشَخْصَنة الحقد، واعتناق ثقافة الإستشهاد؟ واليوم بالذات، إذْ يقرّر تحرير الـ MSNBC منح المرتبة الثالثة للصورة الغزاوية اليتيمة (مشهد فتى فلسطيني يقف وسط أطلال مسجد في مخيّم جباليا)، بعد صورة لطائرة ركاب متحطمة ومشهد صفائح جليد في برلين، ما الذي تغّير حقاً في قواعد حروب الصورة؟ وكيف، والحال على ما هي عليه من البذاءة الأخلاقية، يريدون لنا أن نكفّ عن شحذ أسلحتنا… في انتظار هؤلاء البرابرة؟
خاص – صفحات سورية –