بيروت وغزة كتاب واحد
الياس خوري
منذ عام 1982، والعالم العربي يقرأ في كتاب واحد، تتوزع فصوله بين لبنان وفلسطين. النظام العربي قرر التخلي عن خيار الحرب، وترك للبنانيين والفلسطينيين ان يقرأوا في كتاب الموت والدمار.
لا سوريا تحارب، لأنها لم تصل بعد الى التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل! ولا مصر تحارب، لأنها قررت التخلي عن طموح التوازن هذا! لذا تُرك امر المواجهة للبنانيين والفلسطينيين، وصار الوطنان الصغيران، ساحتين للموت.
لكن هذا العام يحمل نكهة خاصة آتية من عاملين التقيا مصادفة:
العامل الأول هو ما يمكن ان نطلق عليه اسم رأس السنة الاسرائيلية. فلقد اختار جنرالات اسرائيل تاريخ حربهم الاجرامية على غزة كي يصاقب بين رأسي السنة الهجرية والميلادية. الاسم الذي اطلقته اسرائيل على حربها الجديدة ثقيل وسمج: “الرصاص المصبوب”. وهو اسم يليق بدموية ايهود باراك، وتذؤّبه على الفلسطينيين. اسم الحرب يجب ان يكون: “رأس السنة الاسرائيلية”، لأن الرؤوس الحامية في الجيش الاسرائيلي لا تزال تعتقد انها قادرة على فرض روزنامتها على المشرق العربي.
الإسرائيليون يحتفلون برأس السنة عبر تقديم ضحيتهم الفلسطينية امام معبد العنصرية والفاشية. انهم يلعبون بالموت، متناسين ان الكأس التي اذاقوها لضحاياهم سوف تصل اليهم، وان غطرسة القوة لا تدوم الى الأبد.
اما العرب فيحتفلون برأس السنة الاسرائيلية على طريقتهم. لا اريد تحليل السياسات العربية، لأنها خرجت على كل منطق، وصارت نافلة، ولا يمكن تحليلها بغير الشتائم، والتمني بأن تنتهي حقبة ملوك الطوائف سريعا. لكنني اريد التوقف امام ظاهرة قد تبدو هامشية، لكنها في رأيي هي الظاهرة الأساسية، التي ترسم المستقبل.
الثقافة، وتحديدا الكتاب ومصائره، هي مقياس الحاضر والمستقبل. فالذي قرر ان يتخلى عن خيار الحرب، أشهر في الوقت نفسه سيف الحرب على شعبه، وقرر تدمير الثقافة العربية، التي بناها اجيال النهضويين العرب.
الكلام عن بيروت عاصمةً عالمية للكتاب، لا يمكن ان يبدأ الا هنا. فالثقافة ليست حفلة، اذ لا معنى للموسيقى التي ملأت الآذان، في دمشق (عاصمة الثقافة العربية عام 2008)، حين يكون ميشال كيلو ونخبة من المثقفين السوريين في السجون السورية. الثقافة تصنعها الحرية، لذا كانت فجيعة فلسطين برحيل شاعرها محمود درويش كبيرة. لأن الشاعر والمثقف يعطي بلاده وشعبه صوتا، ويفتح التجربة على الاسئلة الانسانية الكبرى. فكيف يحتفلون بالثقافة، وكيف يجرؤ مثقفون عرب على المشاركة في الاحتفال، حين يرمى المثقفون في السجون؟
لا تكون بيروت عاصمة عالمية للكتاب، الا اذا كانت عاصمة للكتاب العربي. والكتاب العربي، يواجه مصيرا اسود، يذكّرنا بالاستبداد العثماني في مرحلة انحطاط الدولة العلية. حتى هذا التذكير ليس دقيقا، ففي تلك المرحلة شكّلت مصر ملجأ وحاضنا للثقافة المضطهدة، اما اليوم، فإن مصر، بنظامها “البريجنيفي” المكتهل، وأزهرها، الذي صار اسير الفكر الرجعي، أصبحت اليوم احد مراجع الرقابة والمنع والقمع. كي لا نحكي عن الخليج وبقية الدول التي تتأرجح بين ما بعد الحداثة والهمجية.
عاصمة للكتاب، اي عاصمة للحرية. هل هذه بيروت اليوم؟
نعم ولا. نعم لأن الحرية ممكنة هنا دائما، ولأن من يريد ان يكون حراً يجب ان يتحرر اولا من الضغط ولا يكون “ساحة” للديكتاتوريات العربية وغير العربية المتصارعة، بل يتحول الى صاحب القضية، ويضع مقاييسها التي تلخّص تجربة الثقافة العربية النهضوية كلها.
ولا، لأن النظام السياسي والاجتماعي الطائفي في لبنان، هو عدوّ الحرية، وهو الذي رهن الوطن الصغير للديكتاتوريات القريبة والبعيدة.
كيف يمكننا ان نبني ثقافتنا بين هذين الاحتمالين؟
في الخيار بين نعم الارادة، ولا الواقع، تقع بيروت اليوم. انها في الموقع نفسه حيث القدس وغزة. اي في موقع المواجهة على جبهتين مفتوحتين وخطرتين:
الجبهة الأولى، هي مواجهة رأس السنة الاسرائيلية، بالارادة، وبإعادة القضية الى جوهرها. فلسطين ليست مكان صراع الاديان، بل ارض الصراع ضد الفاشية والعنصرية والظلم. انها مشروع تحرر وطني، وأفق للخلاص من هذا العفن الكولونيالي الصهيوني، الذي يحاول خنق المنطقة. ولبنان، ليس ارض التسامح، الذي لا يعبر نفسه الا في المذابح، بل يجب ان يكون ارض النهضة العلمانية الديموقراطية في العالم العربي، والا فقد معناه، وفقد وجوده.
في هذه الصراعات الصعبة والمعقدة التي تجتاح بلادنا، يأتي الكتاب والثقافة والفن، في وصفها تعبيرا عن وجودنا الروحي والاخلاقي. من دون هذين الوجودين يفقد وجودنا المادي معناه، ويتفكك ويتشظى.
من هنا فإن نعم الارادة ليست مجرد بلاغة جوفاء، وغرغرة كلامية بحرية لا تصنع شيئا للدفاع عن نفسها، وتتراقص على ايقاع مضطهديها واموالهم المليئة برائحة النفط. بل هي قرار واعٍ بأن لا ينتظر المثقفون اللبنانيون احداً، كي يصنعوا من مدينتهم عاصمة حقيقية للكتاب. وهذا يعني اولاً عدم انتظار دولة تعيد تأسيس نفسها، او يعيدون تأسيسها لنا على ايقاع الحروب النائمة بين الطوائف. بل عبر بناء ثقافة الهامش الذي يتسع ليصير اكبر من هذا المتن الاجوف.
من هنا، فإن تزامن الحدث الثقافي بالحدث الدموي، يجب ان لا يكون حجة للتخلي عن النضال من اجل الثقافة الحرة والمتحررة. بل ان الحاجة الى هذه الثقافة، تصير اكثر إلحاحا امام كتاب دمنا المفتوح.
الرهان الاسرائيلي على موتنا لا يوازيه سوى رهان النظام العربي على قمعنا. نظامان يتناوبان على مهمة تحطيم مجتمعاتنا وثقافتنا. كل كلام عن التخلي عن المواجهة في احدى الجبهتين، هو استسلام على الجبهتين.
بيروت عاصمة للكتاب. نعم، شرط ان يصنع المثقفون عصمة الثقافة، وأن لا ينتظروا معتصما لن يأتي، لأنه باعنا من زمان.
ملحق النهار الثقافي