قمة دمشق ليست كغيرها من القمم
بدرالدين حسن قربي
إذا كان مؤتمر القمة العربي الأول انعقد في أنشاص المصرية بتاريخ 28 أيار/مايو 1946 قد ركّز على موضوع رئيسٍ فيها هو قضية فلسطين وعروبتها، فإن المؤتمر العشرين انعقد في دمشق وفي 29 آذار/مارس 2008 وأرادت له سلطات الدولة المضيفة أن يكون مؤتمر فلسطين أيضاً بل ومؤتمر التضامن العربي أيضاً.
ولئن كان النظام السوري يهدف جماهير الشعب من العمال والفلاحين من كل عمل في البلد أو تطوير أو بناء، فإن كل حركة سياسية يقوم بها أو اجتماع يحضره أو مؤتمر يرعاه يكون إحدى محركاته الرئيسة المكاسرة والمعاكسة لإرادة الأعداء الأمريكيين منهم خصوصاً ومن ثم يعيد على الناس قراءة مزاميره في مواجهة الامبريالية والصهيونية والرجعية والاستعمار الى آخر هالشعارات والغنائيات والتبجحات المعتادة في كل مناسبة.
ومن أجل ذلك فقد استبق النظام السوري نتائج القمة العربية ليعتبر أن نجاحها هو عقدها في دمشق وفي موعدها رغم كل محاولات الضعظ والابتزاز الأمريكي خصوصاً، بل ذهب بعيداً أكثر عندما وسّع إعلامه الخطوة يوم اعتبر أن عدم الحضور كما في لبنان، وخَفْض تميثل الحضور كما كان في عدد من الدول من أهمها السعودية ومصر والأردن والعراق واليمن والمغرب وعمان والبحرين هو بمثابة استجابة لضغوط أمريكية تستهدف تعطيل المؤتمر، وكأن الذين حضروا من بقية العرب هم معاكسون ومشاكسون للإرادة الأمريكية وهو أمر يبدو على غير هذا إذا مااستعرضنا الحضور الكريم للجميع.
لاشك أن النظام السوري بذل جهوداً متميزة للحشد لهذه القمة لاعتبارات خاصة فيه وتطلعاً إلى قيادة عمل عربي في سنة كبيسة الله أعلم عما يكون فيها، وهو يتكلم عن تحديد مصير الشرق الأوسط والمنطقة وربما العالم كله وإشعالها من بحر قزوين حتى المتوسط، في مقابل تصريحات وتنبؤات أمريكية وغربية عن تحولات كبرى في الشرق الأوسط تسّاقط فيها أنظمة وتُغيّب فيها وجوه، وهو كلام ترتعد له فرائص وتهتز له أكتاف الذين ظلموا.
ولاشك أيضاً أن النظام السوري بذل كل جهده لإنجاح هذه القمة التي باتت جدلية بامتياز بسبب عجزه حقيقةً عن تقديم أية تنازلات أو توافقات مهما كان قدرها في حلحلة الوضع اللبناني تحديداً ضمن استحقاقات إقليمية على الأقل ثمناً للمشاركة الثقيلة والفاعلة في القمة لمن ربط حضوره بزحزحة الوضع اللبناني.
كما لاشك أيضاً أن كثرة الانتقادات والملاحظات الموجهة للنظام السوري الذي عرف ببراغماتيته عموماً بسبب رفضه وعناده وإصراره في الشأن اللبناني، هي في غير محلها، لأنه من غير المعقول أن يتزحزح قيد شعرة في قضية لاتحتمل شيئاً من هذا، فضلاً عن أنها قضية حياة أو موت بالنسبة له، وياروح مابعدك روح. فلئن كانت عين النظام ساهرةً لإنجاح القمة العربية في دمشق فإن عيونه الأخرى لاتغفل لحظةً واحدة عن محكمة دولية هي القضية الأكبر والأهم في وجوده وحياته من القمة نفسها، فالمحكمة اقتربت من ابتداء عملها في مدينة لاهاي الهولندية وأُعلن منذ أيام عن جاهزيتها رجالاً ومالاً، مكاناً وزنزانات، وسمع العالمون قول رئيس فريق التحقيق الدولي الكندي دانييل بيلمار أن المجرمين القتلة سينالون عقابهم مهما تكن مناصبهم، وهو كلام يقترب جداً من كلمات قالها الأسبوع الماضي القاضي ديتليف ميليس:
كمدعٍ عام يمكنني اتهام الأفراد سواء كانوا رؤساء أو وزراء أو ضباطاً أو ماشابه حتى لو طال ذلك رأس النظام، وكل شيء عدا ذلك يكون سياسياً. وأضاف قائلاً: لاأحد فوق القانون حتى بابا روما.
مايلفت النظر في التحضير السوري لهذه القمة عن سابقاتها التسعة عشر وفي دول عربية مختلفة في شكل أنظمتها الحاكمة هو الحشد الديني لها، وذلك عندما أطلق مفتي الجمهورية فتواه في حديث إلى صحيفة العرب القطرية بأن حضور قمة دمشق فرض عين على كل حاكم عربي وأن من يتخلف عن القمة بدون عذر صحي فهو آثم، فليس على المريض حرج، ولا عذر سياسياً لأي حاكمٍ أن يتخلف عن قمة دمشق، كما أنه لا يجوز لأي حاكمٍ إرسال من يمثله، لأن الأمة العربية هي اليوم بحاجة إلى لقائهم، كما أكد هذه الفتوى الجمعة 28 آذار في خطبته في جامع الروضة مضيفاً عليها عذر مخافة القتل استدراكاً لأمر فاته.
في قراءة الفتوى الكريمة لسماحة المفتي ومن الوهلة الأولى، يسجل للنظام السوري ذي الطبيعة الأمنية براءة اختراع وابتداع هذه الفتوى الأمنية بامتياز، ويصحّ فيها وصف مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. لقد تضمنت دعوات النظام السوري لبعض كبار الضيوف المدعوين شيئاً من مهانةٍ واستفزاز فيما هو خارج عن المألوف والبروتوكول وأصول الضيافة خصوصاً مع الملوك والرؤساء، وهي مسألة قد يجادل فيها بعض جماعة النظام، ولكن مما لاريب فيه أن ماذهب إليه فضيلة المفتي من فتوى يُفهم من جملة مايُفهم منها أن الدعوات تشابهت على فضيلته فظنّها أوامر إحضار قضائية أو استدعاءات أمنية لبعض الموظفين أو العمال السوريين المطلوبين، أو أنه أراد بها إجازةً للمؤتمر وتدعيماً له بشرعية دينية.
والشيء بالشيء يذكر، ففي أيام الاحتلال العراقي لدولة الكويت دخلت مجموعة من العسكريين مسجداً يقع على تقاطع الدائري السادس مع شارع جليب الشيوخ، وسطوا على ماعند حارسه من أغراض مع جهاز تلفزيون بعد ضربه بحجة اعتدائه على قدسية المكان بما لايليق بامتلاكه مثل هذه الأشياء. وكان ألطف مافي الأمر أن ضابطهم أمره انتهاءً بأن يأتي له بأحسن نسخة من القرآن من داخل المسجد ليأخذه مع ماأخذ من متاع، وهو الأمر الذي أثار فضول الحارس المصري البسيط لعدم فهمه فيما كان من الجمع بين الحرمنة واللصوصية والقرآن ليسألني، وأقول له:
(شوف) هم جماعة صحيح (مش ولابد) ولكنهم لايريدون ترك أمورهم (فالته)، ويحبون ضبطها حسب كتاب الله حتى لايدخلوا في المحظور ويقعوا في الإثم، وينالوا غضب الله. لذلك أخذوا ماأخذوا وفعلوا مافعلوا.
وكان الحارس جالساً فوقف وهو يشير بأصابع يديه العشرة قائلاً وبغضب: وحق كتاب الله..!! هذا هو الضلال بذاته..!!
قلت: أنت الذي قلتها وليس أنا.
وهكذا كان، فرغم كل ماقيل ويقال عن القمة الحالية في دمشق من تحليل وتنظير، سلباً أوإيجاباً، فإنه يسجل لدولة مقر المؤتمر، و(المعزّمين) أصحاب الدعوة استدراك أمر فات َمنْ قبلهم أكثر من ستين عاماً، لجعل مؤتمرهم حسب كتاب الله ومعمّداً بفتوى من أكبر مفتي في البلد بفرضية الحضور بأمر الشرع، والاعتذار بعذر الشرع، والغياب بتقرير طبي يوافق عليه الشرع. وهكذا تميزت القمة العربية في دمشق على غيرها من القمم وربنا يلطف لما بعدها.
خاص – صفحات سورية –