تبا لأوربة وتبا لشراكتها المتوسطية
برهان غليون
اعتادت إسرائيل في السنوات الماضية أن تفكك بعض الحواجز ونقاط التفتيش التي تزرع الأراضي الفلسطينية المحتلة طولا وعرضا، ويزيد عددها على الخمسمئة وخمسين، لتقيم بعضها الآخر في مواقع قريبة أو جديدة. وقد غاب عنا سر هذه السياسة فترة طويلة حتى جاءت إتفاقية تعميق الشراكة الاسرائيلية الأوروبية التي وقعت بين الطرفين في 16 من ديسمبر الجاري لتجعل من إسرائيل عضو الاتحاد الجديد المدلل بامتياز. فلم تجد الإدارة الأوروبية المسؤولة شيئا أخرسوى هذا التفكيك الشكلي والجزئي للحواجز تستند إليه لتبرير هذا التمييز الاستثنائي لاسرائيل، ولتجاوز بنود اتفاقية الشراكة الاسرائيلية الأوروبية التي تنص على ربط تعميق الشراكة بتحقيق نتائج ملموسة على طريق تكييف المباديء الاسرائيلية مع القيم الأوروبية المتعلقة بالسلام واحترام حقوق الانسان في فلسطين.
والحق أنه لا ينبغي لمثل هذا العمل أن يفاجئنا بعد أن أعلن وزير خارجية فرنسا، الذي قادت بلاده عملية رفع درجة الشراكة مع إسرائيل، وأكرهت بقية الأعضاء الأوروبيين المترددين على وضعها على أجندة النقاش قبل الموعد المقرر لها أصلا، للاستفادة من الموقع الذي يحتله الرئيس الفرنسي حتى نهاية ديسمبر كرئيس للاتحاد الاوروبي، أقول بعد أن أعلن السيد كوشنر أن هناك تناقضا لايمكن تجاوزه بين السياسة ومباديء حقوق الإنسان. لكننا هنا أيضا كنا قد أخطأنا التفسير معتقدين أن ما قصده الوزير الفرنسي يتعلق بسياسة بلاده مع بعض البلدان التي تحتل موقعا استراتيجيا ولا يمكن تجاهلها بالرغم مما تمارسه من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان، على مبدأ للضرورة أحكام. بيد أن الأمر كان على ما يبدو أعمق من ذلك، وعنى، كما لم يكن يخطر ببال، الإعلان عن التخلي الكامل عن مبدأ ربط السياسة الخارجية الاوروبية بمعايير حقوق الانسان بعد أن استنفدت هذه العلاقة أغراضها.
لكن بالرغم من ذلك، لا تزال مفاجأة الإسراع بتوقيع اتفاقية الشراكة المعمقة الاسرائيلية الأوروبية كبيرة، ليس لأنها تنافي مباديء حقوق الإنسان هذه المرة، فهذا ما لم يكن سرا سوى لصانعي السياسة الغربية، الذين كانوا وربما لا يزالون يعتقدون أن خصومهم يجهلون حقيقة أن مثل هذه المباديء لم تؤخذ ولو مرة واحدة في الاعتبار السياسي في أي وقت مضى، وإنما بسبب الوقت الذي اختارته رئاسة الاتحاد. فإذا استثنينا التصريحات المفاجئة بالفعل، والدعائية بالتأكيد، لرئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية صلاحيته، في الأشهر الأخيرة حول نواياه السلمية، لم تكن إسرائيل أبعد في سياساتها العملية عن السلام وأكثر عدوانية في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، وأشد تجسيدا لسياسات الاستعمار التقليدي ومناهج حكمه مما هي عليه منذ أن دفنت ورقة الطريق الشهيرة، وعلقت المفاوضات مع الفلسطينيين، وصار مؤتمر أنابوليس في حكم النسيان. ولم تحقق الحكومة الاسرائيلية أي تقدم طالب به الاتحاد الأوروبي كشرط لتعميق التعاون في موضوع تفكيك المستوطنات، الشرعية وغير الشرعية، حسب الاصطلاحات الاسرائيلية، ولا حتى في وقف المشاريع الاستيطانية المدعومة من الحكومة. بل إن ما حصل هو العكس تماما. فلا تزال حركة الاستيطان مستمرة تحت غطاء الاستعداد للتفاوض على السلام مع دمشق.
لكن الأمر الأدهى من ذلك والذي يجعل من التوقيع على الاتفاقية الجديدة عملية إذلال مقصود للعرب واستفزاز للفلسطينيين وتحد لأي ضمير إنساني حي، حتى في أوروبة نفسها، هو غض نظر بروكسيل عن السياسات الاسرائيلية المتعلقة بالحصار الكامل المفروض على غزة، والذي لا يطال المواد الاستراتيجية أو التي يمكن أن تخدم أغراضا عسكرية وتعزز عمل المقاومة الفلسطينية، ولكن كل ما يحتاج إليه الانسان للبقاء والحفاظ على الحياة. فهو يشمل الماء والكهرباء والمواد الطبية والغذائية والطاقة ومواد البناء ألخ، ويهدف كما هو واضح إلى خنق شعب كامل وتجويعه وإفقاره وتشريده على أرضه. وهذا ما يحصل على الأرض بالفعل. فقد أدى الحصار حتى الآن إلى إغلاق أبواب أكثر من ثلاثة أرباع المؤسسات والمصانع والمحلات التجارية، وتوقف الحياة الاقتصادية تماما، مع ما يعنيه ذلك من انتشار البطالة والفقر واليأس والمرض. ولم يمنع الكارثة حتى الآن سوى ما يصل من بضائع قليلة من مصر عن طريق التهريب من خلال أنفاق حفرت بوسائل بدائية، قابلة دائما للانهيار على أصحابها.
كيف أمكن لقادة الاتحاد أن يتجاهلوا هذا الواقع، وأن يعملوا كما لو لم يكن قائما، وكما لو أن العرب غير موجودين أيضا، لا كرأي عام ولا كحكومات تدعي جميعها الصداقة لأوروبة، بل تراهن على أوروبة لتكون سندا لها في مواجهة التصلب الاسرائيلي والغطرسة الأمريكية؟ وما هو المغزى من توقيع هذه الاتفاقية قبل أوانها، والموعد المقرر لها؟
اعتاد الأوربيون في كل مرة يحاولون فيها تبرير تجاوزهم لمباديء حقوق الانسان، بل تغطيتهم على الانتهاكات الخطيرة لها هنا وهناك على الإدعاء بأن المقصود هو تمتين العلاقات مع الطرف الآخر في سبيل احتلال موقع يسمح بالضغط عليه أو الأخذ بيده في الطريق الأسلم ومنعه من تبني سياسات سلبية أكثر. ولا نريد أن نتهم الأوربيين بالسذاجة، لكننا لا يمكن أن يعاملوننا أيضا كساذجين.
لا يعني ما قام به الاتحاد الأوروبي في إطار تطوير علاقات الشراكة الأورومتوسطية مع إسرائيل هذا الشهر شيئا أخر سوى إطلاق يد إسرائيل في فلسطين، وبداية تمهيد السبيل لعملية الاجتياح التي كانت الحكومة الاسرائيلية تعد بتنفيذها في غزة، والتي تهدف من خلالها إلى تغيير الوقائع على الأرض وإزاحة حركة حماس من السلطة هناك مهما كلف ذلك من مآسي وكوارث للشعب ا لفلسطيني، مادية وسياسية. وقد جاء تنفيذ العملية يوم 27 ديسمبر بعد أقل من أسبوعين من توقيع اتفاقية الشراكة المعززة ليؤكد هذا الاستنتاج، ويقدم غطاءا سياسيا مسبقا لاسرائيل ضد أي انتقاد أو اعتراض في أوروبة على سياسة الاحتلال والعنف والمجازر الجماعية التي ترتكبها في الأرض الفلسطينية وتجاه الشعب الفلسطيني..
فالاتفاقية الجديدة تجعل من إسرائيل عضوا حقيقيا في الاتحاد الاوروبي يشارك في حواراته واجتماعاته السياسية، من خلال اجتماعات دورية، كما يشارك في برامج أوروبية عديدة خاصة في ميادين تطوير المنافسة والتجديد التقني والبحث العلمي والتنموي، كما يشمل التعاون في إطار الاتفاق الجديد ميادين الطاقة والنقل والقضاء والشؤون الاجتماعية والتربية والتعليم، وأخير قضايا حقوق الانسان والكفاح ضد الإرهاب. ويعني هذا أن لاسرائيل منذ الآن كلمتها في تحديد السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط والعالم أجمع. وبإمكانها كأي عضو آخر أن تعترض على هذه السياسة أو تلك وأن تطالب باحترام مصالحها كأي عضو آخر. وهذا هو في الواقع الهدف الرئيسي من توقيع اتفاقية الشراكة المعززة.
والواقع أن إسرائيل حصلت بهذه الاتفاقية على موقع يتجاوز الاندماج في الاتحاد. وهو ما كان قد حصل منذ اتفاقية عام 1995 التي أسست منطقة التجارة الحرة الأوروبية الاسرائيلية، وبنت أسس التعاون الثنائي في إطار برنامج لبحث العلمي والتنمية (2007-2013)، والذي أمن لها معونة بلغت مليار دولار من أجل دعم التعاون بين الشركات الأوروبية والإسرائيلية. وقد أتاح هذا البرنامج الذي تشارك فيه أكثر من 2000 شركة إسرائيلية لتل أبيب بتوسيع مقدراتها الصناعية والتعاون مع مراكز البحث العلمي الرائدة وأهم الجامعات الاوروبية. أما الاتفاق الجديد فسوف يقدم لإسرائيل مشاركة لا محدودة في برامج البحث العلمي الأوروبية، الأكاديمية والتقنية. وبعكس الأعضاء ال 27 الرسميين، تتمتع إسرائيل بجميع الحقوق التي يتمتع بها هؤلاء من دون أن يترتب عليها أي واجبات. فهي البلد الوحيد الذي يحق له أن يكون بلدا استعماريا ويتحدى مباديء الديمقراطية وحقوق الانسان التي تنص عليها الوثيقة التأسيسية للاتحاد ويحظى أكثر من ذلك بمعاملة تفضيلية.
هذا من دون شك أكبر انجاز سياسي حققته إسرائيل منذ سنوات طويلة. ولا يرجع الفضل فيه للرئيس سركوزي والوزير كوشنر فحسب، وإنما لغياب العمل الوطني العربي الكامل عن الساحة العالمية بل والإقليمية، إن لم نقل لضياع أي رؤية عربية وطنية، وهو ما يستحق من إسرائيل أعظم الشكر والتقدير.