حرب إسرائيل المجنونة على غزة
باتريك سيل
تُعتبر الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة ضربا من الجنون السياسي. فهذه الحرب هي نتاج مجتمع مضطرب إلى أقصى الحدود، إذ انه غير قادر على ضبط عجرفته العسكرية ولا على تهدئة شعوره العميق بالاضطهاد. ومن المرجّح أن تكون العواقب مؤلمة في الأفق الإسرائيلي على المدى الطويل.
وتُبعد هذه الحرب الوحشية، التي تجعل الفلسطينيين أكثر تطرّفاً وتؤجّج مشاعر الغضب في العالم العربي والإسلامي، إمكانية انخراط إسرائيل سلميا في المنطقة في المستقبل المنظور. وقد يشكّل ذلك هدف إسرائيل الأساسي المثير للسخرية بما أنها تريد الهيمنة وليس التعايش السلمي.
وفي الواقع، أكدت الحرب ما بدا واضحاً منذ زمن طويل، وهو أن إسرائيل لا تملك مصلحة في التوصل إلى سلام متفاوض عليه. فالسلام يعني التراجع والتنازل عن الأراضي فيما إسرائيل لا تزال مصممة على التوسع. وهذا ما يفسّر سرقة أراضي الضفة الغربية وتزايد عدد المستوطنات بسرعة فائقة، فضلا عن تدمير منازل الفلسطينيين وبناء الجدار الأمني وشبكة الطرقات الخاصة بالمستوطنين والتضييق الاقتصادي على الفلسطينيين من خلال 600 نقطة تفتيش، ناهيك عن مضايقات قاسية أخرى.
ولعلّ السلام هو المتضرّر الأساسي من جراء هذه الحرب. فهو ميت على غرار الجثث الهامدة في غزة. وقد تمّ القضاء نهائيا على حلّ الدولتين وتمّ تعليق المحادثات الإسرائيلية – السورية وتمّ وأد خطة السلام العربية التي اقترحت السلام على إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية الاثنتين والعشرين في حال وافقت على الانسحاب إلى حدود العام 1967، في حمام من الدم وفي الدمار الذي تخلفه الغارات.
ولا شك في أنّ أحد أهداف حرب إسرائيل يكمن في الاستيلاء على أي محاولة قد تقوم بها الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة باراك أوباما لإعادة إطلاق عملية السلام المحتضرة. وستتم خسارة أشهر مهمة حاليا للملمة الفوضى. أما في ما يتعلق بإدارة بوش المنتهية ولايتها، فلا شكّ أن الأكاذيب الواضحة الصادرة على لسان كوندوليزا رايس التي حمّلت حركة «حماس» مسؤولية الحرب، هي السمة السياسية لأقل وزراء الخارجية الأميركية فعالية في العصور الحديثة.
ولم تحبّذ إسرائيل يوما المعتدلين الفلسطينيين لسبب بسيط وهو أنه يجب أن تقدم إليهم التنازلات. وبغية تجنّب الانجرار إلى المفاوضات، فضّلت المتطرفين الفلسطينيين وكانت تبذل كلّ ما بوسعها لإنتاجهم عندما يغيبوا. وتتردد لازمة معروفة في الأوساط الإسرائيلية مفادها «كيف يمكنك أن تتفاوض مع شخص يريد أن يقتلك؟»
وأثبتت الحرب على قطاع غزة، رفض إسرائيل العميق لأي تعبير عن القومية الفلسطينية. والدليل على ذلك هو ستون عاما من الحروب والاغتيالات والمجازر. ويبدو أن الزعماء الإسرائيليين يخافون، عن قصد أو عن غير قصد، من أن يؤدي الاعتراف بالتطلعات الفلسطينية إلى إضعاف شرعية مؤسستهم الوطنية.
وربما تمّ شن الحرب لأن حركة «حماس» أبدت أخيراً إشارات تدل على توجه معتدل. فقد عبّر المتحدثون الرئيسيون باسمها بمن فيهم خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي، عن استعدادهم للقبول بدولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967. وفوجئت إسرائيل أنهم بدأوا بإبعاد أنفسهم عن شرعة الحركة التي أُعدّت في العام 1987 والتي تدعو إلى تدمير إسرائيل.
وشكلت صواريخ القسام إحراجا كبيرا للحكومة الإسرائيلية. فهي لم تكن قادرة على وقفها إلا بعد الاتفاق على هدنة. وأغضبت الصواريخ شعبا إسرائيليا لا يبالي سوى بمعاناته. لكن في الواقع، لم تكن الصواريخ سوى مجرد إزعاج بسيط. فتدل الأرقام على أن أقل من 20 إسرائيلياً قضوا نحبهم من جراء صواريخ القسام منذ انسحاب إسرائيل من غزة في العام 2005، فيما في الفترة نفسها قتلت إسرائيل حوالي ألفي فلسطيني. ولا شك أن إرهاب دولة إسرائيل كان قاتلا بقدر لم تستطع حركة «حماس» التعامل معه.
ولم تحبذ إسرائيل يوما الهدنة مع حركة «حماس» وقد اختارت ألا تحترم بنودها. فعوضا عن فك الحصار عن غزة عمدت الى تضييقه، فأغرقت القطاع المكتظ بالسكان في بؤس كبير. كما أنها خرقت الهدنة بغارات مسلحة في 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، فقتلت عددا من الرجال التابعين لحركة «حماس». ويجب النظر إلى هذا التصرف على أنه محاولة متعمدة لجرّ «حماس» إلى ردّ عنيف وبالتالي إلى إعطاء إسرائيل ذريعة لشن هجوم عليها.
وشكّلت الصواريخ التي تطلقها «حماس» أحد الأسباب المتعددة التي دفعت إسرائيل إلى شن حرب علماً أنه ليس السبب الأهم. فقد أعطت هذه الصواريخ إسرائيل ذريعة لشن حرب تحمل أهدافاً بعيدة.
ويكمن الهدف الاساسي لحرب إسرائيل في التأكيد على هيمنتها العسكرية على جيرانها كافة وذلك منذ إنشائها في العام 1948. وتُعتبر الحرب بالتالي بمثابة تحذير إلى «حزب الله» وإلى سورية وإيران وإلى أي شخص يجرؤ على تحدي سيطرة إسرائيل علما بأنهم قد يحظون بالعقاب نفسه الذي تفرضه إسرائيل على غزة.
ويكمن الردع من ناحية واحدة، أي من ناحية إسرائيل فحسب في قلب عقيدة إسرائيل الأمنية. فهي تريد أن تحظى بالحرية الكاملة لتضرب من دون أن تلقى أي رد بالمقابل. وهي تعتمد على قوة وحشية لحماية نفسها وترفض أيّ نوع من أنواع الردع المتبادل. وهي تعارض أي توازن إقليمي للقوة، قد يجبرها على الاعتدال في أفعالها.
وخلال السنوات الأخيرة، نجح كل من «حزب الله» و «حماس» وإيران في تقليص قدرة إسرائيل الرادعة. وصمد «حزب الله» في الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في العام 2006 فيما أجبرت صواريخ حركة «حماس»، إسرائيل على الموافقة على الهدنة. ومن وجهة نظر إسرائيل، قاومت الولايات المتحدة الضغوط التي مارستها عليها إسرائيل لشن حرب على إيران، بحيث وصفت برنامجها النووي بأنه خطر «وجودي». والحقيقة هو أنه في حال وصلت الجمهورية الإسلامية إلى العتبة النووية، قد تتقلص حرية إسرائيل في ضرب جيرانها.
وخلال الهدنة مع «حماس» كرّس وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك وقته للتخطيط للحرب التي أطلقها إلى جانب وزيرة الخارجية تسيبي ليفني. وتمّ التحضير بإتقان للهجوم في الأشهر الهادئة نسبيا. وآخر ما تقبل به إسرائيل هو أن تمتلك «حماس» أي قدرة رادعة تشبه قدرتها.
تتجه إسرائيل إلى صناديق الاقتراع في 10 شباط (فبراير). وستحدّد نتيجة الحرب ما إذا سيستعيد باراك، مهندس الحرب في غزة دعم حزب تسيبي ليفني «كاديما» وحزب «الليكود» اليميني المتطرف بقيادة بنيامين نتانياهو، لحزب العمل.
ومن المثير معرفة ما إذا كانت الحرب مؤامرة انتخابية مثيرة للسخرية بإدارة باراك وليفني وهي تهدف إلى تعزيز توقعاتهما وإلى إبقاء نتانياهو جانبا. في الواقع، وافق كل زعماء إسرائيل السياسيين على شن الحرب مهما كان انتماؤهم الحزبي. فكلهم مهووسون بالقوة العسكرية. ولم يبد أي منهم قادرا على التوصل إلى البنود التي قد تفرضها عملية سلام حقيقية. ولعلّ أيا منهم لن يصدّق بأنه تم الصفح عن جرائم إسرائيل أو نسيانها ولا خيار أمامهم بالتالي إلا المضي في القتل.