إســـــــرائـيـل العــــــــربـيّـة
أنسي الحاج
من عقود وإسرائيل تؤّدي خدمات لا لأميركا وحسب، بل للنظام العربي الموالي للغرب. منذ عبد الناصر والأرجح ما قبله. في حرب تموز 2006 كانت الخدمة ساطعة. حرب غزّة 2008 ــــ 2009 الخدمة فاجرة.
الاستفظاع العربي اللفظي للوحشيّة الإسرائيليّة، بالإضافة إلى كونه رياءً (على الصعيد الشعبي، لا يتجاوز إطار الانفعال العابر وأحياناً الطقوس الشكليّة التي لم تعد تهزّ أحداً)، هذا الاستفظاع لا يُبطن غير العجز في أحسن أحواله. لو أتيح للعرب، والسلطة الفلسطينيّة ضمنهم، أن يشنّوا هم هذه الحرب على حماس، وقبلها على حزب الله، لفظّعوا أكثر من إسرائيل. ليس هناك أقوى من التباغض الأهلي، الحرب الأهليّة، التي خاضتها وتخوضها إسرائيل بالنيابة عن العرب، تنقصها شهوة قتل الذات عبر الشقيق. الإسرائيلي نصف غربي نصف غير معني بالعربي إلّا حذراً وخوفاً، العربي هو مجهوله، القاتل لا يقتل مجهوله بشغف بل ببرود موضوعي، القاتل يقتل مجهوله لا انتقام قايين من هابيل واحتجاجاً على الله، بل ليصيب هدفاً تفيده إصابته.
لا يَقتل بشغف ودون ارتواء إلّا الشقيق، الزوج، الأب، الابن. والعرب أيضاً هم الذين لا يريدون وقف الحرب على غزّة لا إسرائيل وحدها. طبعاً هذا ليس تبرئة لإسرائيل، ولكنّه للقول إن إسرائيل تبغضنا ولكنها لا تبغضنا قَدْر ما نُبغض نحن أنفسنا.
ونظلم حكّامنا إذا قلنا إنهم وحدهم في هذا الموقف.
هل استمع أحد للناس، للعاديين من الناس، هذه الأيام؟ لندع هواة التظاهر والمسيرات والاعتصام جانباً، مع تقديرنا لعواطفهم السلميّة وثقتنا التامة بلا جدوى نشاطهم حتّى لا نقول بارتداده ضرراً على مبدأ الأنشطة الفاعلة، ولو نسبيّاً، مثل فتح الجبهات العربيّة كلّها لمقاومة إسرائيل وعدم مواصلة انتظار «الوقت المناسب» لعمل ذلك. لقد مرّت جميع الأوقات المناسبة منذ فضيحة 1948 ثم فضيحة 1967 والفضائح اللاحقة ولم يحرّك أحد ساكناً. ومنذ اغتيال الملك فيصل في قصره السعودي تعلّم الجميع الدرس الأميركي وصاروا تلاميذ عقلاء في صفوفهم الهادئة. أما الآخرون فـ«يمانعون». أبشِرْ. يمانعون مَن وإلى متى؟ وباجساد مَن؟ وما هذه الممانعة التي لا تصبو إلّا إلى الوصال؟ سألنا ولم نكمل العبارة: هل أصغى أحد إلى مشاعر الناس في دنيا العرب؟ ما يُسموّنها «الأكثرّية الصامتة»؟ الناس غير الملوّثين بجراثيم المعسكرات والاستخبارات؟ نكتب الآن وقد وصل عدد القتلى إلى أكثر من 400 والجرحى فوق الألف. استمعتُ إلى أشخاص من كل الاتجاهات (غير الحزبيّة) وأكثر ما سمعت، بالإضافة إلى الحزن على الشهداء واستفظاع الشراسة الإسرائيليّة، هو التبرّم بحماس وبالسلطة معاً. والواقع أنه لا يُدافَع عن أحد منهما، وكلتاهما مذْنبة ومرتكبة ومسؤولة عمّا آلت إليه حال القضية الفلسطينية من تفسّخ وانهيار، وما أوصلتا إليه شعبهما الشهيد من بؤس للناس الغلبانين الطيّبين وتبعيّة وفساد للطبقات المتحكّمة.
في الستّينات من القرن الماضي اعتبرنا، نحن اللبنانيين غير الراضين عن مجتمعنا السياسي ونظام حكمه، اعتبرنا المقاومة الفلسطينية، وفتح بالتحديد، رمزاً للتقدميّة وعنواناً للثوريّة العلمانيّة النقيّة من آثام الأنظمة وانهزاميّة السياسيين وانحلال النخبة. وأيّدنا العمل الفدائي الفلسطيني ضد مصلحة بلدنا نفسه. وظللنا، مطلع الحرب عامي 1975 ــــ 1976، نردّد أن اللبنانييّن والفلسطينيّين أبرياء يحترقون في أتون مؤامرة تريد صلبهما معاً.
ولا نقول ذلك اليوم ندماً وأسفاً، بل ما زلنا نعتقد أن المقاومة الفلسطينية في بداياتها كانت تستحقّ التأييد والآمال المعلّقة عليها.
إلى أن بدأت الحاكميّة، بل الحاكميّات الفلسطينيّة في لبنان تنحرف وترنو إلى لبنان بديلاً من فلسطين، ولم تلبث أن راحت تفوح روائح الشبهة، ويتسلل إغواء الأنظمة المحيطة وإغراءاتها بمالها من هنا وطغيانها من هناك، وأخذ المتصرّف الفلسطيني يرتشي ويرشو، وسقط ما كان حلماً، وسقطنا، نحن السذّج، من أعلى أوهامنا. المتصرّف الفلسطيني سقط ولم يسقط لأنه كان يعرف أين هو ذاهب ولم تخدعه مثالية لم تكن لديه أساساً. سقط وازداد قوّة ونشوة، ككلّ من يَسْقط من عيون السذّج ليرتفع في عيني نفسه. إنه رضى الذات عن براعتها.
ما لنا ولماضٍ يحتاج إلى سطر واحد أو إلى مجلّدات. لنعد إلى غزّة، أعطي ياسر عرفات نتفة من فلسطين ولم يُعطَ أية سلطة حقيقيّة وراح يعلن أن هذه النتفة هي فلسطين المحرّرة. وكيف تكون محرّرة وهي محاطة بعشرات ألوف الجنود الإسرائيليين وكلّ مقومات الاحتلال؟ واستمر تجاهل الواقع والمكابرة الممزوجة أحياناً ببطولات لا شكّ فيها كانت تغطّي السياسات المحدودة الأفق وتطيل عمر الأوهام، إلى أن انقسمت النتفة الفلسطينيّة «المحرّرة» على بعضها وصارت شظايا.
والآن نحن أمام شعب يُباد كل مرّة بذريعة وليس له زعماء. لعلّ هذه كانت الفضيلة الأبرز لياسر عرفات: كان زعيماً رأى فيه الفلسطينيون جميعاً، ذات يوم، قائدهم الذي اقتطع لهم مكانتهم اللائقة بين الشعوب.
■ ثـرثـرة فــوق الــدم
الصراخ ثرثرة إرهابيّة. قمّة الاحتجاج الصمت. العضّ على اللسان وادّخار المعاناة كلّها للعينين. الصراخ فقاقيع. أول أسلحة إسرائيل اعتمادها على تصريفنا الصوتي.
تَظاهَر العرب عشرات ألوف المرّات منذ فلسطين ولم يحقّقوا مكسباً واحداً. تعاقبت عليهم الهزائم كالسيول. خرجتْ من جعير شوارعهم إلى قلوبهم وعقولهم. لا يستطيع أن يصرخ بصدق، بفاعلية، إلّا الأنبياء. وحتّى هؤلاء مشكوك في أنهم اطلقوا صيحاتهم خارج الوَرَق.
ترَى الجماهير على الشاشات تَهدر وعقولها متجمّدة والشفاه المزبدة تصيح: «فينكن يا عرب!؟» على اعتبار العرب هم الآخرون. ولا عربي إلّا يَسبّ العرب.
العرب هم الجلّادون، والصارخون هم الضحايا. ليس هناك معنى واحد لكلمة عرب، تارة هو البدوي خصوصاً وطوراً هو المتخلّف عموماً. تارة هو المصري إذا لم يعجبنا حاكمه، وطوراً هو السعودي لأنه ثري ووهّابي. تارة هو الليبي وطوراً الليبي يدفع عنه التهمة مذكّراً بأنه أفريقي. تارة هو اليمني وطوراً هو العراقي. وفْق مَن
الخاسر.
الخاسر يُشْتَم (إلّا اذا كان طاغية، حينها لا تُرى سيّئاته ولو بلغت أضخم الأحجام). فرعون إله، لكن الطاغية الحديث أكثر تألُّهاً من الفراعنة على صفاقة مدهشة، نظراً لتطوّر الأزمنة، على الأقل من الناحية الإعلاميّة والتواصلية، عمّا كانته زمن الفراعنة. لكنّ الطاغية، والعربي منه بصورة خاصة، أذكى من الدهر، لا قيمة عنده للزمن ولا للعقل ولا للحياة البشريّة. حقوق الإنسان حبر غربي على ورق غربي، وأمّا الحرّية فمَرَض الكلاب الشاردة التي يجب إبادتها.
لا أحد عربي، الكلّ فوق التهمة، الكلّ عربي وقتَ الهتاف، والمهتوف ضدّهم هم الآخرون، الأعراق البغيضة، الأصناف الخبيثة، حتى لو كانوا عرباً. «فينكن يا عرب»، كأن العرب إذا لبّوا النداء سيسحقون العدّو. على افتراض ما زال هناك عدّو. نحن لا نرى ذلك. نحن نعتقد أن العدّو بالنسبة إلى ملايين من العرب لم يعد إسرائيل، جامعة كلمة العرب رغماً عنهم، بل عرب آخرون. ولا أتحدّث عن الحكّام والأنظمة فحسب، بل عن الشعوب والأفراد والعامة والخاصة. ولم يعودوا مكتومين بل صاروا يجهرون. وليس في صحف الأغراب بل في عقر الدار. وليس من رؤوس الشفاه بل من أعماق الصدور. إسرائيل تضرب العرب باسم العرب.
يجب أن نسكت قليلاً لنسمع. وأن نتلملم ونخشع لنبكي ضحايانا، لا أن نفرش بساط العويل ونهدّد بالقبضات الفارغة، مستمرّين في إعطاء أبشع الصورة وأشدّها فظاظة ونفاقاً عن أحوالنا وأنفسنا.
ما حصل في غزّة، بالإصالة والنيابة، ما كانت إسرائيل ستتجاسر وتفعله لو لم يصبح العرب قاطبة مفروزين بين تابعين مستسلمين وبشعين إرهابيين أو فاسدين. لا يُدافع عن حماس ولا عن المنظمة الفلسطينية. هذا هو سرّ استقواء إسرائيل. الجميع في الأرض، من المحيط إلى الخليج. والجميع ليسوا «هم» بل نحن، ليسوا الآخرين، إنهم نحن، هنا، في هذا الشارع، وتلك العاصمة، وذلك العالم العربي كلّه.
لنحاولْ أن نغيّر أنفسنا من شعوب السطوح والردح على السطوح والانتحاب فوق دماء لا يُصَدَّق انتحابنا عليها من فرط ما صار يقلّد نفسه ويزايد بعضه على بعض، إلى شعوب تشعر وتعاني وتُطرق وتُصغي وتَخْزن في صدورها. لقد بات أفضل من فينا هم باطنيّونا وسجناؤنا. لأن الأحرار هم بينهم، حيث الاختلاء بالذات. الحريّة هي الألم الداخلي الجارح بعمقه وبلاغة تطوراته. الحرّية هي فْعلُ النفس المتأمّلة لا تنفيس احتقان الشارع. الصراخ تغطية لا تصريح، والصارخون أقلّ توجّعاً من الجالسين وحدهم في عذابهم، وأقلّ صدقاً، وأقلّ جدوى.
من المؤكد أن بين الصارخين صادقين لا يعرفون غير هذه اللغة وسيلة للتعبير. عذراً من هؤلاء. الكلام ليس عنهم بل عن الذين لا علاقة بين أصواتهم ومشاعرهم ولا بين وجوههم وألفاظهم. فلو كان ثمّة علاقة لمشى المتظاهر ساكتاً نصف الطريق على الأقل إن لم يكن كلّها، ولكنّهم يَضيعون إن لم يُرعدوا.
والرعد لا يُرسل صواعقه إلّا عليهم.
الاخبار