صبحي حديديصفحات سورية

قمّة دمشق: حضور عاطل يكمل الغياب الفاعل

null


صبحي حديدي

إذا كان العاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس المصري حسني مبارك امتنعا عن حضور قمة دمشق، التي تنعقد يوم غد في العاصمة السورية، استجابة للإملاءات الأمريكية (حيث أنّ واشنطن معادية للقمّة، أو أنّ القمّة معادية لواشنطن، سلفاً، كما يساجل البعض)؛ فهل الملوك والأمراء والرؤساء الذين سيحضرون هم، استطراداً، في عداد العصاة المنشقّين عن واشنطن، الرافضين لإملاءاتها؟
وفي متابعة هذا التمرين في المنطق الصوري المحض، هل يصحّ القول إنّ الحكومة اللبنانية هي وحدها العميلة لواشنطن بنسبة 100%، مادامت قد قاطعت القمة قطعياً، فلم ترسل مندوبها الدائم لدي الجامعة العربية (كما فعلت السعودية) أو وزير الشؤون البرلمانية (كما فعلت مصر)، لتمثيل رئيس لبنان العتيد الغائب؟

وفي الإستطراد ذاته، كيف يتمكن حاكم عربي من قول هذه الـ لا في وجه أمريكا، والإصرار علي حضور قمّة دمشق رغم أنف البيت الأبيض، وهو ذاته الحاكم العربي الذي ليس في وسعه نطق الـ لا إياها في ما يتّصل بوجود قواعد عسكرية أمريكية علي أراضيه، ثمّ استخدام هذه القواعد لقصف وحتلال بلد عربي شقيق، وربما ـ في غد، قريب أو بعيد ـ لشنّ حرب علي بلد جارٍ صديق؟ وإذا صحّ أنّ لكلّ مقام لا خاصة به، مختلفة مرنة مطواعة متقلبة، فما الذي يتبقي من معني في القول إنّ الـ لا الخاصة بقمّة دمشق ليست أكثر من تنويع لفظي صرف علي الـ نعم للقواعد العسكرية الأمريكية ولكلّ ما يمكن أن تشنّه من عمليات؟

الأبسط من تمارين المنطق الصوري هذه هو الذهاب إلي خلاصات المنطق البسيط، أيّ الإستناد إلي تراث الخطاب الرسمي العربي في البيانات الختامية لتسعة أعشار القمم السابقة، من حيث الإطناب في توصيف ما بذله حكّام العرب من جهد خلاق في سبيل حلّ المشكلات المستعصية (التي، بالطبع تظلّ مستعصية أو تزداد استعصاء في واقع الأمر)، أو من حيث التفخيم البلاغي للعلاقات الأخوية العميقة بين أنظمة شقيقة (نعرف، دون كبير عناء، أنّ العداء المضمر هو القاسم المشترك الأعظم بين معظمها، ضدّ معظمها). وهكذا لم يعد مدهشاً، جرّاء الإجترار والإعادة والإستعادة، أن يُصاب المواطن العربي بما يشبه التبلّد الذهني واللغوي، والسمعي ـ البصري أيضاً، إزاء ما يقرأ أو يسمع أو يبصر من خطابات الزعماء أثناء الجلسات أو في البيانات الختامية. وبات من تحصيل الحاصل أن يراهم المواطن العربي يتبادلون الإبتسامات علي شاشة التلفزة، فيستبصر الخناجر تُنتضي خلف الظهور، لطعن الشقيق أو للتلويح له بأنّ تحويل الإبتسامة إلي طعنة أيسر من طرفة عين!

ولعلّ الأيام القليلة القادمة سوف تحمل الكثير من تجليات هذا المشهد، وذاك الخطاب المكرور المجترّ المعاد المستعاد، خصوصاً وأنّ مؤسسة القمّة العربية لم تعوّد ناظريها علي أيّ سبق أو مفاجأة أو نقلة نوعية. وفي الإنتظار، من العدل استذكار قمّة بعينها، ليست عربية ـ عربية بل خليجية ـ أمريكية، عُقدت في ربيع العام 1996 في البحرين، وبحثت جملة من المسائل الحيوية ، الحيوية فعلاً هذه المرة، وليس قولاً وبلاغة فقط، لأنها كانت تخصّ الحياة التي لا تختلف كثيراً عن الموت البطيء، أو الموت حين يكون الوصف الأكثر واقعية لحالة العطالة العضوية، قبيل العدّ التنازلي باتجاه التدهور الشامل.

الحكمة العامة السائدة، أو تلك التقليدية التي ترسخت بعد حرب الخليج الثانية 1991 بصفة خاصة، كانت تقول التالي بصدد تراث العلاقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج:

1 ـ خلال عقود الحرب الباردة كانت ستراتيجية الأمن القومي الأمريكي تعتمد كثيراً علي مبدأ احتواء الخطر السوفييتي بمصطلح كوني تحظي فيه الدول الصديقة برعاية دفاعية وأمنية خاصة، وتتحمّل الاخيرة في المقابل سلسلة مسؤوليات تبدأ من أبسط أشكال المساندة الدعاوية ضد الخطر الشيوعي، ولا تنتهي عند القواعد العسكرية وما إليها من خدمات لوجستية قاعدية. وكانت أسباب عميقة موروثة (النفط، أمن إسرائيل، تعطيل أيّ مشروع نهضوي عربي…) تضفي أهمية كبري علي طبيعة هذه الدول الصديقة، وتستدعي نوعية خاصة من الفعل الإجرائي التكتيكي والستراتيجي.

2 ـ انتهاء الحرب الباردة أدخل تعديلاً جذرياً علي المصطلح الكوني لمبدأ الإحتواء، بحيث باتت البؤرة الإقليمية هي التصغير (المحسوب بدقة ميدانية عالية) للعالم القديم المنشطر إلي معسكرين وقطبين. ولم تجد دوائر البنتاغون ومجلس الأمن القومي الأمريكي عناء كبيراً في تشخيص بؤرتين كافيتين لاختصار المهمات الأكثر حيوية: الخليج العربي مضافاً إليه إيران والقرن الأفريقي، وشبه الجزيرة الكورية. وتلك النقلة في الستراتيجية دشنها جورج بوش الأب، ثمّ تابعها بيل كلينتون، قبل أن يُخضعها جورج بوش الابن لبعض التعديلات الطفيفة التي فرضها انفجار القوميات والإثنيات في المعسكر الإشتراكي السابق، فضلاً عن بلوغ فلسفة المحافظين الجدد ذروة عظمي في تأطير موقع أمريكا الإمبريالي في نظام العلاقات الدولية.

3 ـ أهمية النفط الخليجي كانت آخذة في التزايد، وهكذا تظلّ حالها بعد التطورات الدراماتيكية المتمثلة في اعتماد معظم الدول الغربية سياسة التخزين الستراتيجي للخام، وسحب ملفات حصص الإنتاج والأسعار من يد الدول المنتجة، وتلزيمها للأسواق والبورصات، فضلاً عن وضع منظمة الأوبك أمام أمر واقع لا يفرغها من مضمونها التنظيمي الذي قامت علي أساسه فحسب، بل يفقدها العديد من هوامشها التفاوضية أو أواليات الضغط التي لجأت إليها من قبل.

4 ـ القضايا المتصلة بأمن الخليج واستقراره ظلّت حيوية بذاتها، وبمعني لا يختلف كثيراً عن حسابات زمن القطبين الجبارين، ولكنها بعد الحرب الباردة باتت أكثر عرضة للتأثّر الحادّ بانشقاق إيران والعراق موضوعياً عن التوازنات السياسية لطور ما بعد عاصفة الصحراء ، والمشكلات الأخري الناجمة عن صعود التيارات الإسلامية، أو العجز عن السير بتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي حتي أشواط ملموسة متقدّمة. والعلاقة وثيقة بين إيران من جهة، وما يجري في الجزائر والبحرين والإمارات واليمن وجنوب لبنان من جهة ثانية.

تلك الحكمة التقليدية، التي انطوت علي الكثير من العناصر الأخري الأقلّ شأناً، كانت تعاني من ارتجاج عميق بفعل التبدّلات التي كانت تتسارع في المنطقة، ولهذا فقد جثمت مثل حجر ثقيل علي جدول أعمال مؤتمر مجلس التعاون الخليجي ـ الأمريكي ذاك (الذي حضره، إلي جانب الساسة والخبراء الستراتيجيين الأمريكيين، ممثلون عن أكثر من 200 شركة أمريكية ذات مصالح استثمارية مباشرة في الخليج). آنذاك كانت الأرقام تشير إلي أنّ دول مجلس التعاون الخليجي هي في طليعة كبري أسواق البضائع الأمريكية (21 مليار دولار سنوياً)، والإستثمارات الأمريكية في المنطقة بلغت 3,8 مليار دولار في عام 1994، ولائحة الديون الأمريكية (وبالتالي معدلات خدمة تلك الديون) دسمة وحافلة ومفتوحة.

ذلك كلّه أسهم في صياغة ما يشبه المسوّدة الخفية للحكمة الأخري غير التقليدية، تداولها الخبراء الأمريكيون طويلاً، وحدث أنها كانت تطفح بين حين وآخر في تصريحات عابرة أو غمغمة مبهمة حول هذه أو تلك من الشؤون الحساسة. وكانت أبرز تفاصيلها تقول، مثلاً:

1 ـ الخطر المحدق بأمن دول الخليج واستقرارها ليس من طراز تسهل إدارته أو ضبطه عن طريق إيفاد حاملات الطائرات وفيالق التدخل السريع، وهو قد لا يأتي من مصادر جلية معروفة (هاشمي رفسنجاني أو صدام حسين سابقاً، وأحمدي نجاد في ايامنا هذه). إنه، ببساطة، خطر التآكل التدريجي البطيء، ولكن المحسوس للغاية، التي قد يصيب البني الإقتصادية والسياسية لهذه الدول الصديقة الحليفة. وكان الخبير النفطي المعروف فاهان زانويان قد حذّر من أنّ هوس الولايات المتحدة بالتهديدات الخارجية التي يمكن أن تحدق بالأصدقاء، أو بالتدفق المستمر للنفط، أعمي بصيرتها عن رؤية 20 سنة من إجازة استجمام أعطتها دول الخليج لنفسها بعيداً عن السياسة والاقتصاد .

2 ـ شروط ذلك الإستجمام استولدت شروطاً أخري من الاستجمام بعيداً عن السياسة، ولم تشعر النخب الحاكمة (وهي نخب في نهاية المطاف) بأية حاجة إلي مشاركة السلطة مع أحد، أو تجديد شرعيتها ومصداقيتها، أو تحمّل أي نقاش علني عقلاني حول مسائل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

3 ـ وكما أنّ التخفيض العشوائي المتسرّع للنفقات ليس الحلّ الناجع لوقف نزيف الميزانية وارتفاع العجوزات إلي معدلات قياسية، فإن هيئات شكلية من نوع مجالس الشوري ليست أداة استبدال الحدّ الأدني من التعاقد بين الدولة والمواطن. ولعلّ التوافق بين انطواء صفحة الحرب الباردة وتنفيذ حرب الخليج الثانية، ثمّ تتمتها المنطقية التي آلت علي غزو العراق واحتلاله، كان وراء الانعتاق المفاجيء للقوي السياسية والاجتماعية التي بقيت طويلاً هامدة أو مستكينة. المعضلة أنّ تلك الصيغ لم تعد قابلة للتجميد في خانة الصراع مع الشيوعية (عدوّ صديقنا الصدوق، عدوّ العالم الحر، عدوّ الإسلام…)، أو التصريف في مسارب الرخاء الإقتصادي والنوم علي حرير المستقبل الآمن.

4 ـ تلك رمال متحركة تزحف حثيثاً للإلتقاء بسواها، في منطقة لا يسهل إغماض العين عنها برهة واحدة دون دفع ثمن فادح. وفي غمرة الزحف والالتقاء، كانت سيرورات إقليمية كبري (التيارات الإسلامية، التبعية الإقتصادية الجديدة، عملية السلام، الأحلاف التي تقطع أكثر من قوس أزمات واحد…) تحفر أثرها في الباطن العميق، وتهدد بنسف الجذور السفلي للنظام القديم برمته.

ذلك أسبغ علي قمة 1996 واجب الإستجابة المطلقة للضرورات الحيوية المتعاظمة، أو المتفاقمة، لأنّ أيّ تلكؤ لن تكون عواقبه أقلّ من محرّكات لتسريع موت بطيء، ولهذا فقد كان النجاح حليفها كما يلمس المرء في عشرات الآثار الجيو ـ سياسية التي أعقبت الحوار الخليجي ـ الأمريكي. وأغلب الظنّ أنّ الدول الخليجية التي تشارك في قمة دمشق غداً، لا تأتي بدافع من تلك العوارض الحيوية، لأنّ مشكلات لبنان وفلسطين والعراق لا تُعالج علي نحو أنجع إلا في أروقة أخري تتصدّرها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، ويحضرها رؤساء أجهزة الإستخبارات العربية قبل الساسة والدبلوماسيين. كذلك لا تشارك هذه الدول لأنها تناهض الرغبة الأمريكية في مقاطعة القمة (إذْ، غنيّ عن القول، إنّ هذه الرغبة محض خرافة، وإلا فإنّ عيناً لن تبصر أياً من زعماء العرب في جلسات القمّة!)، بل قد يكون العكس هو الصحيح: إنها هنا لأنّ توزيع الأدوار بين حليفات واشنطن، أي ما يُسمّي دول الاعتدال العربية، يقتضي غياب زيد وحضور عمرو، حيث لكلّ منهما ما يُناط به من أثر في الحضور، أو عاقبة في الغياب!

وما خلا الحمقي، مَن سيصدّق أنّ حضور أمير الكويت ورئيس وزراء العراق هو فعل نقيض لغياب ملك السعودية والرئيس المصري، وأنّ الفريق الأوّل يشقّ عصا الطاعة علي واشنطن، والثاني يحني الهامة صاغراً، لا لأيّ اعتبار آخر سوي أنّ هذه القمّة هي الأولي التي تشهدها دمشق في عهد الحركة التصحيحية ، نظام الإستبداد والفساد وأقنية التفاوض السرّية الذي يغدق علي ذاته صفات المقاومة والصمود والممانعة، ولهذا يتوجّب أن تكون، بالضرورة والقطع، أكثر قمم العرب عداءً للولايات المتحدة وللكيان الصهيوني؟

القدس العربي

28/03/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى