في الذكرى الستين: ماذا تبقى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
صبحي حديدي
لكي لا ينفرد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بالقسط الأعظم من النفاق الأوروبي حول حقوق الإنسان، فلا يكون الوحيد الذي سرعان ما يبتلع لسانه ـ الذرب تماماً، في العادة ـ كلما ارتطمت القِيَم الكونية الحقوقية بالمصالح المحلية الإقتصادية والسياسية للحكومة الفرنسية، أو حتى مصالح قصر الإليزيه والألعاب والمناورات الساركوزية ذاتها، دخلت على الخطّ المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، فأدلت بدلوها في الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي برلين، وسط مناخ شاعري صنعته آلاف الشموع التي سطّرت الرقم الـ 60، أعلنت ميركل أنّ ألمانيا “لن تسمح أبداً بإجراء منافسة غير لائقة بين القِيَم والمصالح القومية”، وأنّ “علينا أن لا نلتزم الصمت إزاء مسألة تخصّ حقوق الإنسان”، و”ألمانيا سوف تدعم حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم” لأنّ “القيَِم هي الحافز” وراء سياسة برلين…
لكنها، في إحياء ذكرى ستينية أخرى تخصّ تأسيس الدولة العبرية، ارتكبت كلّ هذه النواهي التي تشير إليها، واستخدمت معياراً مختلفاً في السكوت عن الإنتهاك الإسرائيلي اليومي لحقوق الفلسطينيين، وفضّلت المصالح الألمانية ـ الإسرائيلية المشتركة على القِيَم الكونية قاطبة، واتضح أنّ القيمة الكونية الوحيدة هي التالية: “التعاون والصداقة بين إسرائيل وألمانيا هو جزء من معجزات التاريخ”. وبالطبع، رفضت ميركل الإجتماع بأيّ فلسطيني، ولم تكترث حتى باتباع ذلك الإجراء المنافق الذي اعتاد عليه بعض المسؤولين الغربيين، أي الإجتماع مع ممثّلي المجتمع المدني الفلسطيني ومنظمات… حقوق الإنسان!
والحال أنّ مواقف مثل هذه، وسواها كثير اتخذه قادة الغرب طيلة السنوات الستين التي انصرمت منذ تبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في 10/12/1948، تعيد التذكير بسلسة حقائق تخصّ ملفات حقوق الإنسان الكونية من جهة، والإعلان العالمي ذاته من جهة ثانية. وتلك الحقائق تذهب أبعد من مناخات الإحتفاء والإحتفال والبهجة، لأنها إنما تسائل جوهر الإعلان ذاته، وأيّ حقوق يحمي، وما طرائق انتهاكه علانية أو في الخفاء. هنا بعض تلك الحقائق:
1 ـ القول إنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة صوّتت عليه بالإجماع ليس دقيقاً تماماً، لأنّ التصويت أسفر عن 48 دولة لصالح الإعلان، وثماني دول ضده. ولو أنّ عدد الدول النامية (دول “العالم الثالث” في عبارة أخرى) كان كما هو عليه اليوم، فإنّ من الصعب تخيّل بلوغ نسبة التصويت هذه، بل لعلّه من الصعب تخيّل الإعلان وقد فاز بالتصويت أصلاً.
2 ـ الدول التي صاغت، ورَعَت وسوّقت وصوّتت على الإعلان، لم تكن سوى تلك القوى الغربية الكبرى الضالعة في سياسات إستعمارية هنا وهناك في العالم، والتي كانت تمارس انتهاك حقوق الإنسان (وحقوق الشعوب، في عبارة أدقّ) حتى وهي تنخرط في معمعة النقاشات المحمومة حول هذه الصيغة أو تلك من فقرات الإعلان نفسه. وقد يكون هذا بعض السبب في أنّ المؤتمر التأسيسي لدول عدم الإنحياز (باندونغ 1955) رفض الإعراب عن أيّ دعم سياسي للإعلان، واكتفى رؤساء الدول (وكانوا من الكبار لمن ينسى: الهندي جواهر لال نهرو، والمصري جمال عبد الناصر، والأندونيسي أحمد سوكارنو، واليوغسلافي جوزيف بروز تيتو…) بالقول إنهم أخذوا به علماً!
3 ـ الإعلان يسكت تماماً عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها (الأمر الذي يتناقض على نحو صارخ مع الفقرة الأولى التي تقول: “يولد البشر أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق”). أكثر من ذلك، يسوّغ الإعلان مفاهيم الوصاية والإنتداب والهيمنة الإستعمارية، حين يحثّ الدول الأعضاء (المستقلة و/أو الإستعمارية) على احترام حقوق شعوبها مثل حقوق الشعوب والأراضي الواقعة تحت سلطتها القانونية (أي: الدول غير المستقلّة و/أو المستعمَرة).
4 ـ الإعلان يحدّد مفهوم حقوق الإنسان انطلاقاً من شخصية الإنسان الغربي وحده، من قِيَمه وثقافته وأعرافه وفلسفاته، ومن حضارته التي كانت هي التي انتصرت (على نفسها، في واقع الأمر!) بعد الحرب العالمية الثانية، حين انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، وتأسيس النظام الدولي الجديد… آنذاك، وليس عام 1992 في أعقاب “عاصفة الصحراء”، أو 2001 بعد انهيار برجَي التجارة في 11/9، أو 2003 بعد غزو أفغانستان والعراق. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان وليد تلك البرهة الإجماعية الغربية بامتياز، ولم يكن مدهشاً بالتالي أن تكون صورة العالم كما يرسمها الإعلان هي صورة العالم كما رسمتها لتوّها الحضارة الغربية.
5 ـ إنها، بمعني النقلات الحضارية الكبرى، تبدأ من اليونان الإغريقي الكلاسيكي، ثم روما الإمبراطورية، وصولاً إلى الكنيسة الكاثوليكية. هنالك أيضاً عصر الأنوار، والثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والآلة البخارية، والثورة الصناعية، والحداثة، والعولمة… وهنالك، بين حين وآخر، فلسفات كانط، ديكارت، نيتشه، هيغل، وماركس. ولا تغيب عن هذا التراث، أيضاً، أحقاب فاصلة شهدت الحروب الصليبية، و”اكتشاف” أمريكا، ومحاكم التفتيش، والفتوحات الإستعمارية، والأنظمة الإمبريالية والفاشية والنازية والستالينية…
6 ـ في صياغة نصّ الإعلان، وبعد الإتكاء المباشر على صورة العالم هذه، جرت الإحالة إلى تراث غربي طويل في صياغة العلاقة الحقوقية بين الحاكم والمحكوم: العريضة الإنكليزية لعام 1627، إعلان الإستقلال الأمريكي لعام 1776، دستور الولايات المتحدة لعام 1787، قانون الحقوق الأمريكي لعام 1791، الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789. هنالك، بمعنى آخر، الصالح مثل الطالح، والكوني مثل المحلي، والعامّ مثل الخاص…
هذه ملاحظات لا تصدر بوحي الإنحياز إلى أية ثقافة واحدة، أو حتى إلى كتلة ثقافات، مناهضة للثقافة الغربية أو موازية لها، خصوصاً وأنّ نقد الإستشراق ـ في أعمال الراحل الكبير إدوارد سعيد بصفة خاصة ـ دلّنا إلى سُبُل تفكيك مفاهيم مثل “الشرق” و”الغرب” و”الشمال” و”الجنوب”، وردّها إلى مكوّناتها الباطنية ذات الصلة بعلاقات القوّة والإخضاع والتفوّق والهيمنة، قبل العلاقات الثقافية بين الأمم والحضارات. والحال أن هذه الملاحظات يمكن أن تصدر عن مهاتير محمد مثل جيمي كارتر، وعن دانييل بيل (أبرز الأدمغة الغربية الرصينة المدافعة عن فلسفات اليمين) مثل نوام شومسكي.
ذلك لأنّ الواقع الفعلي على الأرض يذهب بالكثير من ألق النظرية الكامنة طيّ الفقرات الثلاثين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي وسع المرء، وربما كان من واجبه، أن يبدأ من الدول الغربية الكبرى نفسها، أو من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات: الدولة التي ترفع راية قيادة العالم الحرّ منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها. وهذه مناسبة للإشارة إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان صنيعة الحلفاء الخارجين من حرب غربية ـ غربية ألحقت الخراب بالشرق مثل الغرب.
والشعوب تملك، الآن كما في الماضي القريب، مسرداً طويلاً لانتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وكيف انقلبت هذه الإنتهاكات إلى تشريعات أساسية في الدستور الأمريكي نفسه. هنالك، علي سبيل المثال، حقيقة الغياب التام لكلمة مساواة في الدستور الأمريكي، الذي لا ينصّ البتة على توفير ضمانات تكفل حقّ المواطن في الغذاء، واللباس، والمسكن، والصحة، والعمل، والراحة، والأجر المعقول إنسانياً، والضمان الإجتماعي في العمل والحياة، وحماية الأسرة والأطفال. أليست هذه في صلب حقوق الإنسان؟ أليس ضمان الحقّ المتساوي في الطعام واللباس والمسكن هو جوهر الشرائع والحقوق؟ أيّ حقوق إنسان هذه حين يكون في مدينة نيويورك 36 ألف مواطن مليونير، و38 ألف مواطن يقتاتون على النبش في صناديق القمامة؟ وأيّ حقوق إنسان، حين تثبت هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أنّ المواطن الأمريكي ليس متساوياً أبداً أمام القضاء، وأنّ الأحكام الصادرة بحقّ الأمريكيين السود والآسيويين أقسى بثلاثة، وأحياناً بأربعة، أضعاف من الأحكام الصادرة بحقّ البيض في قضايا مماثلة؟
وقبل خمس سنوات كانت شيرين عبادي ـ المحامية الإيرانية المسلمة، غير المتعصبة وغير الأصولية، ابنة العالم الثالث، غير المتطرّفة وغير الراديكالية، حاملة نوبل للسلام ـ قد وضعت الإعلان العالمي موضع مساءلة نقدية حين ردّت الكثير من أسباب انتهاكات حقوق الإنسان إلى الأنظمة الحاكمة وأعراف المجتمع البطريركي والتخلّف والفقر. وفي محاضرة نوبل توقفت عبادي عند أوضاع حقوق الإنسان، ليس في البلدان التي اعتادت انتهاكها فحسب، بل أساساً في البلدان التي اعتادت تمجيد تلك الحقوق وتحويلها إلى أناجيل معاصرة: “انتهكت بعض الدول المبادىء والقوانين الكونية لحقوق الإنسان عن طريق التذرّع بأحداث 11 أيلول والحرب على الإرهاب الدولي (…) وإنّ قلق المدافعين عن حقوق الإنسان يزداد حين يلاحظون أنّ قوانين حقوق الإنسان الدولية لا تُنتهك على يد خصومها المعتادين تحت ذريعة النسبوية الثقافية فحسب، بل هي أيضاً تُنتهك في الديمقراطيات الغربية، أي في البلدان التي كانت هي ذاتها في عداد روّاد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
وهذا، في واقع الأمر، هو المعنى الآخر للرأي الذي يقول إنّ وثيقة 1948 لم تكن قادرة على تمثيل حصيلة إنسانية مشتركة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تكن خالية من الثغرات التي ترقى إلى مستوى المساوىء البنيوية. وهذا، في المقابل، لا يلغي البتة أياً من محاسنها، والتذكير بأنها كانت الخطوة الأولى الأبرز على طريق صياغة تعاقد إنساني عالمي حول حقوق الإنسان، فضلاً عن انطلاق معظم عناصرها من حصيلة نضالات المواطن الغربي ضدّ وحشيَن كاسريَن: الدولة ـ الأمّة، سيّما حين تحتكر العنف؛ والرأسمالية الصناعية، لأنها في طبيعتها لا تكفّ عن احتكار الجهد الإنساني وفضل القيمة. ذلك هو جوهر السبب في أن تسييس تلك الخطوة الأولى (أي وضعها بتصرّف أجهزة تسعى إلى أغراض سياسية واقتصادية وثقافية، قبل الأغراض الحقوقية) هو الذي يجعل المشهد الراهن يبدو منقسماً إلى عالمَين: الراصد لانتهاكات حقوق الإنسان (الغرب إجمالاً)، والمرصود المتهم بانتهاك تلك الحقوق (العالم خارج الغرب إجمالاً)، على نحو يذكّر بثنائيات عريقة مثل المستعمِر والمستعمَر، المتمدّن والهمجي، الأبيض والأسود…
فما الذي يمكن أن تقوله أنغيلا ميركل، رافعة راية القِيَم الكونية، في موازاة ما يقوله المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، حول ارتكاب السلطات الإسرائيلية مذبحة جماعية منظمة في غزّة؟ وماذا ستقول في ما أعلنته هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، عن انتهاك الدولة العبرية جميع الموادّ الـ 149 لميثاق جنيف حول معاملة المدنيين في حالة الحرب أو الإحتلال العسكري، وأنّ السلطات الإسرائيلية ارتكبت طراز جرائم الحرب التي يعرّفها ميثاق نورمبرغ لسنة 1945؟ وكيف تردّ على ميغيل ديسكوتو بروكمان، الدبلوماسي النيكاراغواي والرئيس الحالي للجمعية العامة للأمم المتحدة، حين يصرّح أنّ معاملة إسرائيل للفلسطينيين “شبيهة بنظام الأبارتيد السالف”، و”علينا أن لا نخشى تسمية الأمور بمسمّياتها”؟
وهل، ختاماً، في باب الغريب العجيب أن يرفع الغرب رايات حقوق الإنسان في ذروة دعمه ومساندته، بل وأحياناً قتاله إلى جانب، أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث عموماً، وبلدان الشرق الأوسط والثروات النفطية خصوصاً؟ ألا تبدو هذه الإزدواجية فاقعة في البلاغة الأخلاقية وحدها، ولكنها ليست مكروهة أو بغيضة حين يتعلق الأمر بحسابات المصالح الحيوية، والربح والخسارة؟
خاص – صفحات سورية –