في الطائفية والهيمنة والمعرفة السياسية
ياسين الحاج صالح
ليست الطائفية مجرد مشكلة اجتماعية يتعين تحويها إلى مسألة نظرية وعملية من أجل معالجتها وحلها، وإنما هي كذلك أداة في الصراع السياسي. لذلك تجازف مقاربتها بالتحليل والدراسة التي لا تدرك خاصيتها المزدوجة تلك أن تنزلق هي ذاتها إلى مقاربة طائفية. أي أن المعرفة بالذات يحتمل أن تكون أداة من أدوات الصراع الطائفي، بدل أن تكون الطائفية مثل غيرها موضوعا لمعرفة موضوعية تجتهد في أن تكون متجردة من الهوى و…الهويات. وفي هذا تختلف الطائفية عن مشكلات اجتماعية أخرى كالفقر مثلا أو البطالة أو الأمية. فهذه المشكلات ميسورة الموضعة (تحويلها إلى «موضوع» للدراسة)، ولا تكاد تتدخل في تشكيل ذاتية دارسها (وهو من «الطبقة الوسطى» عموما، «مستقل» التفكير)، ولا تحرف أحكامه بانحيازات مبعثُها الانتماء.
ولا ريب في أن لهذه الصفة المزدوجة للطائفية ضلعا في كون التفكير فيها والكتابة والنقاش حولها موضعا لصراع سياسي أيضا. هذا يتبينه المرء بسهولة في سورية حيث يتعرض الموضوع لكبت فكري وسياسي وإيديولوجي شديد. تتوفر لدى بعضنا أسباب وفيرة لإثارة نقاش حول مشكلة الطائفية أو رفع الحجاب عن وجهها، فيما يبدو أن أفضل نقاش حول المشكلة ذاتها عند بعض آخر منا هو النقاش غير الموجود. وبينما لا يمكن لسياسة التكتم أن تكون مقبولة من وجهة نظر معرفية أو سياسية، فإنه ليس ثمة ما يضمن أن يكون النقاش العلني حول الطائفية متحررا منها. فالمعرفة في هذا المجال مسيسة بعمق، والسياسة كثيرا ما تتوسل معارف تنتحل «الموضوعية» في خدمة مواقف وتوجهات «ذاتية»، أي تحفزها المصلحة والهوى والانتماء. وينكشف عمق التسييس وشموله في أن من قد ينكرون بيننا نوازع الطائفية محركا لسلوكهم وتفكيرهم يجنحون بسهولة إلى تفسير سلوك غيرهم، خصومهم بخاصة، بها. هذا برهان كاف على أن الطائفية ترقّت من نقيصة ذاتية محتملة إلى بنية موضوعية، أو ببساطة تحولت إلى ثقافة. وليس أحد منا خارج تلك البنية وهذه الثقافة. إنها اليوم إطار اجتماعي لكل معرفة ممكنة، المعرفة السياسية بخاصة.
والفكرة التي نريد الدفاع عنها هنا هي أنه ليس ثمة حل عادل أو عقلاني أو ديموقراطي للمشكلة الطائفية. الحلول العقلانية والديموقراطية «توافقية» بطبيعتها، لكن منذ أن نتكلم على حضور الطائفية فإننا نعني أن الطوائف متشكلة أو تنزع إلى التشكل في أطراف سياسية، تتوافق أو لا تتوافق مع غيرها، فتنحصر الخيارات العامة بين حرب أهلية طائفية وبين سلم أهلي طائفي بدوره. وعلى هذا النحو تجازف أية حلول ديموقراطية بأن ترسخ الطائفية ثقافيا وسياسيا وتجعل الخروج منها متعذرا.
والفكرة المكملة التي ندافع عنها أيضا هي أنه لا مخرج من هذا الوضع إلا بالقوة، أي بأن ينجح طرف سياسي في فرض رؤيته لمجتمع جديد على الجميع. لكن كي يكون هذا ممكنا يتعين أن يجد «الجميع» في «المجتمع الجديد» ما يجذبهم ويغريهم، وفي القوة القائدة ما يقنعهم بتفوقها. المفهوم الذي يغطي مزيج القوة (بما فيها حتماً القوة المادية التي تلحق الهزيمة بأية مقاومات فئوية) والجاذبية العامة هو مفهوم الهيمنة. وقد يناسب أن نستحضر في ذهننا عند التفكير في هذا المفهوم نيتشه إلى جانب غرامشي، «إرادة القوة» و»التفوق» إلى جانب الاقتناع والرضا والعمل للفوز بالسلطة في «المجتمع المدني».
ما تفتقر إليه السلطات في بلداننا، ومنها سورية طبعا، هو الجاذبية، النموذج المغري الذي يستهوي ويثير حماسة قطاعات واسعة من الجمهور للالتحاق به، ولو بثمن مفارقة الأطر الأهلية الحميمة. تعوض عن ذلك بالإمعان في القوة الخام وباصطناع الكاريزما للحكام. في المقابل نجد ما يفترض أنه نموذج جاذب، فكرة الديموقراطية والمساواة العامة بين السكان، لكنه معزول عن القوة، يتوسل الإقناع والحجج العقلانية بدل أن يستهوي ويشكل ويجذب و… يفرض. نسلم في هذا السياق بأن في مفهوم الهيمنة عنصرا غير عقلاني، يجعل منه عصيا على الشرح النظري وعلى الإعداد والتخطيط العملي. هو يبقى مفيدا على أية حال كاسم محتمل لجهلنا بكيفية صنع إجماع جديد غالب للطائفية، وللتشكك في حلولها «العقلانية» و»الديموقراطية» التي تنطلق من الواقع الحالي.
وقد يفيد في التوضيح أن نستذكر أن الفكرة القومية العربية كانت مهيمنة في سورية، ومشكّلة لضرب من هوية عليا متعالية على الطوائف، ومستهوية لسوريين من هويات أهلية متنوعة. هذا لم يتحقق بصيغة مجردة تضع هوية أوسع مقابل هويات أضيق، بل بصيغة تاريخية عينية تمثلت في اقتران العروبة بقيم وأفكار التقدم والاستقلال والاشتراكية والعلمانية…، بدلت معنى العروبة من اسم لرابطة إثنية ضيقة (يتفوق البدو في ادعائها على غيرهم) إلى عنوان لإرادة التحرر والمساواة والقوة. ولقد تواطأت تناقضات وفيرة في الفكرة العربية، إن في صيغتها الناصرية أو البعثية، مع هزيمتها العسكرية في عام 1967 على تفكك الهيمنة القومية إلى قوة عارية قليلا أو كثيرا، وإلى فكرة عزلاء جنحت إلى التماهي بالإسلام، اسم الهيمنة الأقدم في مجالنا «الحضاري». ولعله كان ثمة طاقة تشكيل وربط، هي العنصر غير العقلاني في الهيمنة، تبخرت في الهواء.
لكن ليس ثمة حل إسلامي للمشكلة الطائفية. لا بل إن صعود الإسلامية في المشرق اقترن في المشرق (والمغرب، وإن بصيغة مختلفة) مع صعود الطائفية. وليس هذا غير طريقة أخرى للقول إن «الإسلام» ارتد ملة بين ملل، ولم يعد مبدأ مهيمنا يتوفر على حلول لمشكلات السياسة والتنظيم الاجتماعي والتعليم والقانون.
ما نريد الخلوص إليه هو أن الطائفية نتاج تفكك الهيمنة القومية العربية التي كانت أتاحت، في سورية على الأقل، إجماعا وطنيا لا بأس به، لعل آثارا ورمزيات له لا تزال حاضرة.
والسؤال الذي قد يثار في هذا الصدد هو: لماذا لا تكون الوطنية السورية عنوان الهيمنة الجديد؟ ألا توحد السوريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فوق أنها لا تقصي الأكراد الذي كانت الهيمنة القومية العربية تركتهم خارجا (لم يكن الأكراد خارجا تماما، فانفتاح القومية العربية على الاشتراكية و»الشعوب المضطهدة» أتاح درجة من الشراكة الواقعية التي اصطدمت في كل حين مع الحدود الضيقة والشوفينية بالفعل للتفكير القومي العربي)؟ يبدو هذا عقلانيا، لكن في الهيمنة ما هو غير عقلاني… الأمر على أية حال بحاجة لمزيد من التفكير. ما الذي ليس كذلك؟
خاص – صفحات سورية –
أعتقد أن سورية كوطن للجميع هو خيارنا الوحيد واهم ما فيه انه حقيقة لا بد من إبرازها
ثانيا أشكرك كثيرا ربما لأنك رتبت الأفكار بشكل موضوعي منطقي مبشر، لأننا نبحث كسوريين عن منظرين لمستقبل سوري لأ يقيمون نظرياتهم على الأساس نفسه للسلطة بحيث يغدوان كبعضهما تماما في تخوين أي مغاير ونضيع نحن بينهما
وأعتقد أن نسبة لا بأس فيها على الأقل من أفراد جيلي والأصغر منه (20-35) لا يبحثون عن أي شيء آخر سوى سورية تتسع لنا جميعا وعل معيار المواطنة فقط
شكرا مرة أخرى لأن مقالتك عنت لي بالتوقيت هذا الذي قرأتها فيه، بصيصا ما أفرح قلبي في يأسه وفي تخبطه بالتفكير بين البقاء في سورية او التفكير بالهجرة