زجاج بيوتهم مقابل قتلانا
حسام عيتاني
لا تعطينا إسرائيل، باحتقارها لمآسي أطفالنا وأمهاتنا، إلا حق المطالبة بإنزال مآس مشابهة بها. وهي بإظهارها الجنون والقدرة على القتل من دون رحمة، لا تفعل إلا أن تغذي الجنون المقابل وتبرره.
لقد تجاوزت إسرائيل »عبء الرجل الأبيض« ومهمته التحضيرية للشعوب الملونة، وظهر من برر لها قتل المدنيين الذين »ربما« يخبئون أسلحة الإرهابيين في منازلهم وتحت أسرّتهم، على ما أفتى آلان ديرشوفيتز عالم القانون في جامعة هارفارد أثناء حرب تموز .٢٠٠٦ ويمكن الحديث مطولا عن الانتقال من الذهنية الكولونيالية الى السلوك الامبريالي وتصور إسرائيل لذاتها كجزء من عالم متحضر يقاتل المتوحشين الذين يأبون الانصياع الى صوت العقل والمنطق. ربما يكون ذلك سبباً من أسباب التأييد الدولي المخزي لاستمرار القتل العشوائي في غزة. وربما يصعب الدفاع عن قضية من يوصفون »بالمفجرين الانتحاريين«. بيد أن الأمرين ليسا متساويين. فالغباء لا يُقابل بالجنون.
تفيد عودة سريعة الى الأرقام بأن قطاع غزة دفع في أسبوعين، من الضحايا، ما يقل قليلا عن كل القتلى الإسرائيليين منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في العام .٢٠٠٠ في المقابل، يمكن العثور في وسائل الإعلام الإسرائيلية على قصص تتناول »الصدمة« والهلع اللذين يثيرهما صوت كل صاروخ من الصواريخ الغزاوية. كل ساعة في زاوية محصنة تم تسجيلها ونشرها كمعاناة إنسانية لا تطاق. يريد كتاب هذه القصص القول إن الأضرار التي تلحقها القذائف الصاروخية البدائية، تعادل تلك التي تنزلها الطائرات الحديثة بمنازل غزة المتصدعة وأزقة مخيماتها المتداعية.
الموافقة على مضمون هذا الكلام يعني أنه تجوز التضحية بحياة الإنسان الفلسطيني لمنع كسر زجاج منزل في سديروت. علامة المساواة بين هذين المعطيين تمثل ثمرة التفكير العنصري الشوفيني: اختلاف قيمة الدماء البشرية بين عرق وآخر. بين شعب ونظيره. بين إنسان وإنسان. ثمة من تحق له الحياة وآخر يليق به السحق وتقطيع الأوصال والضياع بين برادات المشرحة للبحث عن أشلاء أطفال وأقرباء ووهم حياة ضاعت وذكريات أحرقتها القنابل الذكية.
لم تعد المسألة تتعلق بالإرهاب والصواريخ والمقاومة والتحرير. وما من أحد يحق له اليوم التساؤل عن تأثير ما يجري في غزة على حدود الدولة الفلسطينية العتيدة. لم يعد مقبولا مجرد الحديث عن إجراءات وخطط واقتراحات، ما دامت القضية في مكان آخر. القضية تكمن في الاعتراف بشعوبنا وبإنساننا كشعوب وبشر، قبل محاسبتنا على أخطاء وزلات ونواقص نعترف بأنها كثيرة جدا عندنا. وأبعد من هذا، نعترف بأنها تقودنا من إخفاق الى فشل، ومن كارثة الى مصيبة.
يريد إيهود أولمرت وتسيبي ليفني أن يقنعانا بأنهما ورفيقهما إيهود باراك انما اضطروا الى إعلان حالة الجنون بعدما يئسوا من جدوى الحوار والوساطات الدولية مع »الإرهابيين«. لكن الثلاثي الحاكم اليوم، يعلم أنه بخطوته هذه أقفل عمليا باب السلام والمصالحة والقبول بالآخر أعواماً طويلة مقبلة. لا يبدو أن كلاما من هذا النوع يعني الكثير بالنسبة الى الحكومة الإسرائيلية ولا بالنسبة الى الرأي العام الإسرائيلي. ما يمكن الاطلاع عليه من ردود الفعل الشعبية الإسرائيلية يشير الى لامبالاة كاملة بقتل أبناء غزة وتدمير بيوتهم، بعد الإمعان في قطع أسباب الحياة عنهم.
السؤال هنا يكتسي تعقيدا مضاعفا. اذا كان الشارع الاسرائيلي قد تخلص من بقايا »معسكر السلام« الشهير، وانخرط في احتفال دموي يبيح فيه دماء الآخر وحقه في البقاء، مجرد البقاء في تلك الأكواخ البائسة، فما من ريب في أن تصوره للآخر قد انحط الى حدود الإنكار والإلغاء والنفي. ما يمنح الفلسطيني الحق السياسي والأخلاقي في تبني تقييم مقابل للإسرائيلي العادي. لقد انتهى السلام وتشرذم معسكره وعدنا عشرات الأعوام الى الوراء.
من البلاهة الانجرار الى لعبة تبادل المسؤوليات والاتهامات المتقابلة من إرهاب وعداء للسامية وكل هذا الفيض من الترهات. ليس فقط لأن الوقت غير ملائم لأي صنف من الألعاب، بل لأن المسؤوليات من الجسامة بحيث لا يمكن توزيعها وتقسيمها. كم سيكون بليغاً ذلك الدرس الذي تحمله تقارير لم تصدر بعد لمؤسسات إسرائيلية ويهودية تتحدث عن تعاظم نزعة العداء للسامية بين العرب والمسلمين في العالم. درس بليغ للإسرائيلي وللعربي على السواء في أن التاريخ يكرر نفسه مع التلامذة الفاشلين فقط.
لقد أخفق الجميع، وها هم يتهادون الموت، كما كان جاك دريدا ليقول.
أخيرا، رحم الله من قال: »لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون. أنت، منذ الآن، غيرك!«.
السفير