برهان غليونصفحات مختارة

الأزمة العالمية وتجدد الحاجة إلى الإصلاح

برهان غليون
أثارت بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومات العربية في مطلع الألفية الثالثة، في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي، انتعاشا كبيرا للآمال في بلاد بقيت في ربع القرن الماضي من أقل المناطق الإقليمية في العالم تأثرا برياح التغيير التي هزت المعسكر السوفياتي والاشتراكي سابقا.
وتفاءل كثير من المراقبين في السنوات الخمس الماضية بقدوم ما أسموه بالربيع العربي، واعتقدوا أن وقت الديمقراطية العربية قد حان. فربط الأميركيون مشروع تعزيز سيطرتهم على الشرق الأوسط ومنابع النفط فيه بالضغط على الأنظمة العربية وتأكيد أولوية التحولات الديمقراطية.
وصدرت عن البلدان الأوروبية المبادرة بعد الأخرى في سبيل تأسيس شراكة اقتصادية تجعل من قضايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان بنودا أساسية في إعادة بناء العلاقات الثنائية.
واستعاد العديد من الباحثين والكتاب الغربيين حسهم النقدي والأخلاقي لكي يقرروا أن المجتمعات العربية لا يمكن أن تستبعد من مجرى التحولات التاريخية، وأن للغرب مسؤولية كبيرة في مساعدة الشعوب العربية على الدخول في الحداثة السياسية.
بيد أن السنوات القليلة التي أعقبت الحرب الأميركية العراقية عام 2003 قد وجهت ضربة قوية لهذه النزعة الإرادوية، سواء ما ارتبط منها بالمشاريع الغربية الجديدة للشرق الأوسط، أو ما نجم عن تصاعد آمال التغيير نتيجة هرم النخبة السياسية وترهل النظم الاستبدادية، عند قطاعات واسعة من النخب العربية.
ولن يتأخر الوقت حتى يتأكد الجميع من أن الانفتاحات الجزئية والظرفية التي قامت بها بعض الحكومات العربية، عبر السماح بانتخابات تشريعية أو تكوين مجالس شورى محلية -ليست جدية- وإنما أتت على سبيل الانحناء للعاصفة التي مثلتها الضغوط الخارجية، بانتظار فرصة العودة المظفرة إلى منطق العصا الغليظة التقليدي.
وهذا ما حصل ولا يزال يحصل بالفعل منذ سنتين أو ثلاث، بعد انهيار السياسة الأميركية التي ارتبطت بإدارة الرئيس بوش الابن وتراجع الضغوط الخارجية. وكانت النتيجة عودة اليأس إلى الرأي العام العالمي والعربي معا، وتنامي الشعور بإشكالية خروج الدول العربية من نموذج النظام السياسي التسلطي الذي بدا وكأنه مهدد لبعض الوقت.
ففي ما وراء جميع المظاهر السطحية، لم يحصل أي تحول ذي معنى على قواعد الممارسة السياسية في أي من البلاد العربية الرئيسية، ولا تزال السلطة تحتكر فيها، كما كان عليه الحال منذ عقود، من قبل فئات محدودة من السكان، بينما لا يزال استبطان مفهوم المواطن، وما يرتبط به من حقوق وواجبات ومسؤوليات فردية وجماعية، ضعيفا لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتصوروا لأنفسهم دورا أو مكانا في نظام الإدارة السياسية، ومن باب أولى أن ينتزعوا المبادرة للدفاع عن هذا الدور وتكوين قوى سياسية منظمة وبلورة خطط للتغيير مستقلة عن ما توعد به الأنظمة القائمة، أو مختلفة عن مناشداتها القيام بواجبها أو التحسس لآلام المجتمع واحترام حقوق الأفراد الأساسية.
لا يعني هذا أن النظم السياسية العربية لا تزال كما كانت منذ عقود. إنها تتغير بالتأكيد، وبشكل مطرد وسريع أيضا. لكن هذا التغيير لا يسير في الاتجاه الذي يعتقد الباحثون أنه هو الطريق الطبيعي للانتقال من النظم الأبوية القائمة على العنف الفعلي والمستبطن، إلى نظم تتوسل بشكل أكبر قيم السياسة العصرية، وتستمد شرعيتها بشكل متزايد من انخراط الشعب في المسؤولية ومشاركته في اختيار حكامه وقادته، وتأكيد سيادته عبر آليات المراقبة والمحاسبة الدائمة والدورية.
لقد اقتصرت التغييرات الحاصلة، ما عدا الانقلاب التحريري الواسع في ميدان الاقتصاد، على تطوير الوسائل وتقنيات السيطرة والرقابة والإخضاع، ولم تمس -لا من قريب ولا من بعيد- قاعدة العمل المطبقة منذ عقود والقائمة على احتكار السلطة العمومية و”تخليدها” في يد النخب الحاكمة، حتى لو كان ثمن ذلك إعادة بناء الملكية والحكم الوراثي في حجر الدولة الجمهورية.
وهذا ما يفسر أن التغييرات والتحولات التي تطرأ على هذه النظم لا تزيد من شرعيتها وتدفع إلى نمو مشاعر الانتماء والولاء السياسي والالتحام الطوعي عند السكان، وإنما تعمل -بالعكس من ذلك- على تعميق القطيعة بين الحكام والمحكومين، وتزيد -في موازاة هذا التعميق في القطيعة- الحاجة إلى اللجوء الموسع للعنف.
لقد أصبح العنف في النظم العربية بأشكاله المختلفة، الرمزية والأيديولوجية والسياسية والعسكرية، الركيزة الأولى للنظام، ورصيده المادي والمعنوي الرئيسي. وأصبح إنتاج العنف وتفريعه وتنميته والتحكم به وتطوير أساليب استخدامه وخططه هو سبيله لتحقيق أهدافه المرسومة أو الحفاظ على مواقعه أو اكتساب مواقع جديدة. فهو اليوم الوسيلة الوحيدة لضمان التوازن والاتساق والاستقرار داخل المجتمع والدولة معا.
ويقف التوسع في اشتغال قانون العنف هذا وراء إجهاض محاولات التحديث التي تسعى إليها هذه النظم نفسها، اعتقادا منها بأن تحسين شروط حياة السكان المادية وتقريب مستوى معيشتهم من مستوى الشعوب الغربية سوف يقضي على مطالبهم السياسية أو على الأقل يساعد على كبتها وإخضاعها.
وكثيرا ما يرد أصحاب السلطة على سائليهم من الصحفيين أو المراقبين السياسيين الذين يأخذون عليهم رفضهم الانفتاح السياسي والحياة السياسية الديمقراطية السليمة بأن ما يهم شعوبهم هو الخبز وتحسين شروط المعيشة.
والحال أن ما يحصل هو العكس تماما. ذلك أن جوهر التحديث الدافع إلى زيادة الفعالية والطاقة الخلاقة للمجتمع ككل، وبالتالي تحسين شروط حياة السكان المادية، هو تنمية شخصية الأفراد، عن طريق تعميق شعورهم بالمسؤولية العمومية، وتوسيع هامش مبادرتهم الحرة، وإطلاق مخيلتهم في التجديد والإبداع الفكري والتقني والإداري.
وهذا ما ينفيه منذ البداية النظام السياسي القائم على الوصاية الأبوية والإخضاع بالقوة والإكراه وضرب الثقة وإذلال الأفراد وتيئيسهم في مقدراتهم وفي المستقبل.
لذلك ليس من قبيل الصدفة أن تقود السياسات التحديثية التي ترى مقياس التقدم في تطوير الآلة والاستثمار في التقنية والإدارة التي تهدف إلى كبح جماح الفرد وتقزيمه سياسيا وثقافيا وإنسانيا، وتحويله إلى أداة إنتاج واستهلاك فحسب، إلى عكس ما تتوخاه من نتائج.
فلم يكن تدهور شروط الحياة المادية ولا تراجع مؤشرات التنمية الاقتصادية، ولا التفاوت في توزيع الثروة والدخل، ولا تصاعد معدلات الفقر والبطالة والحرمان، أكبر في المجتمعات العربية في أي فترة سابقة من تاريخها المعاصر، مما هو قائم اليوم.
وما كان تعلقها بقيم الماضي أو نزوعها إلى إعادة إحياء نماذج تفكيره وأنماط تنظيمه أقوى مما تعرفه الآن. وفي مقابل ما تعد به السلطة من تجنب مخاطر الصراعات السياسية التي يمكن أن يقود إليها -كما تؤكد باستمرار- أي انفتاح سياسي محتمل، ينتشر العنف أكثر تهديدا وشراسة، يوما بعد يوم، عنف السلطة وأجهزتها، وعنف المجتمع الإثني والـ”مذهبي” والسوقي الذي أصبح غذاء الشعوب اليومي. وإذا لم يهدد هذا العنف النظم القائمة بعد فهو يقوض أسس المدنية نفسها التي تقوم عليها المجتمعات.
ليس الحرص على الاستقرار وتحسين فرص التنمية السياسية هو الدافع للإبقاء على نظم الوصاية السياسية وتهميش الإنسان واستبعاد الأفراد من أي قرار، وليس هو الخوف من العنف المحتمل أو الفوضى والانفلات.
بالعكس، يشكل العنف اليوم أهم رصيد تستخدمه السلطات القائمة، العنف الرسمي والعنف الأهلي معا، لإعادة إنتاج نفسها. فهو يوظفه لتبرير نظام الاستبداد وتقديمه على أنه نظام الحفاظ على الأمن والدفاع عن النظام والاستقرار ضد الفوضى والانفلات والحرب الأهلية الكامنة.
ويستفيد منه على صعيد العلاقات الدولية لتعزيز تحالفاته مع المراكز الدولية، والحصول على دعمها المادي والفني والسياسي. هكذا يتحول العنف نفسه إلى أهم سلاح في يد النظم القائمة، من أجل إعادة إنتاج نظام العنف، الذي هو بالتعريف نظام الاستبداد الذي لا يقوم ولا يستمر إلا على قهر الأفراد، وتجريدهم من حقوقهم الطبيعية، ومعاملتهم كقاصرين لا يملكون زمام أمرهم ولا حق لهم بتقرير مصيرهم بأنفسهم.
هذا ما يفسر أن انهيار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وانحسار الضغوط السياسية التي رافقته من أجل دفع الحكومات العربية إلى تبني إجراءات أكثر تجاوبا مع أفكار الليبرالية السياسية والتعددية، وهو ما أطلق عليه المحافظون الجدد مشروع التحويل الديمقراطي القسري للمجتمعات العربية، لم يغير من سلوك النظم العربية الحاكمة تجاه شعوبها شيئا.
كما أن عودة الدول الغربية إلى سياستها التقليدية القائمة على الحفاظ على الاستقرار، وبالتالي الإبقاء على الوضع القائم، وتطمين النخب الحاكمة على وجودها واستمرارها، لم يخفف من غلوائها وضيق صدرها، ولا شجعها بشكل أكبر على طرق باب الانفتاح، وإنما ألهمها المزيد من روح التمرد والانقلاب على شعوبها والاستعداد للمواجهة والرغبة في تأكيد الانتصار.
لذلك، ليس من المستبعد أن تكون نهاية دورة الضغوط الخارجية التي مورست على النظم العربية بداية دورة جديدة من الضغوط والاحتجاجات والتوترات الاجتماعية والسياسية الداخلية، ومقدمة لعودة الصراع السياسي الذي جمدته لبعض الوقت المواجهات الخارجية، إلى واجهة الأحداث.
ومما يزيد من هذا الاحتمال مضاعفات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وآثارها السلبية على المجتمعات العربية، مثلها مثل بقية المجتمعات. وليست أحداث اليونان الأخيرة هي وحدها التي تشير إلى دخولنا في المرحلة الجديدة من الاضطراب والفوضى وزوال الثقة والأمل. مما يشكل مصدرا إضافيا للتوتر والنزاع.
وللأسف لم توظف النخب الحاكمة العربية إخفاق السياسة الأميركية في السنوات الماضية سوى لدفن فكرة الإصلاح السياسي وإخراجها كليا من النقاش، في الوقت الذي كان بإمكانها أن تستفيد منه للخروج من الانسداد السياسي بأقل التكاليف، وهو ما كان سيمكنها من توسيع قاعدتها الاجتماعية، وتخفيف التوترات الداخلية، وتفعيل مفهوم المسؤولية العمومية، وزيادة رصيدها من الشرعية السياسية.
ولا أعتقد أن هناك خيارا آخر في مواجهة مستحقات إرث النظم التسلطية الماضي، وبناء الجماعات الضرورية لمواجهة التحديات المقبلة، وتجنب الدخول في مواجهات وصراعات أهلية مدمرة جديدة، غير خيار إصلاح النظم القائمة وأساليب ممارسة السلطة وتداولها.
أما لجوؤها إلى المزيد من العنف، فلن يساعد النظم العربية، كما حصل مرارا في الماضي، على كبح جماح حركات المقاومة والاحتجاج التي ستتطور بسرعة، ولا على الحفاظ على روح التسليم والإذعان التي سكنت الشعوب والمجتمعات في الحقبة الماضية.
وأكثر فأكثر سوف تفسر قطاعات متزايدة من الرأي العام رفض الإصلاح السياسي وتغيير أساليب الحكم على أنه رديف للفساد وإخفاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتكريس مصادرة أصحاب المصالح الخاصة، الذين يسيطرون على الدولة وموارد المجتمع، إرادة الشعب ومستقبل البلاد.
ومهما بلغ من التوسع والشدة، لن يستطيع العنف القادم أن يخفف من الآثار التخريبية لانعدام الشرعية، في جو الفراغ السياسي والفكري الذي تعيشه نظم تفتقر في الوقت نفسه إلى أي مقومات قيادية، من رؤية إستراتيجية واضحة، وسياسات وطنية واجتماعية واقتصادية ناجعة، وممارسة ديمقراطية، ورسالة إنسانية تعكس التمسك بغايات وقيم أخلاقية مقبولة من الجميع أو مثيرة لاهتمامهم وملهمة لهم.
والقصد، ليس هناك خيار آخر من أجل تجنب تجديد دورة العنف داخل المجتمعات العربية سوى تجديد دورة الإصلاح وفتح باب التحولات السياسية وفي مقدمها الاعتراف بأهلية الشعوب وحقوقها والرهان على مشاركتها وتأييدها.
ــــــــــ
كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى