إشكاليات المراهنة على «الجماهير» و«الشارع العربي»
ماجد كيالي
تثير الخطابات الحماسية و«التثويرية» التي اجتاحت القنوات الفضائية، ونادت بخروج الجماهير إلى الشوارع، لنصرة شعب فلسطين في غزة، على أهمية ذلك وضرورته، عديد الأسئلة. مثلا، لماذا لا يتم تذكّر الجماهير واستحضارها إلا بالمناسبات المتعلقة بصدّ الاعتداءات الخارجية؟ وماذا عن حاجات الجماهير ومتطلبات تطور أحوالها على الصعد الداخلية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ ثم لماذا لم تقدّم المظاهرات الجماهيرية شيئا في تغيير الواقع العربي؟ ولماذا تعجز الجماهير الغفيرة عن الضغط على حكوماتها لتعديل سياساتها والارتقاء بأحوالها؟ ثم لماذا لم ترتق الحركة الجماهيرية إلى حركة سياسية ممأسسة ومستديمة وإلى فاعل لذاتها؟
عدا هذه الأسئلة، تبدو تلك الخطابات منقطعة عن ذاكرتها التاريخية، وعن واقعها، فقد تناست أن بيروت تعرّضت عام 1982 لحصار إسرائيلي، وقصف دام ومدمر، دام 88 يوما (نعم 88 يوما!)، من دون أن يتحرك العرب، حكومات ومحكومين. وتكرّر الأمر ذاته في تجربة الانتفاضة الفلسطينية، التي استمرت سبـــعة أعوام بلياليها (1987ـ 1993)، وفي الانتفاضة الثانية (التي اندلعت أواخر 2000)، حيث استفردت إسرائيل بالفلســـطينيين (وما زالت)، وأعملت فيهم قتلا وتدميرا وحصارا وتجويعا، دون أن يقـــدم العالم العربي (والإسلامي)، بجماهيره، أية خطوة عملية لوقف العدوان وإنهاء الحصار. أيضا، تعرض العراق للحصار منذ 1991، لأكثر من عشرة أعوام، ثم للغزو ولاحتلال مدمّر (2003)، أمام سمع وبصر العالم العربي، الذي لم يقدم له إلا العواطف والشعارات، وكذا إبان عدوان إسرائيل على لبنان (2006) الذي دام 33 يوما.
هكذا في كل هذه المحطات التاريخية خرجت الجماهير إلى الشوارع بالألوف ومئات الألوف أحيانا، لكنها خرجت فرادى، وعادت إلى بيوتها فرادى، منطوية على همومها وأزماتها الشخصية والمعيشية. وبالمحصلة فهذه التحرّكات لم تنتج حالة منظمة ومستدامة لدعم الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين.
الآن، وإزاء الحرب البشعة والمدمرة التي تشنّها إسرائيل على غزة، وكما في التجارب السابقة، تتكرّر ذات الطقوس، حيث تقام المهرجانات، وتخرج الجماهير إلى الشارع لتعبّر عن نقمتها وغضبها ولتؤكد تعاطفها مع الفلسطينيين. ولطالما استقطبت قضية فلسطين ضمير العرب ووجدانهم، ولكن لطالما جرى، أيضا، توظيفها لتأخير أو تغييب الوعي بضرورة التغيير الداخلي، والتذرّع بهذه القضية للتهرب أو لتجاوز المطالب المتعلقة بإصلاح الأحوال في البلدان العربية.
طبعا ليس القصد التقليل من أهمية هذه المظاهرات والتحركات، أو من نبل المشاعر التي تثيرها، فهذا «أضعف الإيمان»، لكن ما نقصده ضرورة كشف المسكوت عنه في «الخطاب الجماهيري» السائد. ومن تفحّص التجربة يمكن ملاحظة أن معظم «الخطاب الجماهيري» مراوغ، يتواطأ مع علاقات السيطرة في الواقع السياسي الراهن. فهو، مثلا، يسكت عن واقع الجماهير، وحاجاتها اليومية، بادّعاء إعلاء شأن «قضاياها» أو شعاراتها الوطنية أو القومية (الخارجية فقط). وفيه لا تبدو الجماهير على شكل مجتمعات، أو مواطنين أحرارا، وإنما مجرد أفراد وكتل عشوائية، بينما يبدو الشارع مجرد ساحة، وبديلا للإطارات وللتوسّطات السياسية وللتمثيلات الشعبية وللبرلمانات. وفي هذا وذاك تحلّ التحركات الجماهيرية، محل المشاركة السياسية.
وباختصار، فإن «خطاب الجماهير» هذا، برغم ثورويته الظاهرة، يسكت عن حال تغييب المجتمعات، ويقصر عن الإجابة عن أسباب عجزها، وضعف وعيها لذاتها ولدورها. فهو لا يرغب في الذهاب إلى البحث في أسباب قصور التحركات الجماهيرية، وأسباب تغييب المجتمعات العربية، لأن الذهاب إلى هذا الموضع سيوصل إلى السؤال عن معنى غلبة علاقات السلطة على الدولة، في النظام العربي، وإلى واقع إحلال وسائل القوة والهيمنة والسيطرة، محل علاقات المشاركة والتمثيل والتداول.
لهذا فإن دعاة الخطاب الجماهيري يدركون أكثر من غيرهم محدودية حركة الجماهير، وعقم الشارع، لأن الجماهير، في هذه المنطقة، لم تتعود على آليات المشاركة في السياسة، ولم تتربّ على أن لها دورا في تقرير سياسات بلدانها. ولم يترسّخ في بناها الاندماج الاجتماعي. ولم تع بعد معنى الانتماء الوطني، الذي يتجاوز الانتماءات القبلية/العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية. وهي لم تتعلم الدفاع عن قضاياها الحياتية والوجودية، المتعلقة بحرياتها ولقمة عيشها. فإذا كانت الجماهير، المدعوة للتجمهر، لا تعي ضرورة الخروج للشارع من أجل الدفاع عن لقمة عيشها وكرامتها وحريتها، ولا تستطيع التحرك نحو التغيير لأسبابها الذاتية، المتعلقة بأوضاعها، وإذا كانت لا تملك وسائل تغيير هذه الأوضاع، فلن تستطيع ذلك في أي موضوع آخر، حتى لو كان بمستوى مكانة أو قدسية الموضوع الفلسطيني.
وفي التفاصيل أن «خطاب الجماهير» يتعامل مع القضايا أكثر من تعامله مع البشر وحاجاتهم. لذلك فهو يهرب للعواطف والشعارات والتمنيات. وهذا الخطاب غالبا ما يبالغ بالقدرات الذاتية، لأنه خطاب رغبوي وقدري، لا يلقي بالا لموازين القوى ولا للمعطيات الدولية والإقليمية والمحلية، ولا يهتم بالأثمان ولا بالجدوى، ولا بالخسائر، بقدر ما يهتم باستمرار «القضايا». وبمعنى آخر فإنه في ادعائه تقديس الجماهير، لا يحرص عليها فعلياً، لأنه يطالبها بالتضحيات من دون يعدها بالإنجازات.
إن بقاء «خطاب الجماهير» أسير اللحظات التاريخية أو الانفعالية، يؤكد عدم نضج الواقع العربي، ويدلّل على واقع السياسة في بلادنا، باعتبارها سياسة أقوال وشعارات، بالاستناد إلى الميراث الكلامي والشعري، أكثر من كونها ممارسة حياتية يومية، ومهمات متعيّنة وملموسة، وخططا واستراتيجيات، لإدارة المجتمعات بأفضل وأقوم ما يمكن.
طبعا هذه ليست صرخة يأس من الجماهير، وإنما صرخة ضد التلاعب بها، وضد التعامل معها بطريقة استخدامية، وظيفية، وآنية، ومن اجل تحويل الجماهير إلى كتل اجتماعية واضحة المعالم، والى طاقة واعية وفاعلة لأجل ذاتها.
الحياة