على هامش الحرب في غزّة: الأسئلة الصعبة
فالح عبد الجبار
عام بائس في ختامه. بائس في مبتداه. عذابات غزة تبدو بلا نهاية. تفقد الكلمات معناها إزاء الألم الانساني اللامتناهي. فغزة هي المثال المصفى لمعذبي الأرض. ليس لدينا فرانز فانون لتشريح الحالة. كل ما لدينا صناعة الكلام العربية المألوفة تكرر البديهيات عن عدو نعرف أنه غاشم، وان آلته العسكرية لا ترحم، وأن نواياه، الخفية أو المعلنة، هي إبتلاعه ما يمكنه من أرض وحقوق. هذه البديهيات العامة لاتفصح لنا عما تغير فينا وفي عدونا، وفي طرق تعاملنا معه. ولا تقول لنا بأية شروط متحولة نواجه هذا الوضع. بالأمس لم تكن ثمة دولة فلسطينية، أو مشروع دولة، اليوم ثمة دولة. بالأمس كان ثمة خطاب حربي ومقاطعة، اليوم ثمة خطاب سلمي وخطاب حربي، وثمة دول تتعاطى سياسيا مع العدو، وأخرى تبدي إستعدادا لمثل هذا التعاطي. بالأمس كان ثمة هيئة سياسية واحدة (منظمة التحرير) تمثل الجماعة القومية، واليوم ثمة هيئتان، أو سلطتان.
الحرب الجديدة ، الفاتكة بكل ماهو إنساني، إختزلت في تفصيل واحد: فتح المعابر، ووقف الحرب. ورغم أهمية وقف الحرب ـ المجزرة، فالسؤال الممض هو: ماذا ينبغي أن نفعل بعد وقف الحرب؟. كذا الحال مع المعابر. ففتح المعابر ضرورة حياتية لقطاع جائع أصلا. ماذا نفعل بعد فتح المعابر؟.
كيف إختزلت القضية الفلسطينية، وهي قضية شعب، وحق في تقرير المصير، قضية لاتخص فتح، ولا تخص حماس، كيف إختزلت الى معابر، بل الى معبر واحد؟.
لقد بادر عدونا عقب حرب تموز (يوليو) 2006 الى فتح كل بوابات النقاش الداخلي التي تناولت تقصيراته، وضعفه، وحماقاته، وفساد قادته، وقصر نظر سياسييه. فرحُنا لانكشاف عورات الآخر لم يعلمنا درس معاينة ما بنا من مثالب دون أن يجأر أحدنا بالصراخ عن «الخيانة» و»تمزيق وحدة الصف».
أسئلة غزة كبيرة كبر العذابات الفلسطينية العربية، ويتوجب على المثقفين قبل السياسيين التفكير بها. في المجال العام، المفتوح، لا في الغرف المغلقة. ولعل أسئلة غزة الكاوية تبدو باردة في نظر كل من ينغمس في العاطفة المتقدة لآلام اللحظة.
أول هذه الأسئلة يتعلق بالدولة. فلدينا الآن دولة فلسطينية، والدولة في معمار العالم هي الوجود القانوني للأمم، وهي الهيئة المقررة للحرب والسلم، وهي بؤرة الشرعية. وينبغي للعرب والفلسطينيين حل مسألة الدولة. هل يريدون الدولة الفلسطينية أم لا؟ وما العمل مع واقع الدولة المنقسمة بين كيانين، الأول يحظى بشرعية دولية، والثاني يحظى بشرعية داخلية.
ثاني هذه الأسئلة يتعلق بمبررات وشروط قيام هذه الدولة، كلنا نعلم انها قامت على اساس إتفاقات سلمية بين منظمة التحرير وإسرائيل، عبر مقايضة الأرض بالسلام، وان تغيير هذا الأساس يعني الغاء شروط وجود هذه الدولة.
ثالث هذه الاسئلة يتعلق بالشرعية الداخلية لهذه الدولة. فمنظمة التحرير، وقوتها الأساسية، فتح، خسرت الانتخابات بفارق طفيف، لأسباب كثيرة ليس أقلها فساد كثرة من موظفيها الذين قوضوا، بجشعهم، الرأسمال السياسي الذي إكتسبته المنظمة بسجلها الوطني المديد، والمليء بالتضحيات. لكن الخاسرين لم يحترموا نتائج الشرعية الداخلية. وبالمقابل لم تستطع قيادة حماس، الفائزة، أن تتحول من زعامة ميليشيات الى قيادة دولة، بل وضعت ميليشياها الحزبية فوق الدولة، وإندفعت لتقويض الأساس السياسي الذي قامت عليه هذه الأخيرة.
فما السبيل لحمل الأطراف الفلسطينية على التعاطي، الجدي، القانوني، مع شرعية الدولة وأساسها القانوني؟
رابع هذه الاسئلة يتعلق باستراتيجية الحرب، خضنا حروبا عديدة خسرناها جميعا بهذه الصورة أو تلك. وتحولت حروبنا من حرب إستعادة فلسطين، الى حرب إزالة آثار العدوان، أي إزالة نتائج الحرب. وانتقل العرب، تدريجيا، الى الخيار السياسي ـ الديبلوماسي. وعلى العرب أن يحسموا الموقف بجلاء: هل ينبغي أن تكون وجهتنا الاستراتيجية حربية، أم سياسية وديبلوماسية.
خامس هذه الأسئلة يتعلق من جديد بفلسطين والفلسطينيين أنفسهم. ولنا الحق في توجيه هذه الاسئلة، بعد أن شاركناهم القتال أعواما، وعمدنا أخوّتنا معهم بالدم: هل يريد الشعب الفلسطيني خيار الحرب، أم خيار السياسة والديبلوماسية؟
الاستفتاء هو السبيل الوحيد لذلك، شرط أن يدرك المستفتون النتائج المترتبة على هذا الخيار أو ذاك، وأن يزنوا الظروف والأحوال والامكانات.
سادس هذه الاسئلة يتعلق بالوضع الحالي. نعم، الدعم كل الدعم لشعب غزة من أجل وقف العدوان، وفتح المعابر لانهاء ديكتاتورية التحكم بالحاجات الاساسية، ولكن السؤال المتمم لهذا الواجب: ما العمل بعد وقف العدوان، وعودة المعابر الى العمل؟. هل نعود الى العمل العسكري، وبأية شروط؟ هل يمكن استمراره دون غلق العدو للمعابر؟. ألسنا في هذا نكرر التجربة العربية السابقة بإختزال أهدافنا الإستراتيجية (قيام الدولة، أو أكثر من ذلك) الى مجرد إزالة «آثار العدوان» اي فتح المعابر.
سابع هذه الأسئلة يلوح ايديولوجياً. لقد كانت الايديولوجيا العربية القومية بطابعها الأرأس تقف في تضاد مع وجود اسرائيل ولا تعترف به، لكنها تحولت الى القبول بفكرة التعايش، اما الايديولوجيا الاسلامية، فما تزال تنطوي على نزعة رفض مطلقة، فما السبيل للخروج من الحلقة المفرغة؟.
ثامـــن هــــذه الاسئلة يتعلق بأساليــــب خــــوض الحرب. فالحروب الحديثة هي بالتعريف حروب بين دول، بجيوش نظامية خاضعة لضوابط قانونية، كان آخرها مثلا قانون حماية الســــكان المدنيين. ونحن نستخدم قواعد القانون الدولي هذه فضلا عن الاخلاقية الانسانية لاستنكار جرائم العدو في ضرب الاهداف المدنية، مستشفيات ومدارس ومنازل، وهو شجب يفهمه العالم ويسانده، ما حمل إسرائيل على الاهتمام اللفظي، في الأقل، بهذه الابعاد. بالمقابل أجد أن عنايتنا بالبعد المدني للحرب ضعيف. فالصورايخ لا تطلق على أهداف عسكرية الا في أحيان قليلة، كما أن بعضنا يعتبر القصف المفــتــــوح للمدنييـــن أمرا مشروعا، اما لاعتبارات أيديولوجــــية متزمتة، او لاعتبارات عسكرية (الرد بالمثــــل). هـــــذا الوضع يضعف الأساس القانوني والأخلاقي للعمل العسكري المناويء للعدو في نظر الاسرة الدولية. فنحن في الواقع نقول لهذه الاسرة، إن ضرب إسرائيل لاهدافنا المدنية خرق، وضربنا لأهدافهم المدنية عدل. إذا كان العملان يشكلان خرقا، فإننا نقول، والحالة هذه، اننا وعدوّنا سواء في خرق القواعد.
بوسعنا رفض كل، أو بعض، هذه الأسئلة، لكن ينبغي الخروج من حال السبات او الصمت الى التفكير الجاد بالآتي.
الحياة