في نقد لبنان أو خاطرٌ في شأن بيروت والثقافة والحرية
ياسين الحاج صالح
لنحو جيل، بين خمسينات القرن العشرين ومطلع تسعيناته، استوت بيروت عاصمة العرب الثقافية، أو “حيزا عربيا عاما” بتعبير فرانك ميرمييه (في كتابه “المدينة والكتاب: بيروت والنشر العربي”). تشكّل الحيز العام البيروتي من التقاء اللغة العربية مع صناعة الكتاب ومع مناخ ليبيرالي، سياسي وثقافي، ميّز العاصمة اللبنانية. الثلاثة معاً: العروبة والليبيرالية والصناعة.
لا أتكلم على العروبة من باب المساواة بينها وبين اللغة والثقافة العربية فقط، وإنما للقول إنه في مرّتي صعود بيروت السابقتين (في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بالتزامن مع إحياء اللغة والثقافة العربيتين، ثم بعد خمسينات القرن الماضي بالتزامن مع صعود العروبة السياسية ودواماً بعدها حتى عصر الفضائيات والانترنت) كانت العروبة شريكة في الصعود. ومنذ الآن يبدو الارتباط بين العروبة وبيروت بديهيا، فمن دون دور عربي واسع لها، بيروت مجرد عاصمة لبلد صغير. وإن كان هذا يبقي السؤال “أيّ دور؟” مشروعا، فإنه يرتّب على بيروت واللبنانيين المساهمة في اختراع العروبة التي تخرج بلدهم من ضآلته وتعزز تماسكه في الوقت نفسه.
من المهم أن نتكلم على ليبيرالية لأن ثقافتنا المعاصرة أخذت تنهض في “العصر الليبيرالي” (“عصر النهضة” بحسب كريم عزقول، مترجم كتاب ألبرت حوراني الشهير: “الفكر العربي في عصر النهضة”). وكذلك لأنه يتواتر في أيامنا هذه تعويم إيديولوجيات وسياسات استبدادية من وراء نقد النيوليبيرالية، أو الليبيرالية ذاتها. وأخيرا، نتكلم على صناعة كتاب أو صناعة ثقافية، للقول إن الثقافة ليست “مواهب” و”وعيا” وأفكارا…، بقدر ما هي عملية اجتماعية، يمتزج فيها رأسمال بتكنولوجيا حديثة ومهارات مناسبة. هذا أتيح في بيروت أكثر من غيرها.
هل يقول هذا الشرط الماضي شيئا عن المستقبل؟ هذا ما تنوي هذه المقالة الدفاع عنه. نريد القول إن أفضل الفرص لتجدد بيروت هي تلك التي تقترن بصعود متجدد لكل من العروبة والليبيرالية والتكنولوجيا الحديثة.
عروبتان رجعيتان عروبة تقدمية!
تبدو فكرة العروبة اليوم مربكة وخاسرة وغير جذابة. ولا يكاد يجد المرء مدافعين محترمين عنها حاليا. أكثر العيّنات اللبنانية من ممثليها يتمنى المرء مثلها لأعدائه. لكن يبدو لي أن هناك عناصر انفعالية وغير عقلانية في الموقف السلبي حيال العروبة، قد يكون مردّها اقتران الهوية العربية بالتشرذم الشنيع والإخفاق والتخلف والديكتاتوريات العاتية، وكل ما يدفع إلى التنصل منها أو تعسير التماهي بها. مع ذلك، لا يمكن العروبة أن تكون مشكلة للعرب، العالم العربي، هذا إن لم تكن رصيدا إيجابيا ينبغي التفكير في أفضل صيغ استثماره. هذه مسلّمة عملية لا أراها تحتاج إلى برهان (فإن احتاجت، فالأمر يحتاج إلى تفسير). ولا ريب أن الصيغة السياسية للعروبة، أي القومية العربية، لم تخفق في تحقيق أهدافها فقط، وإنما “نجحت” في تحقيق عكسها تماما (تشرذم العرب وخصوماتهم التي لا تنتهي، مزيد من التخلف والضعف أمام أعدائهم ومنافسيهم، تعريض وحدة المجتمعات التي حكمها القوميون لأخطار جسيمة…)، إلى درجة أن إخفاقها انعكس على فكرة العروبة نفسها استهانةً ورفضاً وزراية. ولا يمكن هذا الموقف الأخير أن يكون معقولا في رأينا، وهو لا يستمر بفضل محض الخلط بين القومية العربية والعروبة كشبكة علاقات لغوية وثقافية أو كبنية تحتية للعالم العربي، وإنما أيضا بتمفصله مع نزعات ودوافع معتمة، متأتية من خيارات فكرية واجتماعية وسياسية خاصة، من مواقع اجتماعية ممتازة ومن هويات جزئية، أكثر عتمة وعداء للثقافة من العروبة. فاللاعقلاني ينجذب إلى اللاعقلاني وينهل من منابعه الانفعالية العميقة.
المنابع الانفعالية ذاتها قلما تتيح مناقشة واضحة ومستنيرة حول أزمة العروبة. أعني بمناقشة مستنيرة مناقشة “علمية”، توظف مناهج متعددة لدراسة العروبة، فلا تحصرها في المقاربات الجيوسياسية والدينية السائدة، وإنما تدخل التاريخ والفلسفة والاقتصاد وعلم النفس…، ولا تقتصر على الزمنية السياسية القصيرة والمتوسطة بل تتعداها إلى الزمنية الطويلة، كما وتتطلع إلى المستقبل الذي تخفق هيمنة الانفعال والهوى في تشكيل تفكيرنا المعاصر في تذكره. هذا خارج نطاق اهتمامنا هنا، لكن قد يكون مهماً التفكير في العروبة على نحو لا يوظف الهوية أو يستدعي مفهومها؛ أو لنقل الفصل بين العروبة والهوية، بما يتيح التفكير فيها كشبكة تفاعلات وعلاقات مؤسسة على الوحدة اللغوية والتقارب الثقافي.
أيا يكن الأمر، تبدو لنا العروبة قوة حيوية و”تقدمية” ممكنة. لا نعرف، في المقابل، صيغة “تقدمية” للعداء لها، إن لم نقل إن أشكال مناهضتها تتوحد في “رجعيتها”، على رغم أن الولاء لها قد يأخذ أشكالا رجعية بدورها، مضادة للثقافة والحرية.
ثمة في هذا الشأن صيغتان أودتا بالعروبة في كل مكان، وربما يتعين أن يتحرر لبنان قبل غيره منهما معا: الصيغة السورية والصيغة السعودية. الأولى مقترنة بالتسلطية والتفكك الداخلي، وبالنزعة “الامبراطورية” الفظة حيال الجوار الأضعف؛ والثانية تردّ العروبة إلى الإثنية وتقرنها بأشكال تديّن بدائية وتلغي أي مطمح استقلالي لها. وتشترك الصيغتان في عزل العروبة عن مطالب الحرية والثقافة. وكلتاهما مفرغة من أي مضمون تقدمي وتحرري ومساواتي ومنفتح على العالم.
يبدو أن لبنان منجذب سياسي إلى هذه أو تلك، وإن خلا انجذابه في الحالين من أي بعد ثقافي. فلا أحد من اللبنانيين يتماهى فعليا بهذا البلد أو ذاك أو يحب العيش فيه لو كان له الخيار. لكن يبدو التقاء العروبتين فيه مدمّرا له وللعروبة نفسها.
كاتب هذه السطور ناقد للقومية العربية ومدافع عن استقلال بلداننا، وأولها سوريا ولبنان أحدهما عن الآخر، كما عن أمة افتراضية تصلح غطاء لكل أشكال التدخلات السياسية والتداخلات الفكرية. لكن يبدو لي أن إضعاف العروبة، واعتبارها مجرد رُسابة إثنية، يضعف دولنا نفسها من دون أن ينصر أي قضية إيجابية. ثمة أولاً اللغة العربية التي ربما تعاني من مشكلات، لكن لا شيء (غير انفعالي ومعتم) يسوّغ إسقاطها من الحساب. وثمة الثقافة العربية الحديثة القابلة للاغتناء والتطور، والقديمة التي تمثل خزان تجارب وأفكار وتمثيل للعالم، يمكن دوما الاشتغال عليه وتقليب النظر فيه. يؤسس هذا البعدان لشعور من الشراكة لا مبرر لمناهضته وإضعافه، وإن كان لا يسوّغ الطوبى السياسية القومية العربية. لقد فشلت العروبة السياسية، وتحويل فشلها إلى مذهب مضاد للعروبة لا يمكن أن يغطي الأصل السياسي لهذا المذهب. وهو ما يحكم عليها بأن يكون سلفا سيرا في طريق مسدود، فوق سلبيته.
لبنان لا يزال المرشح العربي الأفضل لتطوير عروبة جديدة، ثالثة، ليست إثنية تستنفد نفسها في الاختلاف عن الغير، ولا سياسية ذات نزعات امبراطورية واستبدادية تنتحل لنفسها صفات تحررية ليست لها، ولطالما خذلتها. العروبة المأمولة على قطيعة، وليست على استمرار، مع العروبة السورية، بدرجة لا تقل عن انفصالها عن العروبة السعودية. ولعل العروبة لن تستعيد شيئا من روحها التقدمية من دون انفصالها عن هاتين الصيغتين اللتين تتخاصمان على جثتها. إن رصيدا خاملاً أو مُساءً استغلاله كالعروبة لا يصحّ أن يتعطل أو يهدر، أو أن يوضع في حساب ديكتاتوريات عاتية أو حكومات فاسدة.
يبقى أن نقول إن العروبة هذه أقل سياسية ومراوغة مما يأمل “لبنانيو سوريا”، وأكثر استقلالية مما يأمل “اللبنانيون السعوديون”. ولعلها سوف تكون عروبة اقتصادية وثقافية أساسا. وإذا تطلعنا بأنظارنا إلى ما يتجاوز الراهن ومنعكساته الشرطية التي تجعل من نفسها فكرا “عقلانيا” وترسبات الإحباط التي تشل العقل بعدما شلّت القلب، ففقد تكون العروبة يوما أساسا لنظام أمني فاعل، لا يحيد أخطار الدول الكبيرة على الأصغر، بل وينجح في تحييد أخطار أعداء العرب ومنافسيهم.
على أن كون لبنان المرشح الأفضل لتطوير عروبة “تقدمية”، لا يعني في حال أنه يقع على عاتق اللبنانيين وحدهم تطويرها. الأرجح أنها ستكون ابتكارا عربيا عاما. لكن لبنان مرشح أكثر من غيره للاستفادة منها، وبيروت لأن تكون عاصمة لها. وبقدر ما تتقدم عملية ابتكار عروبة جديدة فسيرتفع التناقض بين لبننة العرب وتعريب لبنان، وسيسير المزيد من اللبنانية يداً بيد مع المزيد من العروبة. فلا تكون العروبة تقدمية إن لم تكن ضماناً للبنان، وتعزيزاً لوحدته وتماسكه وازدهاره.
ليبيرالية خارقة للطوائف
لماذا لبنان المرشح الأفضل؟ لأسباب تاريخية أولاً: كان لبنان مسرح إحياء اللغة والثقافة العربيتين في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. ولأسباب اجتماعية ثقافية ثانياً: لبنان بلد متعدد الألسنة عمليا. هذا ليس خصما من حساب اللغة العربية، بل يمكن أن يكون إضافة إلى حسابها بقدر ما تستقل العروبة عن الصيغتين الرجعيتين المتحكمتين بها راهنا، فتستعيد انفتاحها على العالم وروحها العلمانية. ولأسباب اجتماعية سياسية ثالثاً: لبنان بلد “ليبيرالي” بحكم تكوينه الاجتماعي الديني وتجربته المكوّنة. هذا على رغم أن الليبيرالية اللبنانية محصورة في العلاقات بين الطوائف وممنوعة من الدخول في الطوائف ذاتها، ما يجعلها ليبيرالية جامدة، عاجزة عن الدفاع عن نفسها وعن تأمل ذاتها وتطوير ذاتها، ومرشحة للانهيار حين تختلّ العلاقات بين الطوائف. وربما لذلك يمكن تعميم الليبيرالية في لبنان بحيث تخترق الطوائف وتنتظم العلاقات بين الأفراد، وتجديد العروبة وإعادة ارتباطها بالنهضة والحرية والعلمانية (هذه دوما قيم للغد لأنها غير منجزة، ولأن البديل منها هو البربرية الراهنة أو التلاشي)، أن يكونا وجهين لعملية تجديد لبنان ذاته.
الليبيرالية التي نتكلم عليها ليست إيديولوجية خاصة ولا هي اتجاها سياسيا في الوقت عينه، بقدر ما هي نظام للحريات العامة والمواطنة والتحرر الاجتماعي والثقافي. ما يجعل لبنان عنوانا لها هو مستوى الحريات العالي الذي ينعم به اللبنانيون (يدفعون راهنا ثمنه انقساما طائفيا ودولة مفككة) وما يكاد يقارب انعدام الرقابة وأجهزة الأمن الكلية القدر والكلية الحصانة، واختلاطا واسعا بالعالم (ليس هناك في حدود علمي لبنانيون ممنوعون من السفر، إلا أن يكونوا قيد المحاكمة أو الملاحقة القضائية) ومعرفة أوسع بلغات أجنبية، وليس أقلها تاريخا من حروب فظيعة لم تقض على فكرة لبنان واستقلاله. لماذا؟ بالضبط لأن لبنان الذي كان “الحيز العربي العام”، البلد الذي تفوق مساحته النشرية إن صح التعبير مساحة بلدان أوسع منها بعشرات المرات ومئاتها، تشكل بصورة ما بالكتب التي نشرها، بـ”إشعاعه الثقافي”. بيروت فكرة أكثر من دمشق، ولبنان فكرة أكثر من مصر. ويمكن الناس أن يتماهوا في فكرة أكثر مما يتماهون في شيء جامد. الكتب التي نشرها لبنان تحمي لبنان، كأنها سور شفّاف، سور من كلمات. أعني تحمي مفهومه أو معناه. هذا على رغم أن في لبنان غير قليل مما هو مضاد للثقافة: الطائفية بخاصة، ونظام سياسي جامد، لم تحوله الحرب بمشقة إلا نحو صيغة جامدة أخرى، وعدد غير قليل من المرتزقة.
صناعة… صناعات
تبقى الصناعة. للبنان ميزة سلبية في هذا الشأن بسبب مساحته ومحدودية موارده وحجم اقتصاده. لكن بقدر ما يدور الكلام على صناعة الكتاب والطباعة فإن “طبع لبنان”، أعني مساحته الصغيرة وسجله التاريخي وموقعه البحري “الاتصالي” و”عالميته” (لبنانيون في كل مكان)، مشفوعة بثورة الاتصالات، تؤهل لبنان لموقع لا منافس له في العالم العربي كمجتمع معلومات. طبع لبنان ذاته يؤهله لدور “خدمي جديد”، لكن فقط بقدر ما يندرج في منظومة اقتصادية وأمنية إقليمية أوسع، عربية تفضيليا، ولو من باب الاقتصاد الذي تيسره اللغة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن قطاع الخدمات المعاصر يشمل المعلومات والتمويل والتعليم والاستشفاء، أي كذلك الجامعات والمصارف، وقبل الجميع النشر والكتب والصحف والفنون وبرامج الكومبيوتر، ولا يقتصر على السياحة والملاهي، فإن الكلام على دور خدمي جديد يكتسب معنى إيجابيا، بخاصة عن وضع في سياق التكامل الاقتصادي الإقليمي.
الأهم في شأن الصناعة هو المهارات، بما فيها مرةً أخرى إجادة لغات أجنبية، وبما فيها أيضا ضرب من تقاليد عمل منضبطة ومقاربة للمعايير العالمية أكثر من البلدان العربية الأخرى.
وفي هذه للبنان ميزة إيجابية كبيرة، لا تضاهى.
وقد يبدو تلاعبا بالألفاظ أن نتكلم هنا على بيروت كمسرح مرجح لصناعات ثلاث: صناعة الكتاب والثقافة، وصناعة طور جديد من الليبيرالية الخارقة للطوائف، وصنعة عروبة جديدة حليفة للثقافة ولليبيرالية.
حيّز ما بعد حداثي!
لكن هل ينبغي ان يبقى لبنان مشدودا إلى تصور دوره كحيّز عربي عام؟ أو كوسيط بين الغرب الأوروبي والمشرق العربي؟ علما أن الدور الأخير غير ممكن إلا إذا قام لبنان بدور الحيز العربي العام، الثقافي والاقتصادي على الأقل؟
في الأصل لم يقم لبنان بهذا الدور إلا لأن في تكوينه أو “طبعه” ما يؤهله له. وهذا ما يعني أنه يمكن أن يقوم بالدور نفسه لكن في صورة جديدة. نلمح منذ الآن بعض المتغيرات. ثمة تنامٍ للطابع المعلوماتي والرقمي للثقافة، وهذه مسألة تكنولوجيا ومال، وفي هذين ثمة مواقع خليجية ربما تتفوق على لبنان، وإن استقدمت لبنانيين لهذا الغرض (وغربيين تفضيليا). بيروت مدعوة تاليا إلى إعادة الاعتبار الى الثقافة بمعنى لا يفصلها عن “الكلمة” والكتاب، معنى أكثر كلاسيكية و”إنسانية”.
ثمة أيضا انضغاط للزمان والمكان بفعل ثورة الاتصالات ما يغيّر تصور الحيّز بعمق ويضعف من شأن التواصل الجغرافي، ويفضي إلى تفتت المكان ونفول وحدته، وإلى ما يقارب الفورية في الزمان، وتالياً تعذر تواريخ وطنية مقتصرة على الدول المدن. ثمة أيضا تغيّر في العروبة، يبدو أنه يشير إلى طور متقدم من زوال التماهي العربي العام، لكن جادلنا فوق بأن طورا جديدا من العروبة لا يزال ممكنا ومرغوبا، وهو لا يقتضي في ما نرى مفهوما موحدا للهوية. وللبنان مصلحة فيه أكثر من غيره.
ثمة أخيرا تبدّل للعام أو كسر لتطابقه مع الدولة الوطنية، إما لمصلحة الطوائف أو التكتلات الإقليمية أو الشركات المتعددة الجنسية، وإما لمصلحة صيغ قديمة للاتطابق مثل المجموعات الفلسطينية، وإما لصيغ حديثة بصورة ما مثل الجماعات الجهادية الإسلامية…، ما يقضي على الأقل بتصور مختلف جدا للحيّز العربي العام. هذا مرجّح فعلا. ولا يمكن أن نعرف سلفاً المعنى المحتمل لحيز عربي عام جديد، “ما بعد حداثي”.
لكن نشعر أن ما يضعف العروبة والليبيرالية والصناعة لا يمكن أن يقوّي بيروت ولبنان.
كتاب لبناني، لبنان كتابي
يحول دون التفكير في بيروت كحيّز عربي عام جديد شيئان: الحالة الانفعالية للتفكير العام والثقافة في لبنان والعالم العربي، وهي حالة تتحالف مع أحوال سيئة للعرب المعاصرين، فتهدر أرصدة معنوية وثقافية لا مبرر لهدرها، وتطور مواقف واستعدادات غير مناسبة لا لتطور الثقافة ولا لفاعلية السياسة. الثانية “الإيديولوجيا اللبنانية” أو “اللبنانوية”، التي يبدو أنها على مواعيد قدرية مع ارتكاب الأخطاء الكبرى التي تعرّض مصير البلد الصغير حيناً وراء آخر للخطر. نظرياً تضع هذه الإيديولوجيا لبنان “فوق الجميع”، وعملياً تعرض استخذاء مخزيا أمام الجميع. هذه مفارقة لبنانية شائقة وتأسيسية، ربما تجد أصولها في التكوين الاجتماعي والجيوسياسي للبلد الصغير، لكن لا ينبغي لها أن تكون قدرا. نزع قدريتها هو من “عمل الثقافة”، طرح الشروط التي يحتمل أنها ولّدتها للتساؤل والتفكير على الدوام.
على كل حال، بيروت على موعد لتأمّل ذاتها، ولبنان، في سنة 2009 الذي ستكون فيها عاصمة عالمية للكتاب. لعلها فرصة للتفكير في معنى لبنان ذاته وفي دور بيروت المحتمل خلال الجيل المقبل.
فإن لم يكن التأمل في معنى بيروت غير فرصة للابتعاد عن استقطابات سياسية وإيديولوجية يبدو أنها تغرق لبنان في السياسي بالمعنى الأكثر انحطاطا وضحالة للكلمة، لكان ذلك كافيا. لكن لا شيء يحتّم أن يبقى الأمر كذلك. يمكن أن يتعداها إلى تحدّي القدر اللبناني، في الثقافة على الأقل.
انقضت عقود كانت المساحة النشرية، أي الكتابية والثقافية للبنان، تفوق مساحته الجغرافية أضعافا مضاعفة كما سبق أن قلنا. هذا يعني أن مساحة المعقول تتفوق على مساحة المحسوس اللبناني، الصغير أصلا. لكن ما كان يضيق هذا المعقول هو الإيديولوجيا اللبنانية التي تخصم من المعقول اللبناني لا من المحسوس، بل التي تحتفي بالمحسوس والإثني في لبنان فتجعله “قطعة سما” ولا ترتاح لغير العتابا والزجل… “ثقافة” لتمثيله. الإيديولوجيا هذه ضد الثقافة بدرجة تضاهي حال الطائفية والنظام السياسي اللبناني.
إن كان لمتطفل مثل كاتب هذه السطور أن يطرح سؤالا على بيروت كعاصمة عالمية للكتاب، فربما يكون الآتي: كيف يمكن أن يتشكل لبنان “مجتمع كتاب” حديثاً، دنيوياً وعلمانياً ومنفتحاً، متجاوزاً كونه ائتلاف مجتمعات كتاب، قلما كان متماسكا؟ أو ببساطة، كيف للبنان أن يتماثل مع كتاب لا مع مجموعة مقالات؟ ¶
خاص – صفحات سورية –