مأساة غزة مستمرّة حتى إشعار آخر
راسم المدهون
هو بكل المقاييس العدوان الأوسع والأكثر شراسة وتدميرا الذي يتعرّض له قطاع غزة منذ وقوعه تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. الآلة العسكرية الإسرائيلية المجنونة والمدفوعة ببورصة الانتخابات القادمة تصب جام غضبها على تلك الرّقعة السهلية المنبسطة وكثيفة السكان، والتي تعيش حالة حصار خانق منذ قرابة العامين.
حجم الضحايا في صفوف المدنيين تفوق وتيرتها ما حدث في أية حرب عدوانية أخرى.
هي حرب تشنها المؤسستان السياسية والعسكرية في إسرائيل لإخضاع المجتمع الفلسطيني، وإعادة ترتيب أوراق السياسة في المنطقة، بما في ذلك تدمير البنية المجتمعية الفلسطينية ودفع حالتها السياسية إلى القبول بأية حلول ممكنة بما في ذلك تلك التي تنطلق من فصل القطاع عن الضفة الغربية، وتفتيت المصير الوطني الفلسطيني باعتباره تجسيدا لقضية وطنية واحدة، تمهيدا لإلغاء قضية فلسطين، والعودة إلى مرحلة ما قبل عام 1967، أي مرحلة غياب الإرادة الوطنية الفلسطينية الواحدة والموحدة، والناطقة باسم القضية في المحافل الدولية.
أخطر ما في العدوان الجديد أنه يقع في لحظة سياسية فلسطينية بالغة البؤس، إذ هي لحظة انقسام بين جناحي الوطن، وهو انقسام لا تتوقف آثاره التدميرية عند حدود ما هو قائم من تباعد بين الجغرافيتين الفلسطينيتين في الضفة والقطاع، بل يمتد نحو انقسام آخر نراه ومنذ بدء العدوان في تصريحات لقادة حركة حماس والناطقين باسمها معززين بقناة الجزيرة التي تهدف مجتمعة ومتفرّقة إلى تصوير ما يقع في غزة باعتباره حربا على حركة حماس بتواطؤ من قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، وليس كما يفترض المنطق والواقع حربا إسرائيلية على الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه.
بين الفرضيتين بون شاسع بالتأكيد، ففيما تفترض أوهام حماس الابتعاد والإيغال في الانقسام، تفترض حقائق الواقع والمنطق إنهاء الانقسام وإعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بما يمكّن الجميع من إحباط الآثار السياسية السلبية للعدوان، بعد أن أصبح واضحا للجميع استحالة إحباط الآثار العسكرية التدميرية لآلة حرب إسرائيل الحديثة .
الشعب الفلسطيني يحتاج في هذه الظروف الاستثنائية إلى تعزيز صفوفه وليس إلى أوهام تصفية الحسابات السياسية. واهم كل من يعتقد أن الدم المراق اليوم في شوارع مدن وقرى ومخيمات غزة سيكون سندا من أي نوع لتعميم أفكاره وتسييد سلطته وإزاحة خصومه السياسيين. ذلك أن شلال الدم ذاته يفترض العكس تماما، أي العودة إلى العقل والمنطق، والنزول عن شجرة الاستعلاء والمكابرة بدلا من الهروب إلى الأمام والتوغل في سياسة إدارة الظهر للشعب وقواه السياسية الفاعلة كما يحدث اليوم وكما نرى ونسمع من تصريحات على الفضائيات وخصوصا فضائيتي الجزيرة والأقصى.
من المهم أيضا الإشارة إلى الآثار الخطيرة لسياسة توزيع التهم على دول وأطراف عربية في وقت يحتاج فيه الشعب الفلسطيني إلى أوسع درجات التضامن، بل وإلى الحدود الدنيا من التضامن العربي الرّسمي والشعبي بما يمكن من إنهاء العدوان وإيقاف عمل آلة التدمير الإسرائيلية إنقاذا لحياة مواطني قطاع غزة من محنتهم الدائرة بشراسة غير مسبوقة.
أعتقد أن الأولوية الآن هي لوقف العدوان بكل الوسائل الممكنة، وفي سبيل تحقيق ذلك لا بد أن تتوقف حملات توزيع التهم المجانية، اللامسؤولة والمدمّرة للمصير الوطني الفلسطيني والعودة إلى العقل والمنطق كي يتعاون الجميع على إنهاء العدوان وإفشال المخططات الإسرائيلية.
إما ذلك وإما أن تستمر مهزلة التقاتل تحت سكين العدوان وقذائف الطائرات، بما يسهّل للعدوان تحقيق أهدافه كاملة.
[ 2
لم يعد من الممكن أبدا رؤية الحالة الفلسطينية الرّاهنة بعيدا عن فعل عربي عام، يقوم بدور حاسم في إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، وإجبار كافة القوى والأطراف السياسية الفلسطينية على العودة إلى طاولة الحوار المباشر وفق الورقة التي أعدتها مصر ووافقت عليها جامعة الدول العربية. الحوار وليس الاتهامات هو السبيل الوحيد لإنهاء الحالة الشاذة القائمة اليوم، وهو حوار بات واضحا أنه لا يستهدف إزاحة طرف أو الانتقاص من دوره بل الخروج من حالة الاحتراب، والاحتكام للسلاح، إلى استشراف أفق سياسي يفضي إلى انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة يقول من خلالها الشعب كلمته، ويختار من خلالها ممثليه كي يمكن إعادة الوفاق الوطني وترميم ما تهدّم خلال العامين الماضيين، خصوصا وقد كشفت أيام العدوان الهمجي خطورة الانقسام، وما أفرزه من حالات شاذة لم تكن يوما من تقاليد الشعب الفلسطيني كما رأينا في حالة معتقلي حركة فتح في سجون حماس، والذين تركهم السجانون عرضة لقصف الطائرات الإسرائيلية لمبنى السجن الذي يرزحون فيه بسبب انتمائهم التنظيمي.
نقول ذلك وفي البال الكثير من الحوادث الغريبة والتي لا يجوز استمرارها في حياتنا السياسية، وهي حالات تتفاقم بإنكارها أمام وسائل الإعلام والهروب إلى تقديم ذرائع وتفسيرات وهمية لم تعد قابلة لتصديق أحد.
[ 3
لست من الذين يؤمنون بوجود إعلام محايد.
كل إعلام له رأيه وموقفه السياسي، وذلك حقه بالتأكيد.
مع ذلك فالموضوعية التي تفترض حق الاحتفاظ بالرأي، تفترض بالضرورة احترام المهنية.
هنا يصبح من المفهوم والمنطقي أن تمارس أية قناة فضائية حقها الطبيعي في إبداء رأيها، لكن مع الحفاظ دائما على الحقيقة، أي مع إيراد الحقائق كما وقعت فعلا وليس كما يريد الرأي الخاص تصويرها.
نقول ذلك بعد الفضيحة الإعلامية الكبرى وغير المسبوقة التي عاشتها قناة الجزيرة خلال تغطيتها لأحداث العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ففي خلال تلك التغطيات هرع مراسلو القناة الفضائية العربية الأشهر إلى أحد المباني التي قصفت، وراح مصوّرهم ينقل صور بعض الخارجين أحياء من تحت أنقاض المبنى المدمر .. وفجأة إكتشف المراسل مثلما اكتشف المشاهدون بالطبع، أن من يخرجون من تحت الأنقاض هم من معتقلي حركة فتح الذين كانت تحتجزهم حركة حماس في سجونها.
هنا قطعت القناة الإرسال فجأة وهرعت إلى بث آخر ومن منطقة بعيدة.
لا ننكر على القناة التلفزيونية حقّها في أن تكون منحازة لطرف فلسطيني، غير أننا نستهجن أن يتحوّل الحق في ذلك إلى حق في تزييف الحقائق، واستثمار التقنيات الإعلامية المتطورة لتزوير الحالة السياسية الفلسطينية برمتها، ومن ثمّ تضليل أوسع قطاع ممكن من المشاهدين العرب، الذين يتابعون بث القناة.
ليست هي الحادثة الأولى، ولكنها بالتأكيد الحادثة الأولى التي تنكشف وعلى الهواء مباشرة، والتي يصعب إنكارها، أو إعطاؤها تفسيرا مضللا مهما كانت “براعة” القائمين على هذه القناة الإخبارية الشهيرة.
نفترض ويفترض المنطق معنا أن يساهم الإعلام العربي بكل أشكاله في تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية ورأب الصدع القائم وليس العكس.
نفترض من الإعلام أن يلتزم الموضوعية، ولا نقول الحيادية.
نعم مرة أخرى الموضوعية وحسب، أي تقديم ما يحدث فعلا، والكف من التدخل الفظ في تفاصيل حياة شعب يتعرّض لأقسى ظروف يمر بها منذ نكبته الكبرى عام 1948، فهل نطلب المستحيل؟