فريق أوباما للأمن القومي: صناعة التغيير أم بضاعة الثبات؟
صبحي حديدي
بعد أن استقرّ رأي الرئيس الأمريكي المنتخب، باراك أوباما، على إسناد منصب وزارة الخارجية إلى هيلاري كلينتون، منافسته السابقة على بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي، صار في وسع المرء أن يهضم الدعابة التي شاعت في الأوساط الصحفية الأمريكية، والتي تستلهم الشعار التجاري الترويجي الشهير: اشتروا حزبَين ديمقراطيين، بسعر حزب ديمقراطي واحد! فكيف إذا أضيفت إلى صفقة الشراء ذاتها بضاعة معتبرة من الحزب الجمهوري، ممثّلة في وزير الدفاع السابق/الجديد روبرت غيتس، ومستشار الأمن القومي جيمس لوغان جونز، الجنرال المتقاعد والقائد الأسبق لقوّات المارينز الأمريكية وقوّات الحلف الأطلسي في أوروبا!
المتحمسون لحتمية مجيء التغيير على يد أوباما أصابهم بعض الإحباط بالطبع، ليس لأنّ غالبية الوجوه قديمة فحسب، بل جوهرياً لأنّ هذه الأغلبية ذاتها تنتمي إلى صفّ الصقور (فضلاً عن صقر الصقور: نائب الرئيس جون بايدن) في المسألة الأهمّ على جدول أعمال الأمن القومي الأمريكي، أي جدولة الإنسحاب من العراق. صحيح أنّ أوباما أوضح، خلال مؤتمره الصحفي الذي قدّم فيه أفراد فريقه، على أنه شخصياً يظلّ المرجعية الأخيرة في صناعة “الرؤية” السياسية التي سوف تحكم عمل هؤلاء. “أريدكم أن تفهموا من أين تنبعث الرؤية من أجل التغيير. إنها تنبعث منّي أوّلاً وأساساً. هذا هو عملي، أن أقدّم الرؤية في ما يخصّ مسيرتنا، والتأكد من أنّ فريقي ينفّذها”، قال أوباما، قبل أن يشدّد: “أريدكم أن تفهوا أنني سوف أضع السياسات بوصفي الرئيس. سأكون مسؤولاً عن الرؤية التي سوف ينفّذها هذا الفريق، وأنا أنتظر منهم تنفيذ تلك الرؤية حين تُتخذ القرارات”.
إلا أنّ آلة السياسة في واشنطن لا تشتغل على نحو مماثل لاشتغالها في ظلّ حاكم دكتاتور أوحد. وثمة هوامش مبادرة واسعة، هي في الآن ذاته ممارسة مشروعة قانوناً، تضع تنفيذ العديد من القرارات الحاسمة في عهدة وزيرة الخارجية أو وزير الدفاع أو نائب الرئيس أو مستشار الأمن القومي. وهذه إشكالية تتجسد، بل لعلّها تتضخّم، بفعل حقيقة كبرى لافتة تشير إلى أنّ الغالبية الساحقة من هذا الفريق كانوا، وهم اليوم أيضاً، من دعاة غزو العراق، للاعتبارات ذاتها التي تذرّع بها الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش، واتضح بطلانها فيما بعد، سيّما أكذوبة أسلحة الدمار الشامل.
حتى سوزان رايس، المرشحة لمنصب المندوب الأمريكي الدائم لدى مجلس الأمن الدولي، كانت في طليعة مروّجي هذه الأكذوبة، فاعتبرت أنّ استخدام “القوّة القصوى” هو الحلّ الوحيد لمجابهة أخطار امتلاك نظام صدّام حسين لأسلحة الدمار الشامل. صحيح أنها لم تؤيد غزو العراق مباشرة، غير أنها في الواقع لم تقع تحت حرج التصويت بالرفض أو الإيجاب، لأنها أصلاً لم تكن عضواً منتخباً في الكونغرس. وأمّا مواقفها الصقرية من مسألة دارفور، ودعوتها إلى قصف المطارات والمدارج والمنشآت العسكرية السودانية، فإنها المؤشر الأحدث على تطابقها شبه التامّ مع دعاة التدخّل العسكري الخارجي. وقد يتفق المرء مع الرأي القائل إنّ منصبها الجديد سوف يُعنى بالأقوال لا الأفعال، وأنّ ميدانها الأكبر سوف يكون البلاغة وليس اجتماعات مجلس الأمن القومي الأمريكي، إلا أنّ تجربة مادلين أولبرايت في الموقع ذاته، سنة 1993، تسوّغ التفكير في احتمالات أشدّ سوءاً من جعجعة اللفظ وحده!
هيلاري كلنتون، من جانبها، ليست بحاجة إلى أخذ وردّ في ما يخصّ مواقفها الصقرية من غزو العراق، ولكن ما هو مثير للدهشة، ولمقدار من الفضول والترقب أيضاً، أن تكون قادرة على تطبيق المحتوى الأهمّ في “رؤية” أوباما حول الإنسحاب من العراق. ففي رسالة إلى ناخبيها، تعود إلى أواخر العام 2005، قالت كلنتون إنها لن تقبل أية جدولة للإنسحاب من العراق، بل سوف ترفض مجرّد التفكير في إعادة انتشار القوّات الأمريكية، وتدعو إلى بقاء قوّات احتياط أمريكية دائمة في العراق، عالية التسليح وقادرة على التدخل السريع. وهي، من جانب آخر، تحمّل الرئيس الأمريكي (أياً تكن هويته، جمهورياً كان أم ديمقراطياً) مسؤولية زرع “الآمال الزائفة” في النفوس، أو تقديم “دليل خاطىء”، أو “الإدارة السيئة” لأي نسحاب عسكري مبكّر من العراق. في عبارة أخرى، ينبغي على كلنتون/وزيرة الخارجية أن تضع قناعات كلنتون/السناتور في صندوق مغلق بالشمع الأحمر، أو أن تنقلب عليها تماماً، إذا شاءت تنفيذ الوعد الذي قطعه أوباما على نفسه أثناء الحملة الإنتخابية، أي الإنسحاب خلال 16 شهراً.
وفي ما يخصّ العقيدة والإيديولوجيا، كانت أسبوعية “ويكلي ستاندارد”، الناطقة بلسان المحافظين الجدد، قد رحّبت باستقدام كلنتون إلى الخارجية الأمريكية، وكتب مايكل غولدفارب يبشّر أنصاره بأنّ هذه السيدة لن تكون قوية في السياسة الخارجية فقط، ولكنها ستتصدّر رهط الليبراليين الجدد في إدارة أوباما. وهؤلاء، لمَن لا يدري بعد، ليسوا أقلّ شراسة من أقرانهم المحافظين الجدد، في كلّ ما يتّصل بالحيثيات التي تُساق عادة لتبرير التدخل العسكري الأمريكي في شؤون الأمم الأخرى. وهكذا، يتابع غولدفارب: “لا شيء يمثّل تغييراً حاسماً في كيفية قيام واشنطن بأشغالها. والمتوقع هو أن يميل أوباما إلى مواصلة المسار ذاته الذي وضعه بوش في ولايته الثانية”!
وأمّا في ما يخصّ تعصّبها الأعمى لدولة إسرائيل ـ وليس انحيازها المطلق، فقط ـ فإنّ تاريخ كلنتون الراهن لا يقوم بما هو أقلّ من تظهير تاريخها السابق، على نحو أشدّ ابتذالاً في نفاقه، وانحطاطاً في أخلاقيته.
وذات يوم غير بعيد سارع مانديل غانشرو، رئيس «الإتحاد الأرثوذكسي» اليهودي الذي يمثّل نحو مليوني ناخب و750 كنيساً يهودياً هنا وهناك، إلى مكاتبة السيّدة الأولى فور إعلانها العزم على الترشيح لعضوية الكونغرس عن ولاية نيويورك. «هل تعتبرين القدس عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل”؟ و”هل ستصوّتين على تشريع يجرّد الرئيس من حق استخدام الفيتو ضد قرار للكونغرس يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس»؟ سأل غانشرو.
ولم يكن الرجل يهرف بما لا يعرف. نيويورك قلعة يهودية كما لا يخفى على أحد، وكانت كلينتون تنوي خلافة السناتور دانييل باتريك موينيهان، أحد كبار أصدقاء الدولة العبرية في مبنى الكابيتول، ولا يعقل أن يصبّ الصوت اليهودي في طاحونة أخرى غير تلك التي ترجّع أصداء ولاء ذلك الصديق الكبير. إضافة إلى هذا الإعتبار الأوّل، ثمة حقيقة أخرى ساطعة تشير إلى أنّ موينيهان كان أحد كبار رعاة التشريع الذي صوّت عليه الكونغرس في عام 1995، وقضى بإجبار الإدارة على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وبالفعل، ردّت كلينتون على رسالة غانشرو، وفصّلت القول في المسألتَين: «شخصياً أعتبر القدس عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل»، و«إذا اختارني النيويوركيون [أيـ في تعبير أوضح: إذا صوّت لي يهود نيويورك] لتمثيلهم في الكونغرس، فكونوا على ثقة أنني سأظلّ ناشطة وملتزمة في الدفاع عن إسرائيل قويّة وآمنة وقادرة على العيش في سلام مع جيرانها، على أن تكون سفارة الولايات المتحدة واقعة في عاصمتها، القدس».
مواقفها حديثة العهد أكثر من أن تحصى، وليس أبرزها اليوم أنّ وزيرة الخارجية الجديدة تتبنى، في ما يشبه استنساخ صورة طبق الأصل، خطاب التهويل الذي تعتمده إسرائيل ومنظمات اللوبي الإسرائيلية بصدد البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي لم يكن خيار أوباما حتى في ذروة تملّقه للدولة العبرية وأنصارها، بل كان على العكس: بمثابة “خطيئة سياسية” أخذتها عليه كلنتون، منافسته في الإنتخابات الديمقراطية. وفي زيارتها إلى إسرائيل، خريف 2005 صحبة زوجها الرئيس السابق بيل كلنتون، وقفت أمام جدار الفصل العنصري الإسرائيلي لكي تتغنى به… لا كما تجرّأ عتاة الإسرائيليين المدافعين عن فكرة إقامة الجدار: “هذا ليس ضدّ الفلسطينيين. هذا ضدّ الإرهابيين. وعلى الشعب الفلسطيني أن يساعد في منع الإرهابيين. وعليهم أن يبدّلوا مواقفهم من الإرهاب”.
أليس طريفاً، ومحبطاً تماماً لأولئك الذين علّقوا فيضاً من آمال التغيير على رجل واحد، أن يكون المحافظون الجدد في عداد الأناس الأكثر ترحيباً بفريق أوباما للأمن القومي، كأن يصرّح كارل روف، الملقّب بـ “دماغ بوش”، أنّ هذا الفريق “مطمئن تماماً”؛ وأن يقول ماكس بوت، أحد كتّاب الـ “ويكلي ستاندارد” والإداري السابق في حملة ماكين، أنّ الأخير كان سيختار نصف الأسماء التي اختارها أوباما لو انتُخب رئيساً، بما في ذلك هيلاري كلنتون؟ وفي نهاية المطاف، ما الذي يمكن للمرء أن ينتظر على صعيد تبديل العقائد الكبرى التي كانت بمثابة ركائز كبرى للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، طيلة عقود؟
تاريخ تلك العقائد، التي اعتمدها رؤساء الولايات المتحدة بصرف النظر عن انتمائهم إلى الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، لا تترك لأيّ رئيس أمريكي هامش مناورة واسعاً في التملّص من الثوابت، أو المساس الجدّي بما صار فلسفة ناظمة شبه مقدّسة. هنالك الرئيس هاري ترومان في عقيدته، التي سُمّيت باسمه في الخمسينيات، وهدفت إلى حماية المصالح الأمريكية شرقي المتوسط، وتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وهنالك عقيدة ودوايت أيزنهاور، في استخدام حرب السويس عام 1956 من أجل محق النفوذ الإمبراطوري لكلّ من بريطانيا وفرنسا، وإحلال الإمبراطورية الأمريكية محلّ الجميع، مرّة وإلى الأبد. وفي الستينيات، شاعت عقيدة ليندون جونسون في تكوين تحالف ستراتيجي أمريكي ـ إسرائيلي ضدّ التحالف السوفييتي ـ العربي، الذي حاول الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هندسته، فتلقى ضربة قاصمة في حرب الأيام الستة عام 1967. وفي السبعينيات، شاء ريشارد نكسون توظيف حرب تشرين (أكتوبر) 1973 من أجل فرط التحالف أعلاه، وإعادة مصر إلى الحظيرة.
والرئيسان جيرالد فورد وجيمي كارتر ترجما هذا الخطّ على الأرض (اتفاقيات كامب دافيد) ومحاولة توسيعه لكي يشمل صيغة تحالف أمريكي ـ إسرائيلي ـ عربي غير معلن، تنخرط فيه الدول العربية «المعتدلة» وتسكت عنه الدول العربية «الراديكالية» التي أخذت تتحسس ارتباك السياسة الخارجية السوفييتية. وفي الثمانينيات حقن رونالد ريغان هذا المشروع التحالفي بأسباب الحياة، بعد أن ساورته عوامل الضعف أو اختلاط الأوراق والمعادلات، خصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران، وإندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية. وليست تراثات جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن سوى تنويعات على هذا النحو أو ذاك، تستكمل تلك العقائد في مبدأ “النظام الدولي الجديد” أو «الإحتواء المزدوج» أو “الضربة الاستباقية” أو… “الشرق الأوسط الجديد”!
وهكذا، قبل أن يكون فريق الأمن القومي الأمريكي الجديد “خلطة” مساومة تمزج بين العقائد تلك، أو “حكومة وحدة وطنية”، بين الديمقراطيين والجمهوريين، فإنه ـ في الباطن الأعمق، والأكثر احتواء على المعطيات الواقعية ـ خلاصة بليغة تصوّر المأزق الذي سوف تعيشه إدارة أوباما: أنه رئيس جاءت به رغبة التغيير العارمة، التي اتفقت عليها المؤسسات المالية العملاقة مثل ساكني أزقة هارلم وشوارع السخط الأمريكية؛ ولكنه الرئيس العاجز عن تحريك عجلات المستقبل إلا إذا توقف عند استمرارية الماضي، وطمأن المؤسسة على أنّ صناعة التغيير… لا تُبطل بضاعة الثبات!
خاص – صفحات سورية –