قضية فلسطين

ما بعد العدوان: نهاية الثورات الملوّنة

ورد كاسوحة*
لم يعد مجدياً بعد اليوم الحديث عن «انتقادات موضعية» للنظام العربي المتواطئ على شعب غزة. وبدلاً من إضاعة الوقت والتلهّي في لعبة الموضوعية الزائفة (لم يعد من معنى لها اليوم سوى تجهيل المجرم والمتواطئ) تعالوا نتوسل مقاربة مختلفة. هذه المقاربة هي كناية عن ترهين لخطاب الستينيات وإعادة إنتاجه على نحو أكثر «نضجاً» و«عقلانية». والنضوج والعقلنة هنا مفارقان تماماً «لنضوج» النيوليبراليّين العرب وعقلانيتهم المبتذلة.
فقد بات مطلوباً اليوم أكثر من أي وقت مضى تسمية الأشياء بأسمائها، لا الخلط الخبيث بين من يقتل ويتواطؤ على القتل ومن يدفع عن نفسه هذين القتل والتواطؤ، وذلك مهما بلغت درجة اختلافنا مع نهج «حماس»، فهذا وقت للتضامن وفضح السردية الصهيونية المهيمنة بملحقاتها العربية «المعتدلة»، بعيداً عن التنكيل بالضحايا وتحميلهم مسؤولية المجزرة. من هنا ترتدي عملية نقض التواطؤ الرسمي العربي أهميتها، أقلّه كي لا تتكرر وبالدرجة ذاتها من الفجور مشهدية التنكيل بضحايا حرب تموز وقتلهم مرّة أخرى بالموقف السياسي، بعدما قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية.
لذا يجدر بنا أن نعيد الاعتبار إلى مفردات «بائدة» سمّيت بـ«الخطاب الخشبي المنقضي» و«المتهافت». خطاب أسقطه البعض من الحساب لتعارضه مع الحقبة التسوَوِيّة الرديئة. وكان علينا أن ننتظر مشاهد القتل المروعة في غزة حتى «يتراجع» بعض من نظّر لهذه «التسويات» عن رأيه و«يقرّ» بعبثيتها وعجزها عن أن تصنع حلاً حقيقياً للقضية الفلسطينية.
فإسقاط الحجج التي تتذرع بها نخب الاعتدال لتسويغ سياسة «الاستقرار» و«التنمية» و«حب الحياة» كفيلة وحدها بنزع الشرعية عن الأنظمة الثيوقراطية التي ترعى هذه النخب. ولا نكون في موقع التقليل من أهمية هذا التوجه النقدي الراديكالي إذا ما استعضنا عن نقض الفرع بنقض الأصل. ففي النهاية لا يمكن تحميل هذه «النخب» مسؤولية ارتكابات رعاتها في حق القضية الفلسطينية، إلا في «حدود معيّنة» من قبيل: إسناد التواطؤ على شعب غزة بحمولة نظرية و«فكرية»، كما فعل بعض المعلقين أخيراً حينما سارعوا إلى تبرئة النظام المصري من مسؤوليته عن حصار الشعب الفلسطيني، وإعلان الحرب عليه من منبر وزارة الخارجية المصرية في القاهرة.
فإذا لم يكن القرار في عدم فتح معبر رفح وحرمان الغزاويين من حقهم في الحياة فعل تواطؤ وشراكة في الجريمة، فما عساه يكون؟ ربما يكون قراراً عربياً «معتدلاً» آخر لتلقين «الفلسطينيين المتطرفين» والموالين لسوريا وإيران دروساً عملية في «حب الحياة»، وفي عدم استخدام المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية في حروب هؤلاء العبثية مع إسرائيل!
هذا المنطق ليس بعيداً عن مزاج «المعتدلين العرب» وأجندتهم للمرحلة المقبلة. ويمكن للمرء الوقوع على هذه الحقيقة من استطلاع بعض ما يكتب من ترّهات في الصحافة العربية حالياً.
ويبدو أن ذلك الرهط من التنظير النيوليبرالي يحتاج إلى أكثر من حرب تموز حتى يعود إلى
رشده، ويدرك إلى أي قعر يقودنا عبر هذه الرهانات الساقطة سلفاً. فالرهان على إسرائيل في حرب تموز لم يكن أفضل حالاً من الرهان على أميركا في العراق، أو على التحالف الطبقي الريعي المهيمن في لبنان ودول الخليج ومعظم دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها، حيث مركز الهيمنة الرأسمالية المتوحشة. لذلك فإن الإخفاق المتكرر من طرف تحالف الأنظمة «المعتدلة» وملحقاته النيوليبرالية في قراءة التحولات الإقليمية والدولية لن يسعفه في ترتيباته الجديدة إزاء المرحلة الانتقالية الحالية. فلا العودة إلى التهدئة بالشروط المصرية ــــ الإسرائيلية باتت مقبولة، ولا تصفية «حماس» أو إضعافها بالشكل الذي كان مطلوباً باتت واردة. صحيح أن الحسم العسكري وموازين القوى على الأرض هما اللذان يحددان في النهاية مصير المعركة، لكن الصحيح أيضاً أن الحراك الشعبي المناهض للعدوان أو «الموالي له» (لا نكاد نرى أثراً لتظاهرات مؤيدة لإسرائيل في طول العالم وعرضه، وهذا وحده دليل عافية) ليس عاجزاً بدوره عن مد الصراع العسكري بجرعات معنوية هائلة، كفيلة بإطالة أمده أو إنهائه قبل تحقيق أهدافه.
وكان لافتاً حقاً في ما يخص التظاهرات العارمة المنددة بالعدوان في مختلف أنحاء العالم عودة
الروح إلى نسق نهضوي وعروبي لم تألفه العواصم العربية منذ وفاة جمال عبد الناصر وبدء المدّ الساداتي (أمر لافت أن يقال عن السادات ومبارك ما قيل في كثير من تظاهرات بيروت). فأن تخرج في لبنان على سبيل المثال تظاهرة يسارية تسمي الأشياء بأسمائها وتعيد الاعتبار إلى روح التظاهرات الطالبية قبل الحرب الأهلية في هذا البلد لهو أمر يبعث على البهجة والتفاؤل حقاً. وكما في لبنان كذلك في الأردن ومصر، جرت عبر هذه التظاهرات خلخلة الأنساق والبنى الطبقية والسياسية المهيمنة التي فرضت علينا نمطاً رديئاً من القيم الاستهلاكية والمفرطة في أمركتها. قيم وميكانيزمات اشتغلت على إعادة إنتاج المصالح القطرية والفئوية الضيقة ووضعها فوق كل اعتبار. وفي سبيل هذا الاشتغال بعثت العصبيات الطائفية المذهبية وأزهقت كثيراً من الأرواح ورفعت شعارات عنصرية وكولونيالية أعادتنا إلى زمن الاستعمار، لا بل إلى حقبة الأسرلة والتنكيل اللبنانوي والبعثي والأردني والوهابي باليسار والثورة الفلسطينية وحركات المقاومة في المنطقة.
لم تعد شعارات لبنان أولاً والأردن أولاً ومصر أولاً وسوريا أولاً (كادت تبدأ المفاوضات المباشرة لولا المذبحة!) مغرية لهذا الجيل كما كانت منذ أربع سنوات. اليوم اكتمل عقد انفراط «الثورات الملوّنة» التي أطلقها المدّ المحافظ في أميركا منذ 11 أيلول 2001 . فبعد أوكرانيا وجورجيا جاء دور لبنان ليصفّي حسابه نهائياً مع هذا الإرث. وما يبعث على الأسى أن هذا الانفراط لم يكن ممكناً لولا هذا الدم الفلسطيني المسفوح على أرض غزة. وهنا يقفز إلى الذهن تساؤل من قبيل: كم من القرابين يجب أن يقدم الشعب الفلسطيني حتى يسود النسق العربي النهضوي الديموقراطي المناهض لأسرلة هذه المنطقة من جديد. تساؤل من هذا القبيل يمكن أن ينقلب ضد دعاة الممانعة، ويسند حجج المنظرين لخيار التسوية بالشروط الإسرائيلية. فالتسوية في نظر هؤلاء أقل كلفة بكثير من المواجهة وما ترتبه من أكلاف بشرية ومادية باهظة. غير أن الاستسلام لهذا النهج في جلد الذات وتسليم الأوراق كلها إلى إسرائيل، ومعها رأس المقاومة، سوف يقودنا بحكم التجربة التاريخية إلى دورة جديدة من الانتحار. انتحار لا يقل فداحة عما تزعم أنظمة التواطؤ العربي أنه حاصل اليوم في غزة. فالتسليم بالهزيمة سلفاً، والرغبة في تدجين الشعوب وإخضاعها للإملاءات الإسرائيلية بعد الإذعان الرسمي في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، لا يمكن له أن يمرّ بدون تفكك البنى السلطوية في هذه الأنظمة، ومرورها بجحيم «انفجارات مجتمعية» مقبلة ووشيكة. وما يحدث الآن في مصر والأردن والضفة الغربية ما هو إلا إشارة بسيطة وأولية إلى ما هو مقبل.
لن نبالغ كثيراً إذا قلنا إن «الشرق الأوسط الجديد» الذي حملت بشراه كوندوليزا رايس إبان حرب تموز قد مرّ خلافاً لرغبة الوزيرة السابقة بمرحلتي مخاض: الأولى في الجنوب اللبناني، حينما أعلن إجهاض العدوان وإسقاط مشروع «أسرلة» لبنان والمنطقة من جديد، والثانية في غزة حينما هبت الشعوب العربية الغاضبة لتحمل أنظمتها العفنة على التفكير ألف مرة قبل الولوج في مشاريع مشبوهة لربط مصيرهم نهائياً بالعجلة الإسرائيلية «المعتدلة» و«المحبة للحياة».
والحال أن الصمود البطولي الذي أبداه أهل غزة حتى الآن قياساً بحجم التواطؤ العربي ضدهم
يجب ألا يردعنا عن رؤية الواقع كما هو. والواقع يقول إن الكلفة باتت باهظة جداً، فيما
النتائج لم تتبلور نهائياً بعد، ولا تزال مرهونة بقدرة المقاومة على الاستمرار والصمود.
* كاتب سوري
الاخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى