وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
منصف المرزوقي
كم هي صعبة على التحمل المناظر التي تمطرنا بها ” الجزيرة ” هذه الأيام…منظر الأم التي تروي مقتل أبنائها الستة…منظر الجدّ الباكي فوق جسد حفيده المثخن بالجراح…منظر الطفل الذي توقف قلبه فهرع له الطبيب بتمسيد يبدو بلا جدوى…منظر الدماء المتدفقة من جنب طفل آخر يضمّ بإصرار شفتيه حتى لا يبكي لأنه طفل من غزة…منظر الخرائب ولهب النيران تتصاعد لعنان السماء…منظر المساجد المسواة بالأرض……منظر جنود مدججين بأحدث العتاد يهاجمون محتشدا للجياع…منظر باب رفح محكم الإغلاق ووراءه نظام يتوعد المحاصرين بقطع رجل كل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء التطاول على الحدود المقدسة لما يعتقدها مزرعة حسني وجمال.
نعم كم هي صعبة التحمّل هذه المناظر ونحن نشاهدها من بيوتنا التي لا تطير فوقها قاذفات القنابل، فكيف هي على الأرض…كيف هي من المستشفيات…من البيوت الفارغة من كل طعام…من المساجد التي أصبحت ركاما…من خنادق المواجهة مع الغزاة ؟
ومع ذلك…ومع ذلك !
كم من آمال تختزنها هذه الآلام!
كم من عظيم الأمور بدأت تتبلور من كل هذه الفظاعات !
ثمة أولا استفاقة الأمة.
كم قيل أنها ماتت واندثرت، أنها انقلبت طوائف وقبائل وأن حسها بالانتماء لمجموعة واحدة أصبح من مخلفات الماضي وأوهامه. ها قد استفاق النائمون بعين واحدة وخرجت المظاهرات الصاخبة من المحيط إلى الخليج لتؤكد أن العروبة خير وأبقى من أنظمة المخابرات التي تاجرت بها كما تاجر الآخرون بشعارات الوطنية والإشتراكية وحماية الحرمين.
حتى في تونس المحاصرة بأخبث نظام بوليسي في كامل أرجاء الوطن الكبير، خرجت وستخرج الناس للتأكيد على أن شعب فلسطين في القلب، أن الوفاء لقضيته علامة من علامات هويتنا في كل الأرض التي يرتّل فيها القرآن بلغة محمد ويقرأ فيها الشعر بلغة المتنبي.
نعم كم يثلج الصدر أن تمشي في مظاهرات الغربة لتكتشف أن الجيل الثاني وحتى الثالث من أبناء المهاجرين-ومنهم من لا يتجاوز عمرهم عمر الطفل الذي رفض أن يبكي والدم يتفجّر من صدره- باق على العهد، أن الشعلة لم ولن تنطفئ يوما وهي تنتقل فقط من جيل لآخر بل وتزداد في كل قفزة التهابا.
ثمة ثانيا تسارع انهيار أنظمة الاحتلال الداخلي والعمالة الخارجية.
“إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها”، فهلمّوا للقطف.
ثمة ثالثا وقفة العالم
جماهير اسطمبول التي تؤكد قوة حس الانتماء الإسلامي… جماهير باريس ولندن ومدريد وبرلين التي تؤكد انهيار صورة إسرائيل… حتى داخلها جماهير ملت الحرب الأزلية التي حكم بها عليها غلاة الصهيوينة من مستوطنين مهووسين وعسكر مغامرين وسياسيين فاسدين.
كلهم بشر عاديون لا يطمحون إلا لأن يعيش كل إنسان بسلام، قالوا رأيهم بوضوح في مجلس أمن يفترض منه أنه حامي هذا السلام وهو فقط حامي لمصالح أصحاب الفيتو وأولهم الفيتو الأمريكي.
قد يكون الأهم من هذا كله بالنسبة لنا كعرب الرسالة الكبرى التي تبعث بها غزّة.
أكبر جريمة ارتكبتها أنظمة الاحتلال الداخلي والعمالة الخارجية أنها أشاعت للتأبيد في الحكم كل الممكن من المواقف والتصرفات المدمرة للمجتمعات: الخنوع…الانتهازية…الكذب…النفاق…التزييف…الجبن..القسوة…المكيافيلية…الفساد…الكسل…الاحتقار… التواكل… المحسوبية…البذاءة…الجهل… الرداءة…النرجسية… الأنانية…بغض كل ما هو خيّر جميل ونقيّ… أخيرا لا آخرا الخيانة الموصوفة.
و”لأن الناس على دين ملوكها” فقد اسشرت هذه ” اللاقيم ” من القمة إلى القاعدة كالنار في الهشيم.
كم ترنمنا بمقولة “إنما الأمم بالأخلاق”، وواقعنا زاخر، فائض، بعفن الأرواح، نجهل أو نتاجهل أنه السبب الأكبر في تخلفنا في كل الميادين.
وها هي غزة كالوردة العطرة تفوح بما يغطي على روائح مجتمعات خضعت أكثر من المعقول لاستبداد فاسد مفسد بطبيعته.
غزة،اليوم تضيء ظلام أرواحنا كالبدر عند اكتماله.
كم من أنوار تأتينا من حرائقها وكم من نسمات نستنشقها من خلف الغبار والدخان.
الشجاعة…الصبر…العزيمة….الإيمان…الثقة في النفس وفي الله…التحدي…الشموخ….الإباء….وكل المطلوب من التضحيات. مرحى يا عرب لقد عاد عهد القيم.
تنسموا كل هذا العطر…اختزنوه وتمثلوا به، فغزة مجرد منارة والطريق ما زال طويلا.
وأيا كانت نتيجة المعركة غير المتكافئة على الأرض فإن النصر حصل
شكرا لكم يا أبطالنا على كل هذا العطاء ورحم الله شهداء أعطوا أرواحهم لتعود لأمتهم الروح..
****
ايلاف