… والدم المسفوح مَن يحسب حسابه؟
خالد غزال
دخل العالم العربي منذ ايام مرحلة جديدة في امتحان ذاته وقواه تجاه المشروع الصهيوني، وذلك بعدما استدرجته اسرائيل في هذا النفق غير المرئي حتى الان. بدأت اسرائيل حربها التي راحت ابعادها السياسية تتكشف يوما بعد يوم من خلالها هجومها على غزة والتدمير المنهجي الذي تقوم به آلة الحرب الاسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، وهي حرب تستكمل حروب 1948 و1967 و1982 و2002 المتواصلة داخل فلسطين. كما تنكشف الحرب عن اهداف تجاه المجتمعات العربية فاضحةً عجز هذه المجتمعات عن مواجهة العدو الصهيوني وانعدام القدرة لديها في توظيف مقومات قوتها المتعددة في الحد من هذا الهجوم، كأن إسرائيل بعنصريتها وصلفها تريد ان تقول للعالم العربي ان مصيره الانقسام الدائم والخضوع لمنطق مشروعها الصهيوني.
اذا كانت همجية العمل الاسرائيلي تطرح اليوم جانباً الحديث عن المسؤولية المباشرة لحركة “حماس” في تقديم الذرائع الى إسرائيل في شن حربها، بعد رفضها التهدئة وابتعادها عن التوافق الفلسطيني، وهي عناصر تندرج في ربط الحركة نفسها بمشاريع اقليمية لا ترى المصلحة الفلسطينية بمقدار ما ترى توظيف هذه القضية في خدمة مشاريعها، كما تشير الى مراهنات خاطئة على الانقسامات الاسرائيلية عشية الانتخابات والتوهم بعجز السلطة الاسرائيلية عن اتخاذ قرار الحرب، يضاف الى ذلك اوهام من “حماس” حول القرار الاميركي ومجيء الديموقراطيين الى الحكم من دون ان تدرك ان وحدة كاملة تجمع بين الديموقراطيين والجمهوريين تجاه الموقف الداعم بالمطلق لإسرائيل. بصرف النظر عن كل هذه الاوهام التي تركّبت في عقول قيادة الحركة، الا ان المنعطف الذي دخلته الحرب يفرض تجاوز الاخطاء لتصنيف الحرب بأنها حرب ضد الشعب الفلسطيني بمجمله والذي يدفع ثمنا هائلا في تدمير البشر والحجر ويسدّد من لحمه الحي آلاف الشهداء والجرحى.
اذا كان ممكناً تجاوز الحجج حول اخطاء “حماس” ومسؤوليتها الان، الا ان ما لا يمكن تجاوزه هو طبيعة الخطاب الذي “تصفعنا” به قيادات الحركة كل يوم لطبيعة الخسائر التي يتسبب بها العدوان، بحيث يتجاهل هذا الخطاب الخسائر البشرية الضخمة للفلسطينيين ليطمئن العالم العربي والفلسطيني ان الحركة ومناضليها بخير وان الخسائر قليلة جدا، وتالياً فإن العدوان الاسرائيلي فشل في تحقيق اهدافه وان النصر يتحقق كل يوم. يبدو خطاب “حماس” هذا في تصنيف خسائره مستفزا للعقل والوجدان في آن واحد. فعندما يرتفع هذا الخطاب ليقول ان المعركة هي ضد الشعب الفلسطيني بمجمله، وهذا صحيح كليا، وان الحركة تمثل هذا الشعب، فلا يحق لها بعدذاك ان لا تصنف الخسائر التي يمنى بها هذا الشعب خارج خسائرها. مما يعني ان ما اصاب الفلسطينيين في غزة حتى الان وما سيصيبهم في المعارك المتوالية هو خسائر لحركة “حماس” وللشعب الفلسطيني ككل، طالما ان الحركة تدّعي خوض حربها باسم هذا الشعب. يضاف الى ذلك ان اسرائيل لم تختر حركة “حماس” وتحدد اهدافها في وجهها فقط، بل ان الكيان الصهيوني يقود كما هو واضح حملة ابادة ضد الشعب الفلسطيني ككل ومن ضمنه بالتأكيد حركة “حماس”.
في هذه المناسبة من المفيد التذكير بأن حركة “حماس” تعطف على موقف سبق للشعب اللبناني ان شهد فصولا منه خلال حرب تموز 2006 والتي ساهمت يومذاك عمليات “حزب الله” في تقديم ذريعة كانت تريدها اسرائيل لشن الحرب. آنذاك تعاطى اللبنانيون مع الحرب بأنها ليست موجهة ضد “حزب الله” بمقدار ما هي حرب على الشعب اللبناني ككل. يومذاك ايضا تجاوز اللبنانيون الاسباب المباشرة وتوحدوا ضد العدوان. لكن المنطق الذي ساد آنذاك لدى الحزب في حساب خسائره قام على ان اسرائيل فشلت في حربها لانها لم تستطع اقتلاع مقاتلي “حزب الله”، وان الحرب لم تتسبب بسوى استشهاد عدد محدود من مقاتلي الحزب. هكذا لم ير الحزب ان 1500 قتيل لبناني وأكثر من 10000 جريح ومعوق هي من خسائره، وكذلك ما حصل من تدمير للبنى التحتية وتخريب في الاقتصاد. اثيرت مناقشة حول منطق الحزب هذا والمفارقة بين ادعائه ان الحرب تخاض باسم اللبنانيين، فيما يركز التصنيف الفئوي على خسائر الحزب.
يعطف خطاب حركة “حماس” الحالي، ومعه خطاب “حزب الله” قبل عامين، على عقل عربي مفجع في تصنيفه لهزائمه، ففي عام 1967 شنّت اسرائيل حربها ضد ثلاث دول عربية هي مصر والاردن وسوريا، وانتصرت عليها خلال ستة ايام وخسر العرب الارض في البلدان الثلاثة. كانت الحرب من الضخامة بحيث قضت على عناصر القوة العسكرية للعرب آنذاك، بل ان فداحتها في كونها هزيمة للمجتمعات العربية عسكريا وسياسيا وحضاريا. خرج علينا يومذاك المنطق الذي رفعته الانظمة والاحزاب القومجية بتصنيف الحرب “نكسة” وليست هزيمة متحققة. كان ذلك استخفافاً بالعقل العربي واهانة لشعوره. لكن الافدح من ذلك هو التهوين من الهزيمة بل تصوير الامر على انه مجرد حدث عابر لأن اسرائيل فشلت في اسقاط “الانظمة التقدمية” وفق منطق ذلك الزمان. هكذا تحول بقاء الحكّام العرب على عروشهم افشالا للحرب الاسرائيلية ولأهدافها الرامية اليها. وظل هذا المنطق سائدا لسنوات كأن العرب انتصروا على اسرائيل، وكأن الارض الضائعة لا تستحق أن تحاسب الشعوب العربية حكّامها على فقدانها.
امام هول المجازر المتواصلة، فإن كل مواطن عربي شكلت له القضية الفلسطينية الحلقة المركزية في النضال من اجل التحرر، والواجهة ضد المشروع الصهيوني في الهيمنة على المنطقة العربية، يرغب في ان يتجاوز الفلسطينيون انقساماتهم وان يعتبروا ما تقوم به اسرائيل هو لتصفية القضية الفلسطينية قبل كل شيء. ان أخطر الامور ان تتشبث “حماس” بفئويتها وترفع صوت “النصر الالهي” فيما الهزائم تصيب الشعب الفلسطيني كل ساعة من القتل والدمار غير المحدودين. لا تشكل عودة “حماس” الى الوحدة الفلسطينية تراجعا، بل يرتبط منطق النصر والهزيمة بمقدار تحقق الوحدة الوطنية الفلسطينية مجددا وتغليب منطق القضية على حساب كل المشاريع الاقليمية التي لا تزال تتعاطى مع هذه القضية في وصفها ورقة في مشاريعها ومفاوضاتها مع اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية.
تشكل الحروب بالنسبة الى الدول والشعوب مناسبة لمراجعات تطال السياسة والذات في الآن نفسه، فحجم الخسائر الذي تتسبب به الحرب يحتم هذه المراجعة من أجل تجنبها مجددا. يفتقر العالم العربي الى هذه الصفة، فعلى رغم مروره بحروب متعددة منذ ستة عقود، جرى الامتناع عن تقويم هذه الحروب وقراءة الاسباب التي ادت الى الهزائم العسكرية التي مني بها العرب. يجري دائما تحوير مجريات الصراع بحيث تتحكم الشعارات والديماغوجية في قراءة الحروب، فإذا بنا امام منطق يصعب عليه الاقرار بالهزيمة واستخلاص الدروس منها، بل تتحول هذه الهزائم الى انتصارات لا يتورع الاله نفسه عن الدخول في حلبتها، لأن العرب “شعب يأبى الله له الانكسار”. من هنا تدخل الغيبيات دوما في النتائج، وتتحول الهزائم انتصارات الهية، وها نحن نسمع خطابا اليوم يكرر ما سمعناه في الحروب السابقة، وقد يصبح افدح في المستقبل القريب. فهل تشكل هذه الحرب ببشاعتها ومجازرها درساً للمجتمعات العربية لقراءة نفسها ومراجعة سياساتها بعيدا من الاوهام والنرجسية الفارغة؟ ¶