صفحات مختارةموفق نيربية

ملاحظات حول الإسلام السياسي

موفق نيربية
ربّما لكلّ أمة استعصاءاتها الخاصة بها، لكن «عزّتنا» القومية تدفعنا للقول إن هنالك استعصاءً مختلفاً وزائداً على الإصلاح والنهضة العربيين، ومن البداية، تصاعداً وتصعيداً حتى المرحلة الراهنة وضرورةً عضوية أيضاً، هنالك صعوبة في مواجهة الاستعصاء المعقّد والمتشعّب في ظاهرة الإسلام السياسي.
ابتدأت المشكلة بسلاسة مغرية في البداية منذ جمال الدين الأفعاني، مروراً بمحمد عبده نزولاً عن السياسة، ثم صعوداً بها مع رشيد رضا حتى حسن البنا، إلى التفرّع ما بين الهضيبي وسيد قطب، لتتحوّل حادّة يجذب أحد طرفيها الطرف الآخر بالقوة نفسها التي يُنبذ بها الآخرون.
فعلى نمط التحوّل الأوروبيّ، كان هنالك منذ البدء وعي غامر لضرورة مرور النهضة من باب الإصلاح الديني، ووصل هذا الوعي إلى مستوى الاستغراق بسبب ضعف المقوّمات المادية اللازمة لإقلاع التحوّل، ثمّ تفاعل هذا الاستغراق في ذاته.
لكن تلك الفترة لم تشهد إلاّ بروزاً بسيطاً ومحدوداً لفكرة أن يكون القادة السياسيون من أصحاب العمائم، فالفقهاء المسلمون الأوائل لم يتجنّبوا السياسة المباشرة فحسب، بل رفضوا تولّي القضاء وهو أسهل عليهم وأقلّ عرضةً لمنزلقات الفساد وإغراءات شهوة السلطة والحياة الدنيا، التي يمكن أن تضرب بعمق قوة القيمة والمثال، وحتى عقود قريبة من الزمن، لم يكن من بين الإسلاميين المشتغلين بالسياسة إلاّ القلّة ممن ينتسبون شكلاً وفعلاً إلى «المؤسسة» الدينية.
في المرحلة اللاحقة، والمستمرة حتى الآن، أصبح شائعاً أن يشتغل هؤلاء بالسياسة، بل أصبح مطلوباً من كلّ شيخ أن يدلي برأيه في تفاصيلها، ويتعامل معها على طريقة الفتوى، وإن كانت الملاحظة على البعض صحيحة في أنهم يطمحون إلى لعب دور سياسي، فإنه صحيح أيضاً أن الحالة الشعبية والاجتماعية نفسها قد أخذت تغري الآخرين وتطالبهم بمثل هذا الدور، لإحساسها بالضياع والفراغ، لكن ذلك لا يعفي أحداً من مسؤوليته، إذا سئل في أيّ مستوى وميدان عن عمله.
ليس هنالك إغراء أكبر من أن يُطالب المرء بالقيادة والرأي، فيصبح مثال العزّ بن عبدالسلام النادر والصحيح في التاريخ مفهوماً يومياً طاغياً، ويصبح مفهوم العدوان الخارجي الغاشم ظلاً مهيمناً على أيّ نطر في الأمور، فيكبر الجهاد الأصغر حتى ليمحو الجهاد الأكبر، أو يحوّله إلى أصغر مظاهره وأبسطها.
لقد كانت شمولية الإسلام السياسي مشكلته من حيث هو رؤية للنهوض، حيث أراد قادته آنذاك ألاّ يتركوا شيئاً خارج النسق الذي رسموه، ومن اللافت ما يشير إليه ذلك بصورة غير مباشرة، وهو تواقت ظهور الإسلام السياسي في العقد الثالث من القرن الماضي مع أفكار النهضة الفاشية في إيطاليا، التي أرادت إحياء مجد روما القديمة من خلال أن يكون كلّ شيء ضمن الدولة ولا شيء خارجها، وعلى الرغم من أن هذا لا يعني أيّ مطابقة مجحفة، فإن الحذر أصبح عميقاً من الشمولية بعد تجريب نماذجها في الأنظمة السياسية؛ حتى لو كانت مشروعاً له الحق بالمحاولة؛ فكيف إذا كانت شمولية يجري أحياناً رفع رايتها على رؤوس الحراب!
في تفصيل هذه الشمولية، كان للتنظيم السياسي الإسلامي أن يُطوِّرَ جهازاً للدعوة والهداية والتبصير بالدين من جهة، وجهازاً متفرّعاً للعمل الخيري النشيط والفعّال من جهة أخرى، وحزباً سياسياً من جهة ثالثة، يمارس التحريض على السلطة القائمة وعلى معارضيها خلافه، ويطمح للسلطة بشكلٍ من الأشكال، من خلال مراحل مدروسة من التكوين الأولي إلى الهجوم والجهاد إلى الانتصار. وهذا طمع في الدين والدنيا معاً، شاملٌ بحيث لا تتسّع له وقائع الحياة الاجتماعية الحديثة وقوانينها.
مثل هذه الشمولية لا تستطيع- بسهولة-ٍ التملّصَ من قبضة التطرّف، لأنه النسق الفكري الوحيد القادر على أن يجذب أطرافها المتباعدة إلى «قطب» واحد. في حين أن العالم الحديث-رغم وحدته- يقوم على الاختصاص وحسن التخلّص ما بين بابٍ وبابٍ في حياة الدول والمجتمعات.
وإن كان الرأي صحيحاً في حق الإسلام السياسي بالتعبير عن نفسه في تنظيمات يسمح بها القانون وينظّمها، فصحيح أيضاً أن تتخلّى تلك التنظيمات عن «شموليّتها» تلك، فتستقلّ عن جمعيات العمل الخيريّ التي تصبح جزءاً من طموحٍ كبيرٍ يتعلّق بتطوّر المجتمع المدني، وتترك للجامع أن يكون جامعاً للناس مترفّعاً عن الأحزاب.
مع أنه ليس سهلاً أن يتخلّى المرء عن امتيازات غير محدودة تتيحها له قوة العمامة والإرث التاريخي للشعب، فللقوم بعض العذر الإنساني في ذلك. إلاّ أن مفهوم المسؤولية المقبول لديهم قد يدفع إلى قبول مقتضيات الحداثة والمدنية والديمقراطية… واحترام الآخر.
فهل تعود الابتسامة القديمة والرضا والتكافؤ عند الجدل؟

* كاتب سوري
الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى