الثقافة في مواجهة القتل
زياد ماجد
أن تكون بيروت رغم مصابها الجلل عاصمة دولية للكتاب عام 2009، فالأمر، وبمعزل عن أي شيء، مدعاة احتفال وتوثّب لما يمكن أن يقوم من تحدّيات واستحقاقات في المدينة ودور نشرها ومكتباتها ومؤسساتها الثقافية والإعلامية والجامعية. ذلك أن السعي للتحوّل قبلة للكتب والكتّاب والقرّاء ولو لعام، قد يحرّك هواءً عليلاً في الحاضرة العربية والمتوسّطية يُعيد طرح بعض القضايا المغيّبة في غمرة الاحتقانات والمواجهات الدائرة.
محنة القراءة ومحن الحرية
يُقال الكثير في تراجع القراءة وتناقص القرّاء واختناق العديد من المكتبات ودور النشر في لبنان والمنطقة. ويجري تعداد الأسباب، بدءاً بما أصاب الدول العربية التي كانت أسواقها “تستوعب” النشر من ويلات، مروراً ببروز الإعلام المرئي وإبعاده الجيل الطالع عن المطالعة والتحصيل المعرفي الجاد، وصولاً الى غزو ثقافة الخفّة واللغو والكيتش والصراخ أكثر المجتمعات وفرضها قيماً لا تشجّع على القراءة ولا على اقتناء الكتب والإصدارات القديمة والحديثة، ناهيك بالأزمات الاقتصادية وتآكل القدرات الشرائية للمواطنين واضطرارهم الى تصنيف المنتج الثقافي في عداد الكماليّات.
على أن ما يُذكر لماماً هو أخطر من كل ذلك. فمحنة القراءة في منطقتنا هي قبل كل شيء محنة الحرية. حرية الفرد وحرية الجماعة وحرية الإبداع وحرية الاختلاف وحرية النقد وحرية الرفض وحرية الحركة. والمفارقة عندنا أن تراجع الأمّية شعبياً في العقود الأخيرة، واستقطاب المدن وضواحيها للهجرات الريفية الكثيفة (بمعزل عن الترييف والاستلاب اللذين رافقاها) لم يرفعا معدّلات القراءة ولم يوسّعا دوائر المهتمّين باكتشاف الكتب والغوص في صفحاتها والتمتع بفضاء الحرية الذي تؤمّنه. بل على العكس، تراجعت الطبعات والإصدارات في الكثير من المجالات، وضاقت مساحات الإبداع، ولم تتكاثر الكتب على الأرجح إلا في أبواب ترافقها تغطية إعلامية مرئية، تشمل الطبخ والفلك والأبراج وطب الأعشاب وبعض الأدبيات الدينية الرديئة، حيث لا حاجة لأي سلطة الى الرقابة والقمع.
بهذا المعنى، لا يمكن فهم التردّي المروّع خارج البحث في نكبتنا الكبرى: الاستبداد. الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، وهما غالباً ما تكاملا في التاريخ العربي والإسلامي لغاية غروب السلطنة العثمانية أوائل القرن العشرين، وعادا الى الانسجام منذ سبعينيات القرن الماضي. وإذا كان النفط ونظمه تضاف كعناصر ساهمت في التردّي والعودة الى توأمة الاستبدادين منذ الفورة الكبرى عام 1973 والتقدّم السعودي الذي تلاها، ثم الثورة الخمينية عام 1979 والتوسّع الإيراني الذي أعقبها، فإن الأمر على صحّته يحتاج الى أن تُعطف عليه عناصر أخرى، تُحيلنا جميعها الى التزاوج بين السياسي والديني.
من هنا، ينبغي التركيز من جديد على الاستبداد، مزوّداً بالنفط كان أم بالعسكر (أم بالإثنين معاً)، إذ أنه – بعد سنواته “العلمانية” المحدودة التي أتاحت بعض الكتابات في مجالات محدّدة لا تمسّ مشروعية الحكّام وانقلاباتهم ولا تتطرّق الى جرائمهم – عاد ليصبّ في طاحونة التكامل التسلّطي الدنيوي والغيبي. حتى أن بعض الأنظمة وهو يذبح “إسلاميي” مجتمعاته وينكّل بهم، كان يشجّع نشر الكتب والتفسيرات الدينية مدّعياً تملّكه الدين الحقيقي في مواجهة “المتطرفين” أو “الإرهابيين”.
وبذلك، اكتملت حلقة القمع والرقابة، وتراجعت هوامش الإبداع، بالترافق مع مناهج تعليمية هي أساساً ضد الحسّ النقدي والحشرية المعرفية الدافعة الى القراءة وطرح الأسئلة، وضد المساواة بين الناس، جنسياً وعرقياً وطبقياً و”سياسياً”. فكيف والحال أن هذه العناصر تتضافر في مجتمع بطركي في الأساس؟
وإن كانت بيروت نجت الى هذا الحد أو ذاك من الاستبداد المذكور وآثاره لغاية بدء حربها الأهلية وتعرّضها للحروب الإقليمية والاجتياحات، وكانت بالتالي حتى ال1975 ملاذ الكتّاب العرب وكتبهم ودار نشرهم ومقهى صخبهم، فإنها راحت تتّجه وسط الفوضى والعنف والتشرذم وسطوة أجهزة المخابرات ونشوء التيارات الظلامية الى الأفول بوصفها عاصمة الحرية عربياً، وسقط بعض مثقفيها تحت رصاص الغدر، وصمتت كثرة من منابرها، ولم تأتِ نهاية الحرب وقيام السلطة الجديدة مطلع التسعينات لتعيد تأسيس دورها الثقافي والريادي في المنطقة. فإعادة الإعمار لم تكن مشروعاً يتخطّى البنية التحتية والاستهلاك وتطوير الخدمات (على أهمّيتها وضرورتها جميعها)، و”سوليدير” كانت محور معارضة كثر من المثقفين لذاكرة ناقصة ودور مجتزأ تريد إعادة تركيبهما لوسط بيروت. أما السياسة، فكانت حكراً على قوى متناقضة الخلفيات والاهداف ترعاها مظلة سورية (مسلّم لها إقليمياً ودولياً) وتضبط المخابرات خطوط تواصلها وانقطاعها، قبل أن تنقضّ عليها بالكامل بعد العام 1998، لتصبح هي السلطة الناظمة لحياة الناس ومؤسساتهم متّكئة الى عنفها الرمزي (المجرّب مادياً سابقاً) والى هشاشة تكوينية في اجتماع هؤلاء الناس، كانت الحريات والتعددية تؤجّل انكشافها، فصارت بعد أفول تلك الحريات نهباً للإستثارات تأجيجاً لوهنها ومواجعها وقدرتها على التفرقة وبناء الاصطفافات المتقابلة.
الاستقلال اللبناني الثاني
على أن فرصة الانعتاق من الأمر الواقع وما يرسيه ثقافياً من تصحّر وترهّل وصمت ورقابة، وهي أطلّت مع تحرير الجنوب وانتهاء الابتزاز باسم الاحتلال الاسرائيلي، صارت حقيقة واقعة بعد انتفاضة الاستقلال المليونية عام 2005 (التالية لاغتيال الرئيس الحريري عقب اصطدامه بالحكم السوري) وما حوته من نشاطية ودينامية ومن احتمالات تغيير وبناء واستعادة لدور بيروت، لم تُتوّج بانتصار ثقافي يرافق الانتصار السياسي على العهد المخابراتي. والأسباب لذلك عديدة، مرتبطة بالقوى الاجتماعية التي حملت الانتفاضة، وبالطبقة السياسية التي قادتها، وبالوعي (واللاوعي) الطائفي الذي أدار حركتها، وبالانتخابات التي تلتها، وبالتقصير الذي تشارك المثقفون في تحمّل مسؤولياته. وهي لم تُتوّج بانتصار ثقافي، أيضاً لأن الهجوم المضاد عليها بادئ ما استهدف شخصياتها الثقافية. فلم تكن صدفة بالتالي، أن يكون أول شهدائها هو نفسه أبرز مثقّفيها، مؤرّخ المدينة التي احتضنتها وكاتب الافتتاحيات في الجريدة التي واكبتها، سمير قصير.
وليست صدفة اليوم كذلك، أن يكون المثقفون الاستقلاليون هدفاً للشتم والتخوين والتهديد، وأن يسعى كتبة الهجوم المضاد المعلَنون منهم والمختبئون، المدّعون نزاهة وغضباً ساطعاً أو المنغمسون علناً في عمل الأجهزة وأحزابها الكبيرة والصغيرة، الى محاولة تزوير ما يقولون وتحوير كلامهم في سعي لتشويه التزامهم وعملهم والتحريض عليهم.
السياسة مدخلاً…
وليست صدفة أن تحتل إحدى ميليشيات الهجوم المضاد منطقة رأس بيروت، منطقة الجامعات وصالات السينما والمسارح والمكتبات ودور النشر والمقاهي، حيث كان موطن الفعل الثقافي البيروتي تاريخياً (وحيث كان بعض مثقفي الحزب يومها – الميليشيا اليوم، من بين الروّاد). وقد لا تكون صدفة أن يغطّي هذا الاحتلال “إنجاز” افتتاح سفارة للنظام السوري في بيروت. فالسفارة ستقع في المنطقة نفسها…
وبهذا، يحاول الهجوم المضاد منع بيروت من استعادة دور ثقافي يساهم في صنعه اللبنانيون، والمعارضون العرب والكتّاب الذين لا تستقبلهم عادة غير دور نشرها وصفحات صحفها… وهو حكماً سيحاول خنق تحوّلها عاصمة فعلية للكتاب والكتّاب والقرّاء عام 2009.
لكن التصدّي والمواجهة والدفاع عن الاستقلال وعن الحرية المنتزعة مستمرة أيضاً، وبشجاعة وتصميم. وهي تتواصل في خضمّ معركة سياسية يمكن وضع الملاحظات الكثيرة والقاسية على معظم قواها وشعاراتها وتحالفاتها. لكنها مع ذلك، شديدة الوضوح. فهي بين معسكر يُنشد ضعف الدولة وتهميش المجتمع إعلاءً لصرخة الحرب باسم المقاومة تارة، والممانعة تارة أخرى، وفي الحالين دفاعاً عن نظام استبدادي وعن برنامج نووي خارجيّين وعن حصص مذهبية داخلية (وعلى أسس ليست طائفية فحسب، بل حتى دينية وإلهية)، وبين معسكر يُنشد بناء دولة مستقرة، ولو على زبائنية وطائفية ونظرة تقليدية محافظة الى أمور الاقتصاد والاجتماع، لكن بانفتاح على العالم وعلى التنوّع وعلى التوازنات، يحول دون قدرته على ممارسة القمع أو الاستئثار إذا أراد، ويمكن في ظلّه للمثقفين النشر والكتابة وإعلاء الصوت والمعارضة، دون خشية الرصاص والعبوات والسجون وفجور الاتهامات بالعمالة لإسرائيل وأميركا، أو للوهابية كما صار سائداً في “موضة” هذه الأيام (ولو في لحظة تراجع غير مسبوق للوهابية منذ 40 عاماً تقريباً!)…
… عود على بدء
أن تكون بيروت عاصمة دولية للكتاب ولو لعام، وجُب إذن أن تكون حرة منذ الآن ليستقيم الاحتفاء بها. أن تكون مستقلة ومستقرّة، وأن تكون ساحاتها ومقاهيها وجامعاتها ونقاباتها ودور نشرها مفتوحة لكل الناس، بعيداً عن الضغط والتهويل وعن المشادات وسلوك فتوّات الأحياء ورعاعها.
وأن تكون بيروت عاصمة للكتاب في العام الطالع، وجُب أن يظلّ مثقّفوها متحفّزين يومياً للدفاع عن الحرية وعن حقوق الانسان في وجه الرقيب السياسي والديني والأمني، وفي وجه الميليشيات. في وجه المزوّرين وابتزازهم، وفي وجه التقذيع السابق لكواتم الصوت والمرافق لها، كما في وجه ردود الفعل والإيغال في التعصّب أو في منطق التبرير الدائم للمسلك ولادّعاء الحق المطلق…
أن تكون بيروت عاصمة للكتاب، وجُب أيضاً أن تكون عاصمة لمواطنين اختاروها ليعملوا وينتجوا ويفرحوا ويتعلّموا فيها، ويؤثّروا انطلاقاً منها بمحيطهم القريب والبعيد…
ملحق النهار الثقافي